ترجمة وتحرير نون بوست
أُثير الكثير من الجدل حول دعوة جامعة كولومبيا البريطانية في كندا إلى مناصرة التوجه الصيني القائم حول إعادة التثقيف القسري وطريقة استيعاب الأقليات العرقية والتعامل معها، وهو ما يسلط الضوء على المخاطر التي ينطوي عليها إعادة تشكيل النظام الحضاري. والجدير بالذكر أن مثل هذا النظام الناشئ يسعى لكتابة نظام عالمي جديد يعرّف الدول على أساس انتمائها الحضاري عوضا عن ربطها بالمصطلحات الوطنية، ويضفي الشرعية على انتهاكات حقوق الإنسان.
على الرغم من إثارة دعوى الجامعة الكندية لقضايا تتعلق بحرية التعبير، إلا أنها سلطت الضوء على فشل كل من الولايات المتحدة وأوروبا والمسلمين في رصد المؤشرات الأولية التي تدل على أن الصين تغير سياستها. ويشمل هذا التغيير التخلي عن السياسة القديمة القائمة على تعزيز التناغم بين الطوائف عن طريق الحفاظ على ثقافات الأقليات وضمان استفادتهم من النمو الاقتصادي.
لتآكل سياسة الصين الطويلة الأمد عواقب تتجاوز حدود التبت ومقاطعة سنجان المضطربة في شماليّ غربيّ الصين، التي تقطنها الشعوب التركية المسلمة مثل الأويغور. في المقابل، يضفي النهج الجديد، الشرعية على قمع حقوق الأقليات في جميع أنحاء العالم، ما يثير شبح الصراع بين الطوائف في المجتمعات التي طالما سعت إلى تعزيز الاختلافات في إطار التعددية الثقافية والانسجام الاجتماعي.
والجدير بالذكر أن الأصوات المنادية بإعادة التفكير في السياسة العرقية التي تتبعها الصين تعالت منذ سنة 2014، وذلك عندما أضرم رجلان النار في جسديهما خارج أكثر المعابد البوذية قدسية في التبت، وتحديدا في العاصمة لاسا. ومنذ ذلك الحين، نشرت جمعية “الحملة الدولية من أجل التبت” قائمة تضم أسماء 155 شخصا آذوا أنفسهم منذ سنة 2009 على خلفية الرقابة الصينية.
بالعودة إلى سنة 2012، أكد المسؤولون العسكريون ورجال الأعمال والمثقفون ومستخدمو الإنترنت والمعارضون أن التضحية بالنفس تعتبر شاهدًا على فشل السياسة فيما كان نقاشًا عامًا حول موضوع سري وحساس للغاية. وغذى هذا النقاش المخاوف من أن اعتراف الصين الرسمي بتواجد 56 جنسية مختلفة على أراضيها يعتبر دليلًا آخر على احتمال تفككها كما هو الحال مع الدول الشيوعية مثل الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا.
لم تقتصر حوادث الانتحار على التبت فقط، بل شملت كذلك منطقة سنجان وأجزاء أخرى من الصين، بما في ذلك أحداث العنف الطائفي بين مسلمي الهان ومسلمي الهوي
لم تقتصر حوادث الانتحار على التبت فقط، بل شملت كذلك منطقة سنجان وأجزاء أخرى من الصين، بما في ذلك أحداث العنف الطائفي بين مسلمي الهان ومسلمي الهوي سنة 2004 التي خلفت حوالي 150 قتيلًا. وعموما، يُنظر إلى هاتين الجماعتين على أنهما أكثر المجتمعات المسلمة اندماجا في الصين.
من جهته، عمد هو أنجانغ، وهو رجل اقتصاد ومؤسس مركز دراسات الصين بجامعة تسينغ هوا الصينية التي تمثل أحد أكبر مراكز الدراسات والأبحاث في البلاد، إلى حث الحكومة على تبني نهج يقوم على انصهار الثقافات. وفي الواقع، من شأن هذا النهج أن يخلق “ثقافة وهوية مدنية جماعية”، ما أثار الضجة داخل جامعة كولومبيا البريطانية في المقام الأول.
وردت السياسة التي يوصي الباحث هو باتباعها في مقال منشور على نطاق واسع شارك في تأليفه زميله هو ليانهي سنة 2011، وهو باحث رائد في دراسات الإرهاب في الصين. ومنذ ذلك الحين، أصبح ليانهي مسؤولا رفيع المستوى في إدارة الجبهة المتحدة للحزب الشيوعي الصيني في إقليم سنجان. ويبدو أن هذه السياسة قدمت إطارًا أو نموذجا تتبعه حملة الصين الوحشية ضد مسلمي الإقليم.
بشكل عام، يعتبر إقليم سنجان مثالا حيًّا على العواقب الوخيمة المنجرة عن الفشل في التصدي للبوادر الأولية لفرض التغييرات الثقافية. ويقبع حوالي مليون مواطن مسلم محتجزين في معسكرات إعادة التعليم التي يطلق عليها اسم “مراكز إعادة التأهيل والتدريب المهني” التي تديرها الحكومة، ويُجبَرون بين جدرانها على تعلم لغة الماندارين. وتفيد بعض التقارير على إجبارهم على انتهاك الممارسات الغذائية والدينية للمسلمين وتعرضهم للضرب المبرح لترسيخ فكر الرئيس شي جين بينغ لتعويض التعاليم الإسلامية.
من جانبهما، حذر الباحثان الصينيان من أن سماح الصين ببروز النخب والمصالح العرقية الإقليمية ومنحها حقوقها يمكن أن تؤدي إلى الانفصال على الحدود الاستراتيجية للبلاد. وقد ذكر الطرفان أن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي قد تفطنت إلى هذا الخطر منذ سنة 2010، حيث بدأت منذ ذلك الوقت بالضغط من أجل “التواصل العرقي والتبادل والمزج”.
إن الاستقرار يتعلق بتحرير الإنسان وتوحيده وتطويره وتأسيس النظام الاجتماعي المنشود
لجعل ذلك ممكنًا، دعا الباحثان إلى إزالة البيانات التي تشير إلى عرق الشخص في جميع الوثائق الرسمية الصينية، مما يعني خلق سياسة ديمغرافية من شأنها تخفيف التركيز الجغرافي للأقليات العرقية وضمان مزيج سكاني “مناسب” حسب رأيهم. ومعنى ذلك التركيز على تلقين المسلمين لغة الماندارين واعتمادها لغة وطنية والترويج للصين من خلال التقليل من شأن الأقليات واتخاذ خطوات لمواجهة التطرف الديني.
من جانبه، دق الباحث الصيني، جيمس ليبولد، ناقوس الخطر في وقت مبكر وركّز الاهتمام على تحليل ورؤية الباحثين الصينيين الآخرين للصراع الصيني، معربا عن أسفه إزاء عدم اهتمام القادة الغربيين بما يحدث في الصين. علاوة على ذلك، صرح ليبولد أن: “ظهور هو ليانهي ينذر بالتحول الكبير في كل من الاتجاه المؤسسي والسياسي الذي تسلكه بكين، والذي يظهر بأن ما يحدث في سنجان هو جزء من سياسة عرقية جديدة أكثر قسرية في ظل العصر الجديد الخاص بشي جين بينغ، الذي يقوم على تسريع التحول السياسي والثقافي للأقليات العرقية التي لا تنتمي إلى شعب الهان”.
بالإضافة إلى ذلك، يصف ليبولد نظيره هو ليانهي بأنه مسؤول ومفكر بارز داخل الحزب الشيوعي، ويعتبر أن الصين كانت تقود عملياتها في سنجان والتبت منذ سنة 2010 بناء على نهجه. وعلى العموم، يقوم هذا النهج على القول إن: “الاستقرار يتعلق بتحرير الإنسان وتوحيده وتطويره وتأسيس النظام الاجتماعي المنشود”.
أما بالنسبة إلى إقليم سنجان، فيُترجَم بتوحيد الإنسان بإعلانات الحكومة التي تفيد أن المسؤولين المحليين يزورون منازل مسلمي الأويغور خلال شهر رمضان من السنة الحالية لضمان عدم التزامهم بتعاليم دينهم. وفي هذا الشأن، اقتبس ليبولد عن مذكرة كتبها بعض المسؤولون المحليون في سنجان، التي ورد فيها: “يجب أن نتخذ إجراءً فعالاً لوضع حد للثرثرة حول الأجهزة الحزبية رفيعة المستوى، كما يجب علينا التظاهر بالامتثال علنا واتباع تعاليم مختلفة في الخفاء”.
وفي رده شديد اللهجة على ما ورد في منتدى حوار شانغريلا السنوي للأمن في سنغافورة نهاية الأسبوع الماضي، عمد وزير الدفاع الصيني، وي فنغ، إلى دعم سياسة بلاده خلال كلمة ألقاها مرتديًا زيه العسكري المليء بالأوسمة. وورد في حديث الوزير الصيني أن: “الاستراتيجية الصينية في سنجان مبررة تماما حيث لم يشهد الإقليم أي هجوم إرهابي طوال السنتين الماضيتين”.
لم يتوقف الجنرال فنغ عند ذلك الحد، بل قال: “لقد تحسن المستوى المعيشي للسكان المحليين، كما يزيد عدد السياح الذين يزورون سنجان عن 150 مليون سائح، في حين يبلغ يبلغ متوسط الناتج المحلي الإجمالي للمواطن الواحد حوالي 7500 دولار أمريكي. لقد أقامت الصين مراكز التدريب بهدف ضمان عدم وجود هجمات إرهابية ومساعدة هؤلاء الناس على التخلص من شخصياتهم ومساعدتهم على اكتساب بعض المهارات، ثم يمكنهم بعد ذلك الاندماج داخل المجتمع. ألا يعدّ ذلك أمرًا جيدا؟”.
على المستوى الافتراضي، تعتبر فكرة تغلب التقدم الاقتصادي في نهاية المطاف على التطلعات الثقافية والعرقية بشكل مستدام مقبولة نوعا ما، ناهيك عن كونها تبرر سياسة أطلق عليها النقاد الإبادة الجماعية الثقافية. ويطلق الباحث ليبولد هذا الاسم على السياسة الصينية القائمة على إلغاء أية ثقافة أو لغة أو ممارسات دينية غير هانية، فضلا عن تآكل واضمحلال الثقة الاجتماعية.
تعتبر تصريحات وزير الدفاع الصيني والباحث، هو ليانهي، إزاء النهج الصيني في إقليم سنجان أكثر الأمثلة تطرفًا على السياسة الحضارية التي أدت إلى ظهور الإسلاموفوبيا على مستوى العالم.
بالنسبة للحكومة الصينية، يعتمد نجاح استراتيجيتها على استيعاب الأويغور المستدام من خلال إعادة التعليم وقمع الممارسات الدينية والثقافية كاستراتيجية للبقاء أو خوفًا من العقاب المسلط عليهم. وعلى الرغم من دفاع الجنرال في المستميت عن النهج الذي تتبعه حكومة بلاده، خلص الباحث الصيني الشهير إسحاق شيشور في دراسة حديثة إلى القول إن جيش التحرير الشعبي الصيني امتنع حتى الآن عن المشاركة في الحفاظ على الأمن الداخلي في سنجان وأوكل هذه المهمة إلى القوات شبه العسكرية.
واقتباسًا عن الخبير السابق بالجيش الأمريكي والمخابرات العسكرية، دينيس بلاسكو، قال إسحاق شيشور: “يمكن لهذا الأمر أن يتغير في حال فشلت قوات الشرطة المدنية المحلية في الصين وجيش التحرير الشعبي الصيني في الحفاظ على الأمن في الإقليم”.
في الواقع، تعتبر تصريحات وزير الدفاع الصيني والباحث، هو ليانهي، إزاء النهج الصيني في إقليم سنجان أكثر الأمثلة تطرفًا على السياسة الحضارية التي أدت إلى ظهور الإسلاموفوبيا على مستوى العالم. ولمثل هذه السياسات دور كبير في تنامي القومية الهندوسية ومعاداة السامية، فضلا عن قيام الجهاديين بمذابح جماعية للمسيحيين واليزيديين وعدم اكتراث المجتمع الدولي إزاء اليمين المتطرف وتراخي بعض الحكومات في إعادة خلق مجتمعات متجانسة عرقيا ودينيا.
يشير تركيز داعمي فرض التعاليم الثقافية على التشدد فيما يتعلق بالحقوق المدنية وحقوق الإنسان والأقليات يعني تقليل احتمالية استباق حوادث التطرف والصراع العرقي والديني. وتجدر الإشارة إلى أنه كلما زاد الهوس بالهجرة، يتعزز خطر الصراع والنزاع الاجتماعي ويمسي خيار الفرار نحو مناطق أكثر أمنًا غير وارد شيئًا فشيئًا.
المصدر: مودرن ديبلوماسي