بعيدًا عن تركة الفساد والدمار التي خلفها نظام بشار الأسد المخلوع، والذي أدخل سوريا في قائمة الدول الأسوأ للعيش في العالم، وما نتج عن ذلك من انهيار في كافة المجالات الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، يشكّل ملف إدراج هيئة تحرير الشام على قوائم الإرهاب الأمريكية والأوروبية تحديًا كبيرًا أمام الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، الذي كانت الولايات المتحدة قد خصّصت مكافأة مالية قدرها 10 ملايين دولار لأية معلومات تؤدي إلى القبض عليه، بعد أن صنّفت الهيئة ضمن قوائم الإرهاب عام 2013.
ولطالما أكدت تحرير الشام التي أعلنت فكّ ارتباطها عن تنظيم القاعدة عام 2016، أنها نأت بنفسها عن الجماعات الإسلامية المتطرفة في محاولة لطمأنة المجتمع الدولي.
وكانت الهيئة أطلقت على نفسها تسمية “جبهة النُّصرة” عند تأسيسها عام 2012، ثم سُمّيت بـ”هيئة فتح الشام”، ثم أصبحت “هيئة تحرير الشام”، والتي حكمت إدلب وأجزاء من أرياف حلب واللاذقية منذ سنوات، ولديها جناح سياسي مدني يُسمّى “حكومة الإنقاذ السورية”.
وبينما أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أن الولايات المتحدة ستعمل مع المعارضة في سوريا على اغتنام الفرصة التي أُتيحت بعد الإطاحة بالأسد، يبرز تساؤل حول استعداد واشنطن لإزالة هيئة تحرير الشام وزعيمها الشرع من قوائم الإرهاب من جهة، وعن الخطوات التي يجب على الهيئة اتخاذها لتصل إلى هذا الهدف.
أمريكا تدرس الموضوع
كشف مسؤولون أمريكيون أنهم يدرسـون رفع تصنيف هيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية إذا أظهرت الجماعة حكمها بطريقة “شاملة” ومسؤولة، مشيدين بوعود القائد العام للإدارة الجديدة في سوريا أحمد الشرع.
وجاء ذلك خلال لقاء جمع الشرع ووفدًا أمريكيًا في العاصمة دمشق برئاسة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف، الجمعة 20 ديسمبر/ كانون الثاني الجاري، بحسب ما أفادت به صحيفة “واشنطن بوست”.
وكخطوة اعتبرها مراقبون تحمل إشارة إيجابية على نية واشنطن رفع تحرير الشام من قوائم الإرهاب، أعلنت ليف عن إلغاء المكافأة المالية البالغة 10 ملايين دولار التي كانت مرصودة لأي معلومات تؤدي للقبض على أحمد الشرع.
وأكدت ليف في زيارتها إلى دمشق أن القرار تمّ اتخاذه في سياق سياسي جديد يعكس تغير الأولويات الأمريكية في سوريا، مشيرة إلى أن الاجتماع مع الشرع كان “جيدًا” ويركز على الانتقال السياسي في البلاد وضمان القضاء على التهديدات الإرهابية.
وحسب الصحيفة أن واشنطن تدرس رفع هيئة تحرير الشام من قائمة المنظمات الإرهابية إذا أظهرت الجماعة أنها ستحكم سوريا بطريقة شاملة ومسؤولة، ومن المرجّح أن يقع مثل هذا القرار على عاتق الإدارة القادمة للرئيس المنتخب دونالد ترامب، وقد يستغرق تنفيذه شهورًا أو أكثر.
من ناحيته، طالب ماثيو ليفيت، الخبير بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، ومدير برنامج مكافحة الإرهاب والاستخبارات بالمعهد، الإدارة الأميركية بالحذر والتأنّي بشأن رفع العقوبات عن هيئة تحرير الشام وزعيمها الشرع، وأكد في تقرير نشره المعهد، ضرورة “أن يحدث هذا التحرك فقط مقابل مخرجات واضحة”.
هل تكون تحرير الشام شريكة في محاربة الإرهاب؟
رغم إعلان تحرير الشام فكّ ارتباطها بتنظيم القاعدة عام 2017، وما رافق ذلك من رسائل مبكرة تتضمن الابتعاد عن فكرة التطرف، وسعيها لأن تكون جماعة سورية محلية، ويضاف إلى ذلك مساهمتها في محاربة تنظيم “داعش” وبعض التنظيمات المتطرفة مثل “حرّاس الدين” أثناء إدارتها لمحافظة إدلب؛ أعربت العديد من الجهات الغربية عن تخوفها من أن تصبح سوريا الآن ملاذًا لمزيد من جماعات القاعدة أو تنظيم “داعش” بعد سقوط نظام بشار الأسد.
ويبدو أن الإدارة السورية الجديدة بإدارة الشرع قد أدركت هذا الجانب، من خلال المحادثات مع باربرا ليف في زيارتها إلى دمشق، إذ رحّبت ليف بـ”الرسائل الإيجابية” التي أعرب عنها الشرع خلال المحادثات، وتضمّنت تعهُّدًا بمحاربة الإرهاب، وأوضحت ليف للصحافة بعد لقائها الزعيم الجديد في دمشق أن “الشرع التزم بذلك”.
وقالت ليف إنها أبلغت الشرع بـ”الحاجة الملحّة لضمان عدم قدرة الجماعات الإرهابية على تشكيل تهديد داخل سوريا أو خارجها، بما في ذلك على الولايات المتحدة وشركائنا في المنطقة”.
وتعليقًا على هذا الموضوع، يشير عمار فرهود الباحث المختص بجماعات ما دون الدولة، إلى أن الرفع من قوائم الإرهاب بداية لا يرتبط بمحاربة الإرهاب فقط، فالهيئة تحاربه منذ سنوات دون وضع شرط رفع اسمها من قائمة مكافحة الإرهاب، فهي تقوم بهذه المهمة تكريسًا للحالة السورية وحفاظًا على مكتسبات الثورة.
وينوّه فرهود في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن التصنيف على لوائح الإرهاب، أو إزالة الاسم من هذه القوائم، لا يتعلق فقط بممارسة أو مكافحة الإرهاب، إنما قد تكون أداة ضغط سياسية لمحاولة التدخل في رسم شكل الإدارة الجديدة وعلاقاتها السياسية وأدائها السياسي.
وفي هذا السياق كشف وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في معرض ردّه على سؤال حول عمّا إذا كانت هيئة تحرير الشام لعبت دورًا في مكافحة التنظيمات الإرهابية مثل “داعش” والقاعدة، أن الهيئة “أظهرت تعاونًا جيدًا خاصة في تبادل المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بمكافحة “داعش”، وساهمت بشكل كبير في هذا الصدد”، موضحًا أنهم لم يعلنوا هذا الأمر فيما مضى “نظرًا إلى حساسية الأمر”، وذلك وفقًا لما نقلته وكالة “الأناضول”.
انتقال سياسي بمشاركة كل السوريين
إلى جانب ما تقدم، شكّلت مشاركة كافة أطياف المجتمع السوري في عملية الانتقال السياسي شرطًا لدى أغلب الجهات التي تراقب سلوك “هيئة تحرير الشام” ليتم رفعها من قوائم الإرهاب، وهذا ما أكدته ليف بالقول: “نحن ندعم بالكامل عملية سياسية بقيادة سورية تؤدي إلى حكومة جامعة وتمثيلية تحترم حقوق جميع السوريين، بمن في ذلك المرأة والمجتمعات السورية المتنوعة عرقيًا ودينيًا”.
من جانبه، قال مبعوث الأمم المتحدة لسوريا غير بيدرسون، إن شطب هيئة تحرير الشام من قائمة الإرهاب يعتمد على مدى التزامها بالانخراط بعملية سياسية تشمل الجميع، وبحماية المدنيين، ووفق بيدرسون فإن شطب اسم الهيئة “ليس مجانًا ويعتمد على سلوكها والجماعات الأخرى”.
وفقًا للإدارة الجديدة، تم الآن الانتهاء من الاستعدادات لإطلاق حوار وطني شامل خلال الأيام المقبلة، ومن المفترض أن يشمل الاجتماع الأول في هذا الحوار جميع الهيئات والمجتمعات (الطوائف) السورية، بدءًا من ممثلي الجماعات السياسية إلى شخصيات المجتمع المدني والأكاديميين والعلماء والمستقلين، مشيرة إلى أن الحوار سيضع الأُسُس للمراحل اللاحقة من العملية الانتقالية، وآلية إدارة شؤون الدولة بعد الأول من آذار/ مارس.
وفي هذا السياق يوضح الباحث فرهود أن ما يريده المجتمع الدولي لرفع الهيئة من على قوائم الإرهاب، هو ضمان وجود حياة سياسية تغلب عليها حالة المدنية ويحميها الدستور السوري، وتكون الحياة السياسية فيه واسعة الطيف.
ويتابع فرهود أن موضوع الرفع من قوائم الإرهاب مرتبط بمعادلة سياسية معقدة جدًّا، فالوضع على قوائم الإرهاب لا يعني القطيعة أو عدم التعامل، فها هو حزب العمال الكردستاني مصنّف على قوائم إرهاب عديدة ومن صنّفه يحميه الآن، وقبله “حزب الله” اللبناني مصنّف على قوائم الإرهاب ويتم التعامل معه دون الاعتراف به.
احترام حقوق الأقليات والنساء
يرى كثير من المراقبين أن احترام حقوق الأقليات والمرأة أصبحت إحدى المقررات الأميركية في حكمها على نظم الحكم الجديدة في دول الشرق الأوسط، حيث شدد وزير الخارجية الأمريكية بلينكن في وقت سابق على أهمية أن تحترم السلطة الجديدة وكافة الجهات الفاعلة في سوريا حقوق الإنسان، وأن تلتزم بالقانون الدولي، وتتخذ كافة الاحتياطات اللازمة لحماية المدنيين، بمن فيهم أفراد الأقليات.
ولا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة بهذا المجال، إذ ربط بعض المسؤولين الأوروبين معاملة هيئة تحرير الشام للأقليات في سوريا يموقفهم منها، وحيث أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية، في اليوم الثاني لسقوط النظام 9 ديسمبر/ كانون الأول أن أسلوب معاملة هيئة تحرير الشام للأقليات في سوريا سيحدد موقف الحكومة الألمانية منها.
إلى جانب ذلك أكد وزير الخارجية الفرنسية جان نويل بارو، في تصريحات سابقة، أن “الدعم الذي ستقدمه فرنسا لهذا الانتقال السياسي في سوريا سيعتمد على احترام المطالب التالية، انتقال سياسي شامل يحترم الأقليات، ويصون حقوق الإنسان والقانون الدولي”.
وحول موضوع احترام حقوق الأقليات، يقول الباحث عرابي عبدالحي عرابي في حديث لـ”نون بوست”، إن الهيئة أعلنت في أكثر من مناسبة احترام حقوق الأقليات وعباداتهم ومناسباتهم الدينية، وربما يصل الأمر بهم إلى تعيينهم في مناصب مهمة، كتعيين محافظ في السويداء يكون من الطائفة الدرزية مثلًا، إلى غير ذلك من الأمور.
ويضيف عرابي أن تحرير الشام تعهّدت في أكثر من مناسبة بضمان الحريات العامة وحقوق المرأة، من خلال إتاحة العمل للمنظمات الناشطة بهذا المجال، وعدم فرض شروط معينة للباس، أو غير ذلك من الأمور التي تحدّ من حرية المرأة.
وكان أحمد الشرع أكّد خلال لقائه مع “بي بي سي”، أنه لا يسعى لتحويل سوريا إلى أفغانستان، مضيفًا أن “البلدَين مختلفان جدًّا، ولها تقاليد مختلفة، فإن أفغانستان مجتمعًا قبليًا”، وأضاف أنه في سوريا العقلية مختلفة تمامًا، مشيرًا إلى أنه يؤمن بتعليم النساء، وتابع: “لدينا جامعات في إدلب منذ أكثر من 8 سنوات، وأعتقد أن نسبة النساء في الجامعات تزيد عن 60%”.