مع سقوط نظام الأسد طفت على السطح مسألة “الاتفاقيات والمعاهدات الإذعانية”، التي وقّعها النظام المخلوع مع حليفيه الروسي والإيراني خلال السنوات الماضية، وتضمنت تنازلات كبيرة في مختلف المجالات، ما أثار تساؤلات حول مصير هذه الاتفاقيات ومدى تأثيرها على مستقبل سوريا بعد رحيل النظام.
فأمام حاجة الأسد للحليفَين، وفتحه الباب واسعًا أمام تدخلاتهما العسكرية والسياسية، انطلق الحليفان لترسيخ أقدامهما على الأرض السورية أطول فترة ممكنة عبر البوابة الاقتصادية أيضًا، وتوقيع عقود استثمار طويلة الأمد ومجحفة في قطاعات حيوية مختلفة، من شأنها تكبيل البلاد ونهب مقدراتها.
اتفاقيات إذعان لطهران
نجحت إيران في الحصول على امتيازات كبيرة كان بعضها كمكافأة من النظام المخلوع على الدعم الذي قدّمته له عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، وبعضها الآخر كان بمثابة ضمان من إيران لتحصيل الثمن الذي قدّمته للنظام خلال سنوات الحرب.
حسب تقرير سابق نشره “نون بوست”، فإن الاتفاقيات التي فرضتها إيران على نظام الأسد المخلوع كانت تمثل ركيزة أساسية من ركائز الاستحواذ على ملف إعادة الإعمار، الذي تسعى إليه طهران عبر شركاتها، في محاولة منها لقطف ثمار دعم الأسد واستيفاء ديونها.
وجاءت تلك الامتيازات على شكل اتفاقيات بكل القطاعات الاقتصادية، وصلت بين عامَي 2011 و2024 إلى ما لا يقل عن 126 اتفاقية في مختلف القطاعات، مثل الطاقة والتجارة والصحة والتعليم والزراعة والصناعة والاتصالات والتمويل وغيره.
ومن بين تلك الاتفاقيات تم تنفيذ 43 اتفاقية، بينما لا تزال 47 قيد التنفيذ، وبلغ عدد الاتفاقيات تحت التنفيذ الجزئي أو المتقطع 25 اتفاقية، أما الاتفاقيات التي لم يتم تنفيذها فهي 4 اتفاقيات، بينما بلغ عدد الاتفاقيات غير المعروف مصيرها 7 اتفاقيات.
وسبق أن وقّع رئيس إيران السابق إبراهيم رئيسي خلال زيارته إلى دمشق في مايو/ أيار 2023 مع الأسد المخلوع، ما لا يقلّ عن 15 وثيقة تشمل العديد من الاتفاقيات الاقتصادية بين البلدين، إلا أن وثيقة سرية مسرّبة من مؤسسة الرئاسة الإيرانية، كشفت آنذاك أن طهران أنفقت ما يزيد على 50 مليار دولار خلال 10 سنوات على الحرب في سوريا، ويضمّ المبلغ المذكور 18 مليار دولار كان من المقرر أن يتم استردادها على شكل اتفاقيات واستثمارات اقتصادية بلا ضمانات للتنفيذ.
تشير دراسة لمركز جسور للدراسات، أن الاستثمارات الرابحة لإيران، والتي دفعتها نحو تفعيلها خلال السنوات الماضية، كانت في قطاعات التأمين والمطاحن والزراعة والصوامع والحبوب، وقطاع استثمار مناجم الفوسفات والتطوير العقاري بأنواعه في المدن الكبرى، إلا أن الملاحظ في الاتفاقيات ومذكرات التفاهم هو أن ما يمثل 10% منها، كان يتم العمل عليه أو تم العمل عليه، ما يعني أن عدد الاتفاقيات المنفّذة ضئيل نسبيًا.
روسيا وعقود الاستثمار
تشير البيانات التي جمعتها وحدة أبحاث الطاقة (مقرّها واشنطن)، إلى أن الشركات الروسية وقّعت سلسلة عقود واسعة النطاق مع نظام الأسد خلال فترة 2013-2024.
ويعتبر أهم العقود المبرمة بين الطرفين منح شركة “ستروي ترانس غاز لوجيستيكس” الروسية عقدًا مدته 50 عامًا، يعطيها حقوقًا في 70% من إيرادات المبيعات من أكبر مناجم الفوسفات في البلاد بالقرب من مدينة تدمر، والتي تنتج سنويًا نحو 650 ألف طن من الفوسفات، إضافة إلى استثمار لشراكة في إدارة وتوسيع وتشغيل مرفأ طرطوس وفق نظام عقود التشاركية بين القطاع العام والخاص المعمول به في سوريا، بقيمة نصف مليار دولار على مدى 4 سنوات لتطويره.
كما عقدت عدة شركات روسية اتفاقيات للتنقيب واستخراج النفط والغاز، إضافة إلى اتفاقيات ترميم وتطوير المنشآت النفطية، وعقود تنفيذ مشاريع لتوليد الطاقة واستخراج الثروات المعدنية، وسكة حديدية بين العراق وسوريا.
في ديسمبر/ كانون الأول 2019، أقرّ البرلمان السوري عقودًا جديدة للتنقيب عن النفط مع شركتين روسيتين مغمورتين، تحمل الأولى اسم ميركيوري إل إل سي (Mercury LLC)، والثانية فيلادا إل إل سي (Velada LLC)، وتغطي العقود الممنوحة لهاتين الشركتين التنقيب والإنتاج في 3 مربعات على مساحة 12 ألف كيلومتر مربع، تشمل حقل نفط في شمال شرق سوريا، وحقل غاز شمال العاصمة دمشق.
وفي عام 2020، أبرمت حكومة بشار الأسد اتفاقية جديدة مع شركة روسية جديدة تُدعى كابيتال ليمتد ليابيلتي (Kapital Limited Liability)، للتنقيب عن النفط في المربع البحري رقم 1، وتضمنت الاتفاقية حقوقًا حصرية للشركة للتنقيب عن النفط في المياه الاقتصادية لسوريا على مساحة تصل إلى 2250 كيلومترًا مربعًا، لمدة زمنية تتجاوز 30 عامًا، تنقسم إلى مرحلتين.
وتحدّث الأسد المخلوع في زيارته لروسيا في مارس/ آذار 2023، عن 40 مشروعًا استثماريًا وقّع في سياق التعاون مع موسكو في مجالات الطاقة والكهرباء والنفط والنقل والإسكان، وفي المجالات الصناعية.
قانونية العقود والاستثمارات
مؤخرًا أثارت تصريحات إيرانية على لسان المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي، الجدل، وفتحت باب تساؤلات واسعة، عندما أشارت إلى أن “المعاهدات الثنائية بين سوريا وإيران قائمة وستنتقل للحكومة القادمة وفقًا لاتفاقيات ومعاهدات تستند إلى مبدأ خلافة الدول، وهو مبدأ معتمد في القانون الدولي”.
بالمقابل، لا يزال الجانب الروسي ملتزمًا الصمت حيال حجم الاستثمارات والعقود الموقعة بينه وبين النظام المخلوع، وما إذا كانت روسيا ستطالب بتنفيذها أو شطبها، أو ستجابه برفض الحكومة الجديدة.
حسب “اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات” في المادة رقم 6، فإن رؤساء الدول، ورؤساء الحكومات، ووزراء الخارجية، هم ممثلون لدولهم بحكم وظائفهم وليسوا بحاجة لإبراز وثيقة التفويض الكامل، من أجل القيام بجميع الأعمال المتعلقة بعقد المعاهدة.
ويمكن التعبير عن رضا الدولة الالتزام بالمعاهدة بتوقيعها، أو بتبادل وثائق إنشائها، أو بالتصديق عليها، أو بالموافقة عليها، أو بقبولها، أو بالانضمام إليها، أو بأي وسيلة أخرى متفق عليها، ولذلك إن جميع التصرفات التي تعقدها حكومة النظام من اتفاقيات وعقود ومعاهدات دولية، بشرط عدم تعارضها مع الدستور، وإلى الوجود القانوني للسلطة التشريعية والتنفيذية، ومدى ملاءمة هذه الاتفاقيات للمصلحة الوطنية، فهي ملزمة لسوريا.
في حديثه لـ”نون بوست”، قال الحقوقي الدولي هيثم المالح، إن بشار الأسد ونظام حكمه منذ بداية الثورة سقطت شرعيته، وكل ما أبرمه من اتفاقيات مع الروس والإيرانيين باطل، ويمكن إبطاله عبر القضاء المحلي أو الدولي، بعد إثبات أنها عقود غير شرعية ووُقعت تحت منطق الإضرار بمصالح الدولة والشعب السوري، عدا عن أن الثروات الوطنية ليست ملكًا للسلطة بل ملك للسوريين.
ويضيف المالح أن الشعب يشكّل المصدر الذي تستمد السلطة الشرعية منه، ما يعني أنه ووفقًا للقانون الدولي فإن النظام السوري هو نظام فاقد للشرعية، كما أن الاتفاقيات هي ذات طابع تفريطي وإذعاني ومخالفة للدستور من جهة، ومن جهة أخرى إن السلطة الجديدة لا يمكنها أن ترث من السلطة البائدة تلك الالتزامات، لأنها ثارت عليها وخلعت نظامها في سبيل إقامة دولة تحترم حقوق وسيادة البلاد، وسلطة لا تعدّ امتدادًا لسلطة الأسد.
ومن المعلوم أن كل الاتفاقيات لم تنعكس منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011 على الاقتصاد الوطني والبنية التحتية والإعمار وتحسين معيشة السوريين، بل اُستعملت بغرض تثبيت نفوذ النظام المخلوع، وزيادة ثروته وثورة رموزه، وشراء أسلحة لقتل السوريين وتمويل عمليات التغيير الديموغرافي وتدمير الممتلكات العامة والخاصة.
يتفق عبد الناصر الحوشان، عضو هيئة القانونيين السوريين، في أن كل الاتفاقيات والعقود المبرمة بين النظام المخلوع والجانب الإيراني والروسي باطلة، وبطلانها يحتاج إلى دعوى أمام المحكمة الدستورية لإبطال مفاعيل آثارها القانونية.
مضيفًا لـ”نون بوست” أن تلك الاتفاقيات كان غرضها الأبرز قتل السوريين من جهة، ولحساب منتفعين من النظام المخلوع وليست ذات فائدة على الاقتصاد الوطني، بل على العكس تمامًا أضرّت بالاقتصاد الوطني وسبّبت تدهورًا قد يمتدّ لسنوات.
ختامًا، يبدو أن الاقتصاد السوري خلال المرحلة المستقبلية على موعد مع معركة قانونية دولية مع حليفَي النظام المخلوع روسيا وإيران، لإلغاء العقود والاتفاقيات التي أبرمها النظام المخلوع، خاصة أنه لم تمضِ أيام على سقوط النظام حتى صرحت إيران برغبتها في انتقال كل الاتفاقيات والعهود إلى النظام السياسي الجديد، في ظل نزيف اقتصادي تعاني منه سوريا كانت إيران سببًا رئيسيًا فيه.