لشخصية “نصر الدين هوجا” الفكاهية مكانة كبيرة عند الأتراك، فهو بالنسبة إليهم “فيلسوف الشعب” وبطل الحكايات الفكاهية والحكيمة في نفس الوقت، الأهم والأبرز في الأدب الشعبي التركي. ولا يقتصر ذلك على أتراك الجمهورية التركية، لكنه يحظى بنفس المكانة لدى الترك في بلاد مثل أذربيجان وكازاخستان وأوزبكستان.
وقبل الحديث عن شخصية نصر الدين هوجا، ينبغي الإشارة إلى أن التشابه الكبير بين شخصية نصر الدين هوجا وجحا العربي، أحدث العديد من الخلافات بين الباحثين حول أصل هذه الشخصية، وخصوصا أنها وردت في الثقافة الفارسية أيضا باسم ملا نصر الدين.
ولا تعنى هذه المقالة بالدخول في هذه الخلافات، والاتهامات التي تحمل نزعة قومية، لمحاولة إثبات أن أصل هذه الشخصية تنتمي إلى هذا العرق أو ذاك. فغالبا ما يتم توجيه الاتهامات من قبل العرب إلى الترك بأنهم “سرقوا” هذه الشخصية وغيرها من الشخصيات، في محاولة لخلق حضارة لهم على أنقاض الحضارة العربية.
إلا أن المتابع لتاريخ الأدب العربي والفارسي والتركي المقارن، سيجد أن الأمر أكثر تعقيدا من هذه الاتهامات السريعة. ففي كتابه “الأدب الشعبي عند العرب والترك.. الطوبولوغيا والتفاعل المتبادل” للدكتور شاه رستم غياثوفيتش، يقول: “إن التحليل الكامل والجامح لمراحل التطور التاريخي للعلاقات الفلكورية بين الشعوب العربية والتركية، وكذا أشكال ووسائل العلاقات الإبداعية المتبادلة، يظهر أن الصلات المتبادلة بين الإبداع الشفهي لهذه الشعوب كانت ذات وجهين. أي أنها تأسست على علاقات متساوية القوى”.
تختلف المصادر حول الفترة التي عاش فيها نصر الدين هوجا. ولكن وفق أغلب الروايات التركية، والموقع الرسمي لمركز “نصر الدين هوجا” الثقافي، فإنه عاصر السلاجقة، وولد عام 1208
ويضيف: “وبطبيعة الحال يمكن السؤال التالي أن يفرض نفسه: لا شك أن الدين والثقافة والأدب الفني والعلمي والتنويري باللغة العربية قد أثر بشكل كبير على شعوب آسيا المركزية. وتلك حقيقة تاريخية. فقد أدى اعتناق شعوب ما وراء النهر للإسلام إلى تغلغل كثير من النماذج للمنظومة الفنية بالفلكلور العربي في الإبداع الشفهي عند الشعوب التركية. غير أنه وحتى يومنا هذا، لم تُدرس بشكل جيد المسائل التي تؤكد تأثير فلكلور الشعوب التركية في آسيا المركزية على الإبداع الشفهي العربي. ولا يجب تفسير الأمر على أنه سيطرة أدب شعب ما على غيره”.
على أية حال، تختلف المصادر حول الفترة التي عاش فيها نصر الدين هوجا. ولكن وفق أغلب الروايات التركية، والموقع الرسمي لمركز “نصر الدين هوجا” الثقافي، فإنه عاصر السلاجقة، وولد عام 1208 وعاش في وسط الأناضول بمدينة آق شهير، ودفن فيها. وقد تحدث الرحالة العثماني الشهير، أوليا شلبي في كتابه “سياحتنامة” عن قبره هناك. كما ذكر جيدك أحمد باشا، الصدر الأعظم في عهد السلطان محمد الفاتح في أوراق رسمية أنه مدفون في آق شهير، وتوجد هذه الوثيقة في أرشيف الآثار القديمة برئاسة الوزارة.
وقد بدأ ذكر اسم نصر الدين هوجا في الآثار التركية منذ القرن الـ15، وأول من ذكره هو أبو الخير الرومي في كتابه “صلتوق نامه”. وقال إن له من الطُرف ما يمكن جمعه في كتاب كبير. كما ذكره جواهي في “باند نامه” عام 1527، ولامي شلبي في كتابه “لطائف” عام 1531؛ هؤلاء ذكروه وأوردوا بعضا من نوادره في كتبهم. وفي عام 1618 زار الرحالة البولنيالي سيمون الأناضول، وذهب إلى قبره في آق شهير وأورد ذلك في كتابه “سيمون سياحتنامه”.
وبحسب ما ذكر الباحث التركي مصطفى دومان في كتابه “نصر الدين هوجا ونوادره”، فإنه منذ القرن الـ16 جُمعت نوادر نصر الدين هوجا في كتاب للمرة الأولى، وإن أقدم مخطوطة له كانت في عام 1571 بعنوان “حكايات كتاب نصر الدين” وحتى اليوم يوجد 68 مخطوطة لهذا الكتاب. وفي عام 1837 طبعت نوادره في كتاب بتركيا، ويتم تداوله حتى الآن باسم “لطائف نصر الدين هوجا”.
اتخذت شخصية نصر الدين هوجا طابعا أسطوريا لدى الترك، فلا يعتبرونه مجرد شخصية فكاهية فقط، لكن وراء مزاحه فكر عميق وذكاء حاد
ورغم الاختلاف حول الفترة التي عاش فيها نصر الدين هوجا إلا أن المؤرخين الأتراك أجمعوا على مكان قبره في مدينة آق شهير. ولأنه رمز للفكاهة عند الأتراك، فقد تم تصميم قبره بشكل طريف أيضا؛ فرغم أن القبر محاط بسور مفتوح من جهاته الأربع، إلا أنهم وضعوا قفلا كبيرا على بابه المطل على الطريق الذي يفضي إلى القبر.
اتخذت شخصية نصر الدين هوجا طابعا أسطوريا لدى الترك، فلا يعتبرونه مجرد شخصية فكاهية فقط، لكن وراء مزاحه فكر عميق وذكاء حاد. كما ذكر الباحث التركي عيسى أوزكان في بحثه حول نصر الدين هوجا المعنون بـ”دراسات في الفلكلور التركي”، إذ يقول: “نصر الدين هوجا إذا رأى خطأ ما، يعلم صاحبه الصواب عن طريق المزاح دون أن يجرحه. وبهذا يعطي درسا للآخرين. وكان الناس يذهبون إليه ليستشيرونه في المسائل الهامة أيضا”.
وذكر عيسي أوزكان أيضا أن نوادر نصر الدين هوجا تبين لنا كيف كان يعيش الناس آنذاك وطرق تفكيرهم ومنطقهم في الحياة. ومن أبرز الموضوعات التي تبرز في نوادره، هو موضوع “التسامح”، الذي يظهر حرية التعبير والاعتقاد، لكن نصر الدين هوجا لا يتسامح على الإطلاق مع نقائص مثل الكسل والكذب والغرور، ويقوم بنقدها بالمزاح أيضا.
وهناك مساحة للدين أيضا في نوادر نصر الدين هوجا، لكن الدين لديه مسألة قلبية في المقام الأول. وهو يحترم أصحاب الأديان والمعتقدات المختلفة. وفي الوقت نفسه هو عدو لمن يستخدمون الدين. كما نجد أيضا في نوادره قيمة خاصة بحقوق الجار وطريقة التعامل معه. وتركز نوادر نصر الدين هوجا على مسألة العدالة.
يحتفي أتراك آسيا الوسطى بنصر الدين هوجا بشكل كبير أيضا، وبالأخص في أوزبكستان، بل يعتبرونه من بخارى، ويدّعون أنه عاش ودفن هناك
ويشير الباحث التركي سيف الله تركمان في بحثه حول نوادر نصر الدين هوجا إلى أنه لم يتعامل مع جميع الناس بنفس الطريقة، لكنه كان يخاطب كل شخص وفق ما يتقبله عقله. ويشير أيضا إلى أن نوادره تعكس اللغة الشعبية التي يستخدمها مع الناس، وأن هناك بعض الفروقات بين اللغة التي استخدمها نصر الدين هوجا في نوادره، واللغة التي دُوّنت بها هذه النوادر.
يحتفي أتراك آسيا الوسطى بنصر الدين هوجا بشكل كبير أيضا، وبالأخص في أوزبكستان، بل يعتبرونه من بخارى، ويدّعون أنه عاش ودفن هناك. وقد أخذ نصر الدين هوجا العديد من الأسماء بين الترك هناك، فمثلا ترك آذربيجان يقولون عنه مولا نصر الدين، وفي كازخستان يقولون عنه كوجا نصر الدين، كما يعرف في أوزبكستان بنصر الدين أفندي.
ولنصر الدين هوجا مكانة عند التركمان أيضا. إذ يقول الباحث والأكاديمي العراقي إبراهيم الداقوقي، في كتابه “فنون الأدب الشعبي التركماني”: “كل من روى نادرة من نوادر نصر الدين هوجا، عند التركمان في العراق، ملزم برواية ست روايات أخرى، لأنه قد أوصى برواية سبع روايات من نوادره دفعة واحدة، وإذا لم يعمل الراوي بتلك الوصية فأمه طالق”.
دخلت شخصية نصر الدين هوجا في تركيا إلى المسرح والرواية وغيرها من الفنون، حيث كتب الأديب التركي الرائد، عمر سيف الدين، ومن بعده الروائية التركية الشهيرة، خالدة أديب، مسرحية بعنوان “نصر الدين هوجا”. كما خصّ أستاذ تاريخ الأدب التركي المعروف، محمد فؤاد كوبرولو، نصر الدين هوجا بكتاب ضمن دراساته.
الأتراك يحتفلون بذكرى ميلاد نصر الدين هوجا كل عام، حيث يعقدون مهرجانا سنويا يشهد العديد من الفعاليات؛ كالمسارح التي تجسد شخصيته
وقد انتقلت نوادر نصر الدين هوجا إلى لسان الأتراك اليوم في العديد من المقولات التي يستخدمونها، مثل: “الذي أعطى المال، هو الذي سيصفّر” وأصل الحكاية أن نصر الدين هوجا ذهب إلى السوق، فطلب منه الأطفال أن يشتري لهم صفّارة، وقام أحد هؤلاء الأطفال بإعطائه نقودا ليشتري له صفارة، وبعد أن عاد بصفارة واحدة سأله الأطفال: أين صفّارتنا، فقال: الذي أعطى المال هو الذي سيصفّر. ويستخدمها الأتراك الآن للحث على ألا يصبح الشخص عالة على غيره.
ومن المقولات المستخدمة لدى الأتراك اليوم أيضا: “كُلْ يا معطفي الفرو، كُلْ”، فقد ذُكر أن نصر الدين هوجا قد ذهب إلى أحد الولائم فلم يهتم به أحد، فذهب إلى بيته وارتدى معطفا من الفرو ثم عاد إلى الوليمة فرحبوا به بحفاوة، فوضع معطفه في الطعام وقال له كُلْ. ويستخدمها الأتراك الآن من أجل التعبير عن أن الاحترام ينبغي أن يكون للشخص وليس للذي يرتديه.
وأخيرا، فإن الأتراك يحتفلون بذكرى ميلاد نصر الدين هوجا كل عام، حيث يعقدون مهرجانا سنويا يشهد العديد من الفعاليات؛ كالمسارح التي تجسد شخصيته، ومسابقة للكاريكاتور وأخرى لمحاكاة نكات فيلسوف الفكاهة. كما جعلت منظمة اليونسكو عام 1996 “عام نصر الدين هوجا”.