لا يمثل الاحتفال بالأعياد في مصر مجرد عادة دينية يقدم عليها المسلمون في شتى بقاع الأرض، ولكنها من السمات الثقافية للبلاد منذ عصر الآلهة المصرية القديمة، إذ دون المصريون اهتماماتهم وطقوسهم على النقوش الجدارية داخل المعابد، وكان الفراعنة يشعلون الفحم والبخور ويقدمون القرابين ويرتدون الملابس الجديدة في الأعياد، وتطورت الاحتفالات على مدار الزمن وتعدد الحضارات والأديان، حتى أصبح لكل محافظة مصرية مدرسة خاصة في الاحتفال بالأعياد وخاصة عيد الفطر.
العيد في مصر القديمة
القاهرة.. العيد على مقاس المنطقة
في القاهرة يختلف العيد باختلاف المنطقة وحداثتها أو قربها من المناطق التاريخية، وإن كانت العاصمة في السنوات الأخيرة لم تعد كما كانت على مر تاريخها في الاستعداد للاحتفال بالعيد، لا تختلف المناطق الشعبية بالقاهرة كثيرًا عن أجواء المحافظات، لارتباط النازحين للقاهرة بسلوكيات عائلاتهم في الريف والأقاليم، ما يجعل هناك ارتباطًا طقوسيًا مع عادات تعودوا عليها، سواء من تربوا بالقاهرة من صغرهم وعاشوا نفس العادات مع أسرهم النازحة من الريف، أم المغتربين بها الذين توطنوا في القاهرة دون أن يتخلوا عن عاداتهم وأسلوبهم في الحياة.
يتوجه القاهريون لأداء صلاة عيد الفطر في الساحات والمساجد التاريخية، ثم تجتمع الأسر على وجبة الإفطار بالمنزل الكبير للعائلة، وفي الغالب يتم الانتظار لتناول الغداء، على أن يتخلل ذلك لعب الأطفال وحكاوي الذكريات والتسامر مع الأهل، ويكون “الكحك” بأنواعه الطبق الأفضل للعاصمة، ودائمًا ما يشهد تطورات كبيرة ويزحف منها على المحافظات، خاصة أن القاهرة كانت أول مدينة تتخلى منذ سنوات عن صناعة الكحك بالمنزل، ولجأت الأسر في المقابل إلى شرائه من المحلات الشهيرة التي تتفنن في إضافة الجديد له كل عام، ما يضيف إليه الكثير من المذاق الرائع والمختلف.
كحك العيد في القاهرة
بعد الانتهاء من صلاة العيد، يخرج الشباب والأطفال للاحتفال والتنزه في الحدائق والملاهي والمراكب النيلية، وتزدحم المطاعم والشوارع بالمحتفلين من كل الأعمار، ولا تزال “العيدية” من أوراق النقود الجديدة تمامًا السمة الأبرز للمصريين في القاهرة، وتختلف قيمتها حسب السن، والبعض يحتفظ بها ولا يفرط فيها ويضعها تذكارًا عن الطفولة والصبا لأطفاله بعد أن يعطيهم بديلاً لها، ليتذكروا هذه الأيام ومن كان يحتفل معهم بالأعياد والمناسبات من أهاليهم وأقربائهم.
الصعيد.. مزاق مختلف بالأصالة
تختلف عادات الصعيد باختلاف المدينة وخصوصياتها التاريخية والجغرافية، فالأقصر على سبيل المثال من البلدان التي لم تغير عاداتها منذ القدم حتى الآن، يبدأ الاحتفال بعيد الفطر بنزوح الأهالي على المعابد والآثار التاريخية بالمحافظة المعروفة بثرائها بالمنشآت السياحية والآثار الفرعونية، من معبد الأقصر إلى الكرنك، مرورًا بمعبد الملكة حتشبسوت وطريق الكباش.
حديثًا أصبح الأطفال يتوجهون بصحبة الأسر إلى الملاهي الحديثة التي انتشرت في جميع أنحاء المحافظة، بجانب التنزه على كورنيش النيل وفي المراكب النيلية، والبعض يفضل ركوب الحناطير والاستمتاع بالتجول في شوارع مدينة الأقصر.
ولا يختلف أهالي الأقصر عن باقي المصريين في الاحتفال بالعيد منذ الصباح، بزيارة المقابر وتوزيع الكحك والمخبوزات والفواكه على الفقراء والمساكين الموجودين بمحيط القبور صدقة على أرواح موتاهم.
احتفالات قصور الثقافة في الأقصر بعيد الفطر
محافظة قنا التي تبعد عن القاهرة بنحو 600 كيلومتر، ما زالت قلعة التقاليد العتيدة التي لم تؤثر فيها تقلبات الزمن، إذ تتميز بطابع مختلف للغاية لدرجة أن بعض المهتمين بالسياحة يجدون فيها حالة خاصة جدًا، ومن المفيد للمحافظة ماديًا واجتماعيًا فتح القرى الصعيدية للسياحة الداخلية والخارجية في هذه الأوقات للانفتاح على الثقافة الصعيدية الأصيلة في مصر.
يا عربان الشرق.. أفراح عيد الفطر مع عمدة الطرب الصعيدي محمد البنجاوى
قبل العيد بنحو شهر ونصف، يبدأ الاستعداد بتفصيل “جلابية جديدة”، يتساوى في ذلك الجميع، كبار سن والأطفال والشباب، وتقف الحالة الاجتماعية على الإخراج النهائي لنوعية التفصيل، سواء كانت بلدي أم ربع ياقة، والأخيرة تتكلف كثيرًا لأن الترزي يقف على صناعتها بشكل يدوي، دون أن يدخل فيها ماكينات الخياطة، أما البلدي، فتأخذ نفس الطابع الأصيل للمدينة وللزي الصعيدي، ولكنها تستغرق وقتًا أقل، وقماشتها تكون أقل سعرًا، وكذلك التفاصيل المستخدمة في حياكتها.
ومثلما يكون الجلباب رمزًا لبهجة العيد بين الصعايدة، قد يكون مصدر للكآبة وتعكير المزاج، إذا حدث تزاحم على خياط بعينه، ولم يستطع الانتهاء من الثوب في الوقت المناسب، بما يعني أن ميعاد الاستلام سيتأخر، وقد يضيع على صاحب الثوب بهجة العيد، ما يضطر بعضهم إلى التضحية ببعض القطع المهمة، والمناسبة للتباهي الاجتماعي بإظهارها مثل “الصديري” الخاص بالجلابية، بينما يكون الخيار البديل للبعض الاستغناء عنها مؤقتًا واللجوء لثوب قديم، قد يصبح مصدرًا للتعاسة والضيق، إذا ما استقبل الأهل والأقارب والأصدقاء في العيد بثوب قديم، بما يدل على عدم الرفاهية أو ضيق الحال.
في الصعيد أيضًا، وبما أنه كان لفترات طويلة طارد للعمالة خارجه، يصبح العيد فرصة عظيمة لعودة الأبناء إلى أسرهم، والاحتفال هنا يكون له طقوس خاصة، إذ تجهز العائلات حسب أوزانها الاجتماعية “المندرة” الخاصة بهم ـ صالون الضيوف ـ سواء لاستقبال المغتربين بالقاهرة والإسكندرية والمحافظات الآخرى، أم المهاجرين بالدول الخليجية والأوروبية، وفي المندرة يجتمع كبار العائلة وشبابها، لاستقبال الزائرين على مدار الأيام الثلاث للعيد، وبعض العائلات الأرستقراطية والحاكمة، تطلق أعيرة نارية في الهواء احتفالاً بكبار الضيوف من الأعيان ورجال السلطة المهنئين بالعيد.
وبجانب هذه الطقوس، يبقى المزمار الصعيدي وركوب الخيول من العادات الأثيرة في الصعيد لكُبار السن، ويدخل أبناء العائلات المختلفة في مسابقات محمومة بالساحات لإظهار مهاراتهم في استخدام العصا والخيول على أنغام المزمار.
لعبة التحطيب تمارس في الأعياد بالجلباب البلدي
الدلتا.. العيد بطريقة أخرى
تختلف طقوس عيد الفطر في محافظات وقرى الدلتا عن الصعيد، وإن كانت الكثير من المظاهر الاحتفالية تأثرت كثيرًا بارتفاع الثقافة والتعليم، وخاصة كلما كانت المحافظة قريبة من القاهرة أو الإسكندرية، وتزحف للحداثة بشكل أو بآخر، مما يؤثر على زعزعة مدرسة الطقوس التاريخية في الأعياد والمناسبات.
تبقى بعض المظاهر المرتبطة بالأعياد خالدة ولا تتغير، منها زيارة القبور وخاصة لكبار السن، وعمل المخبوزات بأنواعها
يتوجه الأطفال فجرًا إلى المحلات لشراء الألعاب، وتتنوع كل عام حسب المعروض، وإن كانت أصبحت أكثر إزعاجًا من ذي قبل، بسبب ضخ مجموعات من الألعاب القتالية والصواريخ شديدة الصوت، بعكس سنوات ماضية، كانت تنتشر فيها الآلات الموسيقية بأنواعها والعرائس والألعاب البسيطة.
وتبقى بعض المظاهر المرتبطة بالأعياد خالدة ولا تتغير، منها زيارة القبور وخاصة لكبار السن، وعمل المخبوزات بأنواعها من كحك العيد للبسكويت والفطير المشلتت والعيش البلدي والبكاكين والقُرص، وغيرها من المخبوزات التي تختلف من عائلة لأخرى ومن منزل لآخر، حسب المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وغالبًا ما يتم الاستعداد لكل هذه المظاهر وإنجازها قبل ليلة العيد بيومين على الأكثر حتى تكون المنتجات طازجةً.
بجانب الكحك والمخبوزات، لا يخلو منزل تقريبًا من واجبات الضيافة الأخرى مثل الترمس والحلبة والفول السوداني والحمص، ويتم تناولها وتقديمها للزائرين طوال أيام العيد، بجانب الخروج بشكل جماعي لأداء الصلاة في الساحات والخلاء، باعتبارها سنة عن النبي، بينما يكتفي كبار السن بأداء الصلاة في المساجد القريبة نظرًا لحالتهم الصحية التي لا تسمح لهم بقطع مساحات كبيرة للصلاة في الساحات والعودة.
الشوارع في العيد بالمحافظات المصرية
الإسكندرية.. صلاة العيد والموالح والفسيخ يكفي
في الإسكندرية منارة العلم والفكر والدين، تختلف الطقوس جذريًا من قوائم الطعام إلى شكل الاحتفال بعيد الفطر، إذ يتناول أبناء المحافظة الفلافل والرنجة والفسيخ والجبنة الرومي بالأماكن العامة والشوارع المعروفة، ويزدحم كورنيش الإسكندرية حتى الفجر في سيموفونية حضارية نادرة.
الأجواء شديدة الحرارة لا تجعل الإسكندرانية يهجرون أطعمتهم المفضلة في العيد، التي تنتمي إلى قوائم الموالح الشديدة، ما يسبب لهم الكثير من العطش وأكثر الذين يحتفظون بطقوس المحافظة، منطقة بحري العريقة وأحياء محرم بك ومحطة مصر وكرموز وغيط العنب والعامرية والعجمي والمندرة.
رغم الأزمة السياسية التي شهدتها البلاد مع تيارات الإسلام السياسي، لم تتأثر الحشود الراغبة في صلاة العيد بنفس النكهة القديمة
وتمتد الطقوس السكندرية في الاحتفالات بعيد الفطر، إلى عصور قديمة توارثتها الأجيال، بعضها اختفى تدريجيًا، كما هو الحال في الكثير من المنازل المصرية، مثل عمل الكحك بالمنازل التي تنفرد بها القرى والأحياء الشعبية حتى الآن، وتبادل أطباق الهدايا مع الضيوف، بينما تظل الصلاة في الخلاء والميادين الكبرى والساحات أمام البحر، من أهم وأفضل عادات الإسكندرانية حتى الآن، التي لم تندثر أو تتغير.
ورغم الأزمة السياسية التي شهدتها البلاد مع تيارات الإسلام السياسي، لم تتأثر الحشود الراغبة في صلاة العيد بنفس النكهة القديمة، وفيها توزع الجهات المنظمة للصلاة، الهدايا على الأطفال والعصائر على المصلين من الرجال والنساء، وجميعها أجواء تنفرد بها الإسكندرية.