شكلت العلاقة بين إيران والتنظيمات المسلحة بمختلف تلوناتها الأيديولوجية والمذهبية والطائفية، إستراتيجية عامة لم تحد عنها إيران منذ العام 1979، من أجل تحقيق الغاية الإيرانية العليا في التأثير والسيطرة على مختلف التفاعلات والتوازنات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط.
ويبدو أن الرغبة الإيرانية ذهبت إلى أبعد من اقتصار رعايتها السياسية والأمنية على حركات معينة كحزب الله اللبناني أو حركة الإخوان المسلمين أو غيرها من الميليشيات المسلحة الناشطة في مختلف المسارح الأمنية في الوقت الحاضر، لتشمل حركات أخرى مصنفة أمنيًا كعدو لها، إلا أن توافق المصالح الأمنية المشتركة جعل إيران تمد جسور التواصل معها.
والحديث هنا عن العلاقة بين إيران من جهة، والتنظيمات السلفية المتمثلة بالقاعدة وداعش من جهة أخرى، لتوضح صفحة خفية أخرى من صفحات الإستراتيجية الإقليمية الإيرانية.
مرّت العلاقة بين إيران وتنظيم القاعدة بثلاث مراحل:
الأولى: 1992- 2001
-المنسق في تلك الفترة كان عماد مغنية، اغتالته “إسرائيل” عام 2008، وأثمر دوره عن لقاء تاريخي جمع أسامة بن لادن وحسن الترابي وعماد مغنية، وممثل إيران محمد باقر ذو القدر رئيس هيئة أركان الحرس الثوري آنذاك.
-تكوين خريطة لتنظيم القاعدة مع التنظيمات الأخرى.
-اتسمت المرحلة بتبادل المصالح بين القاعدة والنظام الإيراني.
-السماح باستخدام الأراضي الإيرانية بمقابل مادي.
-نجحت إيران في بناء علاقة ثقة مع القاعدة عبر وسطاء لابن لادن شخصيًا.
الثانية: 2001- 2011
-احتواء وتوظيف إيران لتنظيم القاعدة.
-تعدّت مسألة عبور مقاتلي القاعدة إلى حمايتهم.
-توفير معسكرات التدريب.
-تنفيذ عمليات خارجية من داخل إيران.
الثالثة: ما بعد 2011
-التخلص من قيادات القاعدة بعد مقتل بن لادن في 2011.
-يستهدف تحقيق مصالح إيرانية مع دول العالم.
-استخدام رموز القاعدة كورقة في المقايضات.
طلبت إيران من القاعدة حماية المراقد الشيعية في العراق، وأنها ليست ضمن الأهداف المراد ضربها، وما يحدث نتيجة التخبط الحاصل هناك، وأن “العمدة” ويقصد به ابن لادن وأصحابه غير راضين عن استهداف تلك المراقد
إذ أثارت الوثائق التي كشفتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وقالت إنها حصلت عليها من منزل زعيم القاعدة أسامة بن لادن، عقب مقتله في مدينة آبوت آباد بباكستان 2011، التي نشر التنظيم نسختها الأصلية باللغة العربية، بينما ترجمت الوكالة الوثائق الـ133 التي كشفتها إلى اللغة الإنجليزية، المزيد من اللغط بشأن العلاقة بين القاعدة وإيران، وكان من أبرز المراسلات تلك التي بعث بها ابن لادن إلى “الأخ توفيق”، الذي يُعتقد أنه قيادي من جماعة “الجهاد” المصرية، بحسب أصوليين في لندن، حيث كان من اللافت تركيز عدد كبير منها مما تضمنته الوثائق – التي كتبها ابن لادن أو قيادات بالتنظيم – عن إيران وطرق التعامل معها، باعتبارها ممرًا آمنًا للرسائل والأموال والأسرى.
إذ أثبتت وثائق الاستخبارات الأمريكية، المشار إليها أعلاه، ومنها الوثيقة التي كتبها أسامة بن لادن إلى الأخ توفيق بين الجانبين، أي إيران والقاعدة، التعاون المشترك بينهما الذي طال لسنوات عدة، وحث فيها ابن لادن على عدم فتح جبهة ضد إيران، حيث طلبت إيران من القاعدة حماية المراقد الشيعية في العراق، وأنها ليست ضمن الأهداف المراد ضربها، وما يحدث هو نتيجة التخبط الحاصل هناك، وأن “العمدة” ويقصد به ابن لادن وأصحابه غير راضين عن استهداف تلك المراقد، وأن الإيرانيين أصبحوا غير راضين عن أي شيء في العراق، عن طريق الموالين لهم أو بطريق مباشر، ويريدون التعاون ولكن بعد الحصول على تطمينات.
وصدرت عن مؤسسة IHS Markit Global Headquarters لاستشارات الدفاع والمخاطر والأمن مقالة بعنوان “تحالف مستبعد: علاقة إيران السرية بتنظيم القاعدة” لدانيال بايمان الأستاذ في برنامج الدراسات الأمنية في جامعة جورج تاون ومدير الأبحاث في مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط بمؤسسة بروكينغز، وتدور المقالة حول علاقة إيران بتنظيم القاعدة من حيث طبيعتها وتطورها ومظاهر التعاون والصدام فيها، وهي العلاقة التي أوضح بايمان أن إيران تضفي عليها نوعًا من السرية، على عكس علاقتها بجماعات إرهابية أخرى تقدم لها دعمًا ماديًا وعسكريًا ولوجيستيًا.
تمكنت إيران من توظيف الصراع بين جماعة بوكو حرام التي بايعت تنظيم داعش، والطائفة الشيعية هناك، ولكون أتباع المذهب الشافعي أقلية هناك فقد تعرضوا لعمليات قتل من هذه الجماعة
فمن وجهة نظر دانيال بايمان أن البراغماتية الإيرانية مكنتها من تجاوز الكثير من الخطوط الحمراء في سياستها الخارجية، ولعل علاقة إيران بحماس والقاعدة ومن ثم داعش، خير مثال على ذلك، فكما هو معلوم أن المقاتلين الأوائل لتنظيم القاعدة وعلى رأسهم أبو مصعب الزراقاوي دخلوا إلى العراق عن طريق مدينة السليمانية المحاذية لإيران قادمين من أفغانستان، فبعد التدخل العسكري الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان 2001، هرب معظم قادة تنظيم القاعدة إلى إيران، الذين سمح لهم بالبقاء في المناطق الحدودية مع إيران، ويمكن حصر الأهداف الإستراتيجية الإيرانية مع تنظيم القاعدة بالخطوط الآتية:
-ورقة تفاوضية جديدة في الشرق الأوسط.
-فرض شرعية لتدخلها في الشؤون الداخلية لدول الجوار تحت ذريعة حماية المقدسات والدفاع عن المذهب.
-توظيفها في صراعها مع الخصوم، ولعل التوظيف الإيراني لحركة طالبان الأفغانية خير مثال على ذلك.
-أداة لمواجهة النفوذ الأمريكي المتصاعد في مياه الخليج العربي، وذلك من خلال فرضية الجهاد البحري، التي سمحت لإيران بمد جسور التعاون مع حركة الشباب الصومالي، التي تمثل فرع تنظيم القاعدة في منطقة القرن الإفريقي.
-أداة لنشر التشيع الإيراني في إفريقيا، والنموذج الأوضح هنا نيجيريا، إذ تمكنت إيران من توظيف الصراع بين جماعة بوكو حرام التي بايعت تنظيم داعش، والطائفة الشيعية هناك، ولكون أتباع المذهب الشافعي أقلية هناك فقد تعرضوا لعلمليات قتل من هذه الجماعة، حيث أشرت الكثير من المصادر إلى تحول أغلب أتباع المذهب الشافعي إلى شيعة، كونهم أصبحوا أقلية مقابل النفوذ المتصاعد للطرفين الآخرين.
استمرت الشبكات نفسها في تمكين المقاتلين الأجانب من السفر إلى العراق عن طريق سوريا، وعاد هؤلاء الجهاديون إلى أوروبا لتنفيذ عمليات إرهابية مثل اعتداءات باريس وقبلها الهجوم على مكاتب مجلة شارلي إيبدو
هذه الحقيقة في العلاقة بين إيران والقاعدة ظهرت عقب الخلاف بين تنظيم داعش والقاعدة، وجاءت على لسان المتحدث باسم تنظيم داعش أبو محمد العدناني، في تسجيل صوتي رد فيه على بيان زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، التسجيل الذي حمل اسم “عذرًا أمير القاعدة”، وكشف علاقة القاعدة بإيران، وأن طهران كانت تساعد القاعدة في تسهيل إيصال الإمدادات لمقاتليها، كما اعترف تنظيم داعش بتغاضيه عن إيران، امتثالًا لتوجيهات القاعدة، كما نفت داعش في بيانها أن تكون تابعة للقاعدة، وقال: اجتهد الكثيرون في تفسير وتأويل بيان أمير تنظيم القاعدة أيمن الظواهري الأخير، فلم يسم الظواهري الأشياء بأسمائها، فضلًا عن التناقض فيما ورد في البيانات والتصريحات السابقة له، وخاصةً فيما يخص تبعية “الدولة الإسلامية” لتنظيم القاعدة، حيث نفى العدناني مبايعة تنظيم داعش للقاعدة، مؤكدًا بقوله “لم نبايع في يوم من الأيام تنظيم القاعدة”.
وكشف العدناني في تسجيله أن داعش لم يضرب في إيران تلبية لطلب القاعدة وللحفاظ على مصالحها وخطوط إمدادها، مضيفًا سيسجل التاريخ أن للقاعدة دينًا ثمينًا في عنق إيران، و”الدولة الإسلامية” تغاضت عن إيران، وكبحت جماح جنودها، امتثالًا لتوجيهات وطلب قادة القاعدة، رغم قدرتها على تحويل إيران إلى بركة من الدماء.
في أعقاب مقتل مغنية عام 2008 أصبح العديد ممن تدربوا على يده قادة كبار في حركتي حماس والجهاد الإسلامي في الأراضي الفلسطينية، وفي لبنان أصبح تلاميذه مهندسي إستراتيجية حزب الله في سوريا، وفي العراق أصبحت الميليشيات المسلحة التي تدربت بإشرافه تختزل الساحة السياسية العراقية، وفي هذه الأثناء تحولت نظيرات هذه الميليشيات السنية التي ساعدها واحتضنها مغنية إلى تهديد إرهابي عالمي اسمه تنظيم داعش، إذ كانت الخلايا التي زرعها مغنية في أوروبا تتولى إرسال جهاديي القاعدة من أوروبا إلى العراق وأفغانستان خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، واستمرت الشبكات نفسها في تمكين المقاتلين الأجانب من السفر إلى العراق عن طريق سوريا، وعاد هؤلاء الجهاديون إلى أوروبا لتنفيذ عمليات إرهابية مثل اعتداءات باريس وقبلها الهجوم على مكاتب مجلة شارلي إيبدو.
ويرى محللون أن البحث عن حلول في مواجهة هذا التهديد يجب ألا يقتصر على الضاحية الجنوبية في باريس أو ضاحية مولنبيك الفقيرة في بروكسل، بل يجب أن يمتد إلى علاقة حزب الله بتجارة الماس في غرب إفريقيا، وشبكات تهريب المخدرات في أمريكا اللاتينية، والعديد من الأسواق السوداء في جنوب شرق آسيا، وعندما مغنية انتقلت الراية إلى تنظيم داعش.
ما يدلل على العلاقة الوثيقة بين تنظيم داعش وإيران، ما كشفته صفقة نقل عناصر تنظيم داعش من القلمون الغربي في الحدود اللبنانية السورية، إلى مدينة دير الزور على الحدود العراقية السورية في 29 من أغسطس 2017
ورغم علامات الاستفهام التي أفرزتها الهجمات التي وقعت في إيران في يونيو 2017، التي أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عنها، فمن جهة أخرى أشارت إلى سعي إيران لتوجيه رسائل للإقليم والعالم، بأنها هي الأخرى عرضة للهجمات الإرهابية، التي أخرجتها بسيناريو واضح جدًا، خصوصًا أن الهجمات جاءت بعد فترة وجيزة من مؤتمر الرياض في مايو 2017، الذي حمل إيران مسؤولية تصاعد الاستقطاب الطائفي في المنطقة، إلى جانب مسؤوليتها في دعم الجماعات الإرهابية في المنطقة.
وبالتالي يمكن القول إن إيران تحولت إلى توظيف تنظيم داعش لخدمة أغراضها الإعلامية والدعائية في المنطقة والعالم، والسؤال المركزي الذي يطرح هنا لماذا لم تحدث في إيران هكذا هجمات قبل مؤتمر الرياض؟ ففي الوقت الذي شهدت فيه المنطقة العربية هجمة شرسة من تنظيمي القاعدة وداعش، لم تسلم منه أغلب الدول العربية، كانت إيران تنعم بأمن حتى وقت وقوع الهجمات، ما يستدعي منا التوقف عند هذه التساؤلات جيدًا.
ما يدلل على العلاقة الوثيقة بين تنظيم داعش وإيران، ما كشفته صفقة نقل عناصر تنظيم داعش من القلمون الغربي في الحدود اللبنانية السورية، إلى مدينة دير الزور على الحدود العراقية السورية، في 29 من أغسطس 2017، فإيران وعلى الرغم من رفعها شعار محاربة داعش في الشرق الأوسط، فإنها حتى اللحظة لم تدخل في أي مواجهة عسكرية مسلحة مباشرة مع عناصر هذا التنظيم، وكل ما يحصل هو مواجهات غير مباشرة بأدوات عراقية سورية لبنانية، ما يشير إلى عمق العلاقة بين الطرفين، من خلال الفائدة المشتركة بينهما.
فإيران تعتاش على ضحايا التطرف الإرهابي الذي يفرزه تنظيم داعش، في حين يستغل التنظيم السياسات المذهبية الإيرانية في العراق والمنطقة، من خلال تجنيد وتسخير الكثير من الحواضن الاجتماعية له، والخاسر الوحيد هم شعوب المنطقة.