في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، صرّح وزير مالية الاحتلال بتسلئيل سموتريتش أن عام 2025 سيشهد فرض السيادة الإسرائيلية في الضفة الغربية، مؤكدًا على ذلك مرارًا وتكرارًا، ومعربًا عن خططه القادمة التي تنتظر استلام دونالد ترامب للإدارة الأمريكية في يناير/ كانون الثاني 2025، حتى ينفذها.
ولم يطل الأمر كثيرًا، حتى شرعت سلطات الاحتلال في تنفيذ سلسلة من الخطوات والإجراءات لضم الضفة الغرببة، منها مخطط لبناء 22 برج اتصالات وأجهزة إرسال في الضفة الغربية المحتلة، بتكلفة تقدَّر بـ 50 مليون شيكل، بهدف الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وتكثيف مراقبة اتصالات المقاومين.
مقدمات السيادة الكاملة
شملت الإجراءات الإسرائيلية إغلاق مكتب الإدارة المدنية (المسؤول عن التنسيق في الشؤون المدنية بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل”)، ونقل جميع مسؤوليات الحكم في الضفة الغربية إلى حكومة الاحتلال ووزاراتها ودوائرها الحكومية؛ ما يعني بشكل فعلي ضمّها إلى السيادة الإسرائيلية.
تتضمن أيضًا إنشاء 4 مدن استيطانية جديدة، من بينها مدينة درزية، بهدف نقل سكان من داخل “إسرائيل” إلى الضفة، وتحويل المدن الفلسطينية إلى سلطات إقليمية ذات إدارة ذاتية، لكنها تبقى تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة، مع إلغاء دور السلطة الفلسطينية.
فضلًا عن إعلان سموتريتش ضم ّومصادرة 24 ألف دونم في الضفة الغربية كأراضي دولة، في خطوة هي الأكبر منذ عقود، وجاء ذلك بالتزامن مع مصادقة المجلس الوزاري المصغّر للاحتلال على خطط استيطانية جديدة تشمل المناطق المصنفة (ب) بموجب اتفاقية أوسلو لأول مرة، والتي يفترض أن تكون خاضعة للسيطرة الفلسطينية، حيث تم إنشاء 7 بؤر استيطانية عليها حتى اللحظة.
وبينما كانت تسير مخططات السيطرة الفعلية على الأرض، انطلقت خطط موازية تستهدف القضاء على أي مقاومة في الضفة الغربية قد تعيق سير هذه المشاريع، ورغم محاولاتها السابقة، إلا أن نقطة التحول جاءت بعد إعلان سموتريتش عن خطط السيادة، حيث دفعت سلطات الاحتلال أجهزة أمن السلطة الفلسطينية إلى جنين لتقوم بالمهمة نيابة عنها، وتواجه مقاومة مخيم جنين الذي يضم الفصائل العسكرية الثلاثة (القسام، سرايا القدس، وكتائب شهداء الأقصى)، وبدأتها بشكل فعلي في 5 ديسمبر/ كانون الأول 2024، مع فرض حصار على المخيم، قبل أن تعلن عنها رسميًا في الـ 14 من الشهر نفسه.
وفي حين تولت السلطة الفلسطينية مواجهة المقاومة في جنين، كانت طولكرم مسرحًا لعمليات الاحتلال الإسرائيلي المباشرة، فقد أعلن جيش الاحتلال، بالتعاون مع جهاز الشاباك، في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2024 عن بدء عملية عسكرية في مدينة طولكرم، وشهد اليوم الأول 4 غارات جوية استهدفت مخيمي طولكرم ونور شمس، ما أدى إلى استشهاد 8 فلسطينيين، بينهم نساء.
في اليوم نفسه، تقاسمت السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي مدينة طوباس، التي شهدت خلال “طوفان الأقصى” بروز تشكيلات عسكرية مقاومة، حيث حاصرت أجهزة السلطة مطاردين في بلدة طمون واعتقلتهم صباحًا، بينما شنّ الاحتلال غارة جوية مساءً على البلدة، أسفرت عن استشهاد طفل وإصابة آخر بجروح خطيرة.
خلال يوم واحد، شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي 5 غارات جوية على الضفة الغربية، رقم قد يبدو مألوفًا بالنظر إلى حجم التصعيد المستمر منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 في قطاع غزة، الذي يتعرض يوميًا لعشرات الغارات. ومع ذلك، بالنسبة للضفة، تشكّل الغارات الجوية تطورًا لافتًا بدأ مع اجتياح جنين في يوليو/ تموز 2023، حيث سُجّلت أول غارة جوية على الضفة منذ الانتفاضة الثانية، لتتكرر تدريجيًا وتصبح جزءًا من حرب الإبادة المستمرة.
المثير للانتباه، وفق تحليل “نون بوست” المستند إلى بيانات ووثائق عسكرية خاصة، هو أن مدينة طولكرم لم تشهد مثل هذا العدد من الغارات الجوية منذ نكبة عام 1948، ما يشير إلى تحول استراتيجي في مساعي الاحتلال لتمهيد الطريق نحو فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية.
كيف وصلنا إلى هذا الواقع؟
في عام 1967، شنَّ الطيران الإسرائيلي غارات على القوات الأردنية في القدس ومحيطها، إضافة إلى جنين ونابلس، في اليوم الثاني من الحرب، وفقًا لتقرير “تحليل حرب الأيام الستة، يونيو 1967″، الذي أعدّه الرائد تشارلز ب. لونغ من سلاح الجو الأمريكي في كلية القيادة والأركان بجامعة القوات الجوية في قاعدة ماكسويل الجوية بألاباما.
لم تشهد الضفة الغربية أي قصف بالطائرات الحربية أو غارات جوية حتى بداية الانتفاضة الثانية في عام 2000، والتي استمرت حتى عام 2005. وخلال هذه الفترة، نفذت “إسرائيل” 572 غارة جوية على الضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى غارة جوية واحدة على الحدود الأردنية وأخرى على قرية عين الصاحب في محافظة ريف دمشق في عام 2003، استهدفت معسكر تدريب فلسطيني.
وبحسب تقرير عسكري آخر اطّلع عليه “نون بوست”، بعنوان: “في الجو: القوة الجوية الإسرائيلية ضد انتفاضة الأقصى، 2000-2005″، والتي أعدّها المقدَّم ماثيو م. هيرلي من سلاح الجو الأمريكي، ضمن معهد أبحاث سلاح الجو بجامعة القوات الجوية في قاعدة ماكسويل الجوية بألاباما.
وبحسب التقرير، فإن خلال الـ 5 سنوات من عمر الانتفاضة الثانية، سجّلت أكثر الأيام كثافة قصف جوي 11 غارة، 6 منها في الضفة الغربية، و5 في قطاع غزة، ولم تتكرر هذه الكثافة إلّا يومين فقط خلال الانتفاضة.
وعلى خلاف ما هو متوقع، لم تشهد مدينة طولكرم إلا 18 غارة إسرائيلية خلال السنوات الخمسة من الانتفاضة الثانية.
وخلال 5 سنوات من الانتفاضة الثانية، لم تشهد أي مدينة في الضفة الغربية أكثر من 3 غارات، وهو ما تكرر بشكل نادر في يوم واحد فقط بتاريخ 20 فبراير/ شباط 2002، الذي كان الأعنف خلال الانتفاضة، وبرر الاحتلال هجومه أنه رد على “تراخي” السلطة الفلسطينية في التصدي للهجمات الفدائية، التي أسفر أحدثها عن مقتل 6 جنود إسرائيليين على الأقل، في هجوم على حاجز تفتيش عسكري في عين عريك شمال غرب رام الله بالضفة الغربية.
وفيما يلي الأيام التي شنَّ فيها طيران الاحتلال 16 غارة على مدينة طولكرم، وغارتين على قرية عنبتا قضاء المدينة، خلال الانتفاضة الثانية:
وبينما تشهد الضفة أعنف تصعيد جوي وبرّي، فإن القصف الجوي الإسرائيلي في الضفة الغربية ليس سوى تمهيد واضح لخطط ضمّ المنطقة ضمن السيادة الإسرائيلية بحلول عام 2025، في ظل غياب رادع فعّال للاحتلال منذ أكثر من 14 شهرًا من الإبادة الجماعية، وخطة أمريكية إسرائيلية مدعومة من السعودية ومصر والأردن لضفة جديدة في عهد ترامب.