تُشرق في الأفق السوري آمال بتحقيق مشاريع اقتصادية طموح لم يُكتب لها أن ترى النور في ظل حكم الأسد، الذي أقصى مثل هذه المبادرات لصالح سياسات أتت بالخراب والدمار.
مشاريع مثل خط الغاز الإقليمي، ومترو أنفاق دمشق، وتلفريك جبل قاسيون الذي يربط بين الجبل ووسط العاصمة، تمثل طموحات شعب يتوق لإعادة بناء وطنه واستعادة دوره كمحور اقتصادي إقليمي في الشرق الأوسط.
اليوم، وفي ظل تغيرات سياسية إقليمية ودولية، ومع تعقيدات اقتصادية يمكن تطويعها بتوازنات جديدة، تظهر هذه المشاريع كفرصة لإعادة تشكيل الاقتصاد السوري. فهي تحمل في طياتها إمكانات هائلة لخلق الآلاف من فرص العمل، وتنشيط القطاعات الإنتاجية والخدمية، وتحسين جودة حياة المواطنين الذين عانوا لسنوات طويلة من شح الفرص داخل الوطن، رغم الإمكانيات والخبرات التي صقلتها سنوات الغربة واللجوء.
هذه المشاريع التي تقف عند تقاطع الطموح والتحديات، تفتح الباب أمام أسئلة جوهرية حول قدرتها على المساهمة في نهضة سوريا.
في هذا التقرير، نستعرض تفاصيل بعض هذه المشاريع، وأهميتها الاقتصادية، والمعوقات التي تواجهها، لنرسم صورة أوضح لما قد يكون مستقبلًا جديدًا.
خط أنابيب قطر-تركيا
مشروع خط أنابيب الغاز القطري-التركي، طرح لأول مرة في عام 2009، ومثل صراعًا على الطاقة والسيطرة الجيوسياسية في المنطقة، يهدف إلى نقل الغاز من حقل الشمال القطري، الذي يُعد أكبر حقل للغاز في العالم، إلى تركيا عبر السعودية والأردن وسوريا، ومنها إلى أوروبا.
هذا المشروع الذي يمكن أن يفتح الباب أمام قطر للوصول المباشر إلى السوق الأوروبي، وتعزيز مكانة تركيا كمركز عبور للطاقة، رفضه النظام الأسدي السابق تحت ضغط من حلفائه (روسيا وإيران)، لحماية مصالحهما.
رأت موسكو في المشروع تهديدًا لهيمنتها على إمدادات الغاز إلى أوروبا، خاصة أنه قد يتسبب في خسارة روسيا نحو ثلثي صادراتها إلى القارة الأوروبية. ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المشروع بأنه “مؤامرة من الناتو لخنق الاقتصاد الروسي”.
ولم يقتصر الأمر على عرقلة المشروع، بل مضى الأسد قدمًا في توقيع مذكرة تفاهم عام 2011 لتنفيذ مشروع بديل يُعرف بـ”خط أنابيب الصداقة” أو “الأنابيب الإسلامي”، ضمن مشروع، يربط إيران والعراق وسوريا ولبنان، ويهدف إلى تعزيز الهيمنة الإيرانية على أسواق الطاقة الأوروبية، متماشيًا مع الأهداف الجيوسياسية لطهران في سوريا.
اليوم، مع سقوط نظام الأسد وتبدل الأوضاع الإقليمية، وانتهاء مرحلة الأسد، يعود الحديث عن هذا المشروع كجزء من إعادة رسم التوازنات الاقتصادية الإقليمية، لكن التحديات الأمنية والجيوسياسية لا تزال قائمة، لأن نجاح المشروع يعتمد على عوامل عدة، منها تحقيق توافق سياسي إقليمي، واستقرار سوريا كبلد عبور رئيسي.
ومع تصاعد التنافس الدولي على مصادر الطاقة، يُنظر إلى خط الغاز القطري كحلقة محورية يمكن أن تغير موازين القوى الاقتصادية، إذا ما أُتيح له أن يبصر النور.
خط مترو دمشق
في عام 2010، برز مشروع مترو أنفاق دمشق لتطوير البنية التحتية للنقل في العاصمة، وتخفيف الضغط على شبكة الطرق. المشروع، الذي أُطلق عليه “الخط الأخضر”، كان مخططًا ليكون جزءًا من شبكة مترو أنفاق متكاملة تضم أربعة خطوط تهدف إلى تلبية احتياجات سكان المدينة.
بحسب تصريحات تيسير الرداوي، رئيس هيئة تخطيط الدولة السورية حينها، كانت التكلفة الإجمالية للمشروع تُقدر بنحو 1.7 مليار دولار، مع استعداد كل من بنك الاستثمار الأوروبي والحكومة الفرنسية للمساهمة في تمويله. كما شهد المشروع زيارات من خبراء أوروبيين، مثل جان نويل شابولو، لمناقشة إدارة تمويل وتنفيذ المشروع.
المرحلة الأولى من المشروع تضمنت إنشاء الخط الأخضر، الممتد على طول 16.5 كيلومتر، عبر 17 محطة تربط الجنوب الغربي بالشمال الشرقي، مرورًا بمناطق مكتظة ووسط العاصمة. كما تم التخطيط للربط بين المترو ووسائل النقل العامة الأخرى، مع إمكانية التوسع لاحقًا بإنشاء خطوط إضافية مثل الخط الأحمر.
ورغم الخطط الطموح، توقف المشروع قبل أن يرى النور، بسبب عوامل متعددة شملت التدهور الأمني والتحديات الاقتصادية التي عصفت بالبلاد خلال السنوات التالية. وبذلك، أصبح مترو دمشق رمزًا آخر للمشاريع المؤجلة.
تلفريك قاسيون
في عام 2009، أعلنت شركة سعودية نيتها تنفيذ مشروع سياحي في سوريا بتكلفة 20 مليون يورو، يتضمن إنشاء تلفريك يربط العاصمة دمشق بجبل قاسيون على مسافة 3 كيلومترات. المشروع شمل أيضًا مدينة ألعاب متكاملة ومطاعم ووحدات سكنية ومرافق عامة، مع توقعات بتوفير أكثر من 200 ألف فرصة عمل. وقد بادر مستثمرون سوريون بتوفير الأرض، مع إعفاءات ضريبية تصل لمدة خمس سنوات وتسهيل جمركية دخول آليات البناء.
رغم هذه الخطط الطموح، لم يُنفذ المشروع لأسباب من بينها التدهور الأمني المستمر الذي جعل المستثمرين مترددين في المضي قدمًا. وتحول جبل قاسيون إلى منطقة عسكرية مغلقة، حيث أقام النظام السوري نقطة مراقبة أعلى الجبل، وحُظر على المدنيين صعوده لسنوات. فيما مضى جيش النظام باستخدامه لمراقبة المدينة والإشراف على قرى الريف المحيط.
مع ذلك، يُعد جبل قاسيون رمزًا تاريخيًا وثقافيًا في وجدان سكان دمشق، بإطلالته الساحرة التي تحتضن المدينة. وقد سارع السوريون بعد سقوط النظام مباشرة، لاستعادة صلتهم بالجبل، بالتوافد إليه للاستمتاع بمشهد بانورامي للمدينة والتقاط صور الحرية من أعلى قمته. ومع فرص تحويله لموقع سياحي، يمكن لمشروع التلفريك أن يعيد للجبل ألقه، ويمنح سكان المدينة وزوارها فرصة لاكتشاف جمال دمشق.
مشاريع خليجية لم تكتمل
بين الطموح والواقع قبل عام 2011، شهدت سوريا اهتمامًا كبيرًا من المستثمرين الخليجيين، خاصة من الإمارات والسعودية، سعيًا إلى استغلال الفرص الاستثمارية الواعدة في البلاد.
كان مشروع فندق “فورسيزونز” في دمشق أحد أبرز هذه المشاريع، حيث افتتح في عام 2005 بعد سنوات من التخطيط والتنفيذ، ليصبح رمزًا للاستثمار الخليجي الناجح في سوريا. ومع ذلك، توقفت العديد من المشاريع الأخرى قبل أن ترى النور. من بينها:
- مشروع “خمس شامات”: أعلنت عنه شركة “ماجد الفطيم” الإماراتية في عام 2010 بمنطقة الصبورة غرب دمشق، بتكلفة تُقدّر بمليار دولار. كان من المقرر أن يضم المشروع أكبر مركز تسوق وترفيه في منطقة المشرق العربي، بمساحة 200.000 متر مربع، بالإضافة إلى مرافق سياحية وتجارية وثقافية. تأخر تنفيذه بسبب الأحداث العنيفة التي تلت انطلاق الثورة السورية. وفي عام 2019 حصلت الشركة على الموافقات الجديدة اللازمة لاستكماله.
- مدينة “بنيان”: في عام 2006، أعلنت مجموعة “بنيان الدولية” الإماراتية عن خططها لتطوير مشروع عقاري وسياحي ضخم في منطقة جبل الشيخ قرب مدينة قطنا بريف دمشق، بتكلفة تُقدّر بـ15 مليار دولار. كان المشروع يهدف إلى إنشاء مدينة سياحية نموذجية متكاملة، تضم وحدات سكنية ومرافق ترفيهية. رغم الموافقة المبدئية من المجلس الأعلى للاستثمار في سوريا، لم يتم تنفيذ المشروع بسبب التحديات الاقتصادية والسياسية.
- مشروع “كيوان السياحي”: الذي فازت به مجموعة “محمد عبد المحسن الخرافي وأولاده” الكويتية في عام 2005 في قلب دمشق، على مساحة 500.000 متر مربع أمام فندق “شيراتون”. تضمّن إنشاء فندق “إنتركونتيننتال”، ومركز تسوق، ومجمع صالات سينما، ومرافق أخرى، بتكلفة تُقدّر بـ217 مليون دولار. رغم توقيع العقد في 2006 والبدء بالأعمال التحضيرية، لم يكتمل المشروع بسبب التحديات المالية والسياسية.
- منتجع “خليج ابن هانئ”: أعلنت عنه شركة “الديار القطرية” في عام 2008 في مدينة اللاذقية، بتكلفة تُقدّر بـ250 مليون دولار. وكان يهدف إلى إنشاء منتجع فاخر لتعزيز السياحة على الساحل السوري. لكنه توقف في مراحله الأولى، وفي عام 2015 أعلنت وزارة السياحة السورية عن بدء إجراءات فسخ العقد مع الشركة بسبب عدم الالتزام بتنفيذ بنوده.
- “قرية النخيل السياحية”: برعاية شركة سعودية أعلنت عنه نهايات عام 2009 في منطقة الغاب بريف حماة، وقدّرت كلفته بـ100 مليون دولار يشمل منتجعًا سياحيًا متكاملًا.
- مشروع “مدينة دمّر السياحية”: قدمته شركة إماراتية في عام 2010 لتطوير مشروع “مدينة دمر السياحية” في منطقة دمر بدمشق، بتكلفة تُقدّر بـ500 مليون دولار. تضمّن إنشاء المزيد من المجمعات سكنية ومراكز تسوق ومرافق ترفيهية.
مشاريع عالقة بين الطموح والتحديات
في إجابة للخبير الاقتصادي السوري يونس الكريم، بعد سؤاله عن وجود مشاريع تنموية أخرى مشابهة لم يتسن لها أن ترى النور، قال: “سوريا شهدت عبر العقود الماضية طرح العديد من المشاريع الاقتصادية والتنموية الطموح التي لم تتحقق”.
من أبرز هذه المشاريع بناء “عاصمة إدارية جديدة خارج دمشق، تتضمن نقل كل مؤسسات الدولة باتجاه مدينة عدرا، للحدّ من الاكتظاظ السكاني في وسط المدينة. وأيضًا مشروع تغيير شبكات السكك الحديدية في كل المدن السورية، وإنشاء محطات طاقة كهربائية جديدة لرفع الإنتاجية، وربط نهر الفرات بنهر دجلة، ما يدعم الزراعة ويقضي على مشكلة نقص الأمطار وانتشار التصحر وينشط الزراعة.
وأوضح الكريم أن أحد أبرز العوائق كان “غياب دراسات جدوى حقيقية تتماشى مع الواقع السوري، حيث كانت الحكومات السابقة تقدم المشاريع بميزانيات ضخمة دون خطط تنفيذية واضحة من حيث آليات التمويل والتحصيل خلال الاستخدام، ما أدى إلى فشلها منذ البداية”.
كما تسبب “تضارب المصالح بين أصحاب النفوذ المحسوبين على النظام السابق في تعطيل المشاريع من خلال ربطها بهم، إضافة إلى التحديات القانونية المتعلقة بالتعويضات عن الأراضي المصادرة من السكان”، ما كان عائقًا لتنفيذ عشرات الأفكار الجيدة.
وعن الاستثمارات التي يتم الحديث عنها مؤخرًا، خلال لقاءات الوزراء والمستثمرين مع حكومة تصريف الأعمال الجديدة بقيادة أحمد الشرع، يؤكد الكريم أنه ما زال أمام سوريا عقبات كبرى للعمل عليها، من أهمها انهيار القدرة الشرائية لليرة السورية، وغياب الأطرّ القانونية والتنظيمية اللازمة لتشجيع الاستثمارات.
وأوضح أن هذا الغياب “يعود إلى عدم وجود دستور يحدد شكل النظام الاقتصادي ويفرز البنية القانونية التي تحكم العلاقات الاقتصادية، ما يجعل أي استثمار خاضعًا لقرارات فردية أو مصالح سياسية مؤقتة، ما يضع المستثمرين في حالة من عدم اليقين، وربما التراجع عن الخوض في مشاريع ضخمة”.
ويضيف أنه بالإمكان تجاوز هذه المعيقات “بعد وضع خطة اقتصادية وطنية شاملة لإعادة الإعمار، ورفع أطنان من الدمار التي تغطي مساحات هائلة من البلاد ورفع العقوبات . عندها يمكن بدء حملة وطنية لجذب رؤوس الأموال الأجنبية. لأن تحسين البيئة الاستثمارية يتطلب استقرارًا سياسيًا أولًا، ووجود رؤية اقتصادية متكاملة تُعطي الأولوية للتنمية المستدامة”، بعيدًا عن الحسابات السياسية.
أخيرًا، يمكننا القول إن طموحاتنا اليوم لا يقف أمامها سوى إرادة السوريين على التعاون والبناء من كل الجهات، والاستفادة من الزخم الدولي الذي عاد ليصب اهتمامه في سوريا منذ سقوط النظام، بشقيه الغربي والعربي. في حين أمام السوريين فرصة تاريخية لإعادة بناء بلدهم وفق رؤية أكثر شمولية واستقلالية تحمل في طياتها إمكانيات هائلة لتحسين الأوضاع المعيشية دون العبث بهويتنا وتراثنا.