ترجمة وتحرير: نون بوست
تشن السلطة الفلسطينية منذ أكثر من ثلاثة أسابيع عملية “حماية وطن”، وهي حملة واسعة النطاق لتفكيك المقاومة الفلسطينية المنظمة في شمال الضفة الغربية. تهدف إلى نزع سلاح الفصائل التي تتألف أساسًا من شباب مخيمات اللاجئين، والذين تحصنوا في جنين وما جاورها من المناطق الريفية في العامين الماضيين، وقد أسفرت العملية حتى الآن عن مقتل ثلاثة فلسطينيين على أيدي قوات الأمن، كما قُتل اثنان من ضباط السلطة.
خلال العملية، انتشر مقطع فيديو على نطاق واسع لمقاتل فلسطيني شاب في جنين وهو يواجه عناصر من قوات الأمن الفلسطينية، في لحظة تختزل تمزق المجتمع الفلسطيني. كان صوته – الذي يتسم بالثبات والحزن ونبرة الاتهام – الصوت الوحيد المسموع في المقطع، مخترقا المشهد بلجهة تحدٍّ ورثاء في آنٍ واحد، متهمًا قوات الأمن الفلسطينية بالخيانة، ناعيًا المصلحة الوطنية المشتركة.
يذمّ الشاب قوات الأمن الفلسطينية مستدعيًا ذكرى الجنود الإسرائيليين الذين قُتلوا أو أصيبوا على الطريق ذاته الذي تستخدمه القوات الآن لفرض سيطرتها على مخيم جنين، وهو تذكير مؤلم بالمعارك التي خاضتها المقاومة ضد العدو الغاشم. صوت رجولي يدعو عناصر الأمن الوطني الفلسطيني إلى أن يستعيدوا رجولتهم ويرفضوا قتال المقاومة وينضموا إليها. تفيض كلماته بالألم والاستغاثة حين يتهمهم بالتخلي عن رجولتهم ويناشدهم ألا يجبروا المقاومة على استخدام القوة المميتة.
بمزيج من الغضب وضبط النفس، يشير المقاتل إلى قوة المقاومة الفلسطينية في جنين، بما تمتلكه من عبوات ناسفة لم يتم تفجيرها بسبب الرغبة في ضبط النفس وعدم التورط في صراع مع قوات الأمن الفلسطينية. مع نهاية المقطع، يرتفع صوته صارخًا بدرجة عالية من الألم: “يا حيف”، وهي عبارة رثاء مثقلة بمشاعر الخذلان، ينطقها في لحظات خيبة أمل عميقة وعدم تصديق لما يحدث؛ وتُستخدم عبارة “يا حيف” بالعامية في أنحاء بلاد الشام للتعبير عن الحزن العميق أو الأسف أو خيبة الأمل.
على مدار العقد الماضي، كشفت بعض المحطات عن تصدعات عميقة داخل المجتمع الفلسطيني، لكن القليل منها كان له صدى عميق مثل صوت أسيل سليمان. ففي 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، وفي مقطع استمر دقيقتين، أطلقت المذيعة الفلسطينية العنان لنقد لاذع لقرار السلطة الفلسطينية باستئناف التنسيق الأمني مع إسرائيل، وهي خطوة سوّق لها وزير الهيئة العامة للشؤون المدنية حسين الشيخ على نحو غريب باعتبارها “انتصارًا لفلسطين”.
لقد عبّر صوت أسيل سليمان الذي كان يرتجف من السخط عن إحباط الشعب الفلسطيني الذي خاب أمله منذ فترة طويلة من محاولات السلطة الفلسطينية إعادة صياغة الاستسلام على أنه انتصار، وفكّكت كلماتها الخطاب الأجوف، واخترقت عمق المواقف السياسية بوضوح تام. بنهاية المقطع، تستدعي أسيل أبياتا للشاعر المصري أمل دنقل، شاعر الحسرة والتحدي.
يستحضر دنقل في قصيدته “لا تُصالح” شبح عربي لا يخجل من نفسه، يخون براءة ذكريات الطفولة، وبعد سنوات من النضال، يختار طريق التطبيع مع العدو، والخضوع الهادئ الذي يلبس ثوب البراغماتية، يقول: “هل يصير دمي بين عينيك ماء؟”، رنين الاتهام حاد وحميم، ويكمل “أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء.. تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟”. كلماته لا تهدأ، تشرّح الخيانة وتسبر التقاطعات المضطربة بين الذاكرة والكرامة والخيانة.
رغم أن قصيدة “لا تُصالح” كُتبت قبل اتفاقية السلام المصري مع “إسرائيل”، والذي كان يلوح في الأفق عام 1976، إلا أنها تجاوزت منذ فترة طويلة سياقها التاريخي المباشر.
تلك اللحظات من الرثاء والتأنيب، سواء في صرخة “يا حيف” التي تتردد أصداؤها في معارك جنين اليوم، أو في مقطع أسيل سليمان الناقد لادعاءات النصر الجوفاء من النخبة الحاكمة في الضفة الغربية، مشبعة بمشاعر معقدة وسياسات متشابكة، فهي لا تجسّد السخط فحسب، بل تجسّد حسابًا أعمق للخسارة والخيانة والتوق الجماعي للمساءلة.
داخل هذه المساحات من المواجهة الصريحة، برزت شخصيات مثل نزار بنات الذي استعان بالفهم السياسي الثاقب وطلاقة اللسان في خطابات لاذعة ضد السلطة الفلسطينية. كانت لحظات من الاستبطان الجماعي المثقلة برهبة السؤال: “ماذا أصبحنا؟”، والاعتراف المضطرب بتشظي الوطن، والعجز عن المقاومة، والمكانة غير الواضحة للمقاومة في المشهد الفلسطيني المعاصر.
في أحد المستويات، تحمل هذه المراثي أملًا باقيًا: اعتقاد راسخ -مهما كان هشًا- بأنه يمكن إصلاح عملاء قوات الأمن الفلسطينية، وأنه لا يزال بالإمكان إحراجهم ليعترفوا بتواطؤهم ويتغيّروا. على مستوى آخر، تؤكد هذه الرثاءات على الخيارات الصعبة للغاية التي تواجه المقاتلين الفلسطينيين في جنين وخارجها، وهو تذكير صارخ بأن مقاومة السلطة الفلسطينية تعني أحيانًا أن تقاوم أبناء جلدتك. فالمقاومة هي مواجهة الذات، وهذه المواجهة تكشف القدرة الماكرة للسلطة الفلسطينية على تجنيد الشباب كأدوات لتحقيق أهدافها، وكما قال أحد سكان جنين: “إنهم يبتزوننا ببعض من لحمنا”.
إنها سياسة الخيانة الحميمة؛ حيث تتلاشى خطوط المعركة، ويخرج المقاتلون من الشوارع ذاتها، ويتحدثون اللهجة نفسها، ومع ذلك يخوضون حربًا من أجل مستقبل لا يمكن أن يكون أكثر تعقيدا. إن قوة جهاز الأمن في السلطة الفلسطينية لا يكمن في قدرته العملياتية أو التدريب الأمريكي الذي تلقاه في الأردن وأريحا، بل في التآكل البطيء والمنهجي للإيمان بنهج المقاومة والثقة به، وهي عملية مدروسة بقدر ما هي متواصلة.
فمن خلال إرسال شباب فلسطينيين لمواجهة شباب فلسطينين مثلهم، تجهّز قوات الأمن الفلسطينية مسرحًا مأساويًا يراق فيها الدم الفلسطيني دون أن ينتصر أي طرف، والنتيجة ليست مجرد اشتباك بالأسلحة، بل مبارزة طاحنة، وتنافس على من سيخضع أولاً، ومن سيتراجع، ومن سيرفض الذهاب إلى أبعد من ذلك، من سيقول: “الدم الفلسطيني لا يجب أن يراق”.
بالنسبة للكثير من الفلسطينيين، فإن شبح الاقتتال الداخلي الشامل مدمّر للغاية ولا يمكن تبريره، بغض النظر عن مدى نبل القضية، أو مدى الحاجة للقتال، أو حتى مدى عمق الدوافع، لكن قدرة السلطة الفلسطينية على قيادة الشباب إلى المعركة، وقدرة هؤلاء الشباب على مواجهة أبناء جلدتهم طواعية، تكشف عن قوة الدفع المقلقة في هذا المنعطف المحفوف بالمخاطر.
فالعديد من المستهدفين في حملة السلطة الفلسطينية هم أبناء أو أقارب عناصر الأمن الفلسطيني في جنين، وهم نتاج النسيج الاجتماعي نفسه، وينحدر العديد منهم من نفس الحاضنة التي تدين بالولاء لحركة فتح، الحزب الحاكم في السلطة الفلسطينية، مما يطمس الخطوط الفاصلة بين الولاء والمقاومة والخيانة بطرق تجعل المواجهة تتجاوز الأبعاد السياسية إلى أبعاد شخصية للغاية.
التعاون وسيلة للبقاء
تتمثل إحدى أكثر الحقائق المقلقة في اللحظة السياسية الراهنة – وربما واحدة من أوضح العلامات على الانحطاط الأخلاقي العالمي – في عجز العالم عن وقف الإبادة الجماعية أو عدم رغبته في ذلك، وهذا ليس مجرد غياب للفعل، بل هو تطبيع هادئ مع الفظائع، حتى بين أولئك الذين يدّعون التضامن مع فلسطين. هناك أيضًا تحركات واسعة النطاق لم تسفر عن تأثير كافٍ لوقف الآلة العسكرية الإسرائيلية أو تعطيلها مؤقتًا.
إن حملة “إسرائيل” الشرسة ضد غزة، وتحويل القطاع إلى أنقاض، ليست مجرد عملية عسكرية، بل هي عرض مسرحي ومشهد قاسٍ متعمد، وهذا الدمار الذي تدعمه أوروبا والولايات المتحدة يبث مجموعة من الرسائل المرعبة: تذكير كئيب للعالم العربي بعجزه، وتأكيد للفلسطينيين بأن المقاومة ستواجه دمارًا لا تهاون فيه، وتحذير مبطن لما يسمى بجنوب العالم بأنه عندما ترتفع المخاطر، سيتم تجاهل المعايير والقواعد الدولية لتحل محلها قوة الإمبراطورية الجامحة.
إن العنف بالنسبة للفلسطينيين خارج غزة ليس مجرد أمر يجب عليهم تحمّله فحسب، بل يجب قبوله في حياتهم كحقيقة ثابتة. فكل طفل يُدفن، وكل عائلة تُباد، وكل منزل يتحول إلى ركام، يصبح تذكيراً لهم بمكانهم في عالم يرفض وقف المجزرة، بل ويسمح بها في كثير من الأحيان. ومع كل صرخة من غزة لا تجد آذانًا صاغية، وكل رصاصة تستهدف طبيبًا أو ممرضًا، وكل منشور على وسائل التواصل الاجتماعي يعلن عن شهيد جديد، يستوعب الفلسطينيون حقيقة قاسية: أنه يمكن التخلص منهم بسهولة، وأن حياتهم لا تساوي شيئًا قبل موتهم بوقت طويل.
يتم الزج بالفلسطينيين، رغما عن إرادتهم، في مأساة تتكرر كل يوم، وكأن معاناتهم حتمية وأبدية في آن واحد. ومع كل مجزرة، يحاول أولئك الذين يسعون إلى اقتلاع فكرة المقاومة تذكير الفلسطينيين: “لماذا تجرأتم وتمردتم؟”.
ومع استفحال التطبيع مع الفشل في وقف الإبادة الجماعية، يبدأ الغضب في التفاقم. فالغضب الذي ينبغي توجيهه إلى منفذي الإبادة -إسرائيل- يتحول بشكل متزايد إلى الداخل، موجَّهًا إلى المقاومة نفسها، كفكرة وممارسة على حد سواء.
إن عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، يعاد تصويرها كلحظة جنون غير محسوبة العواقب، تساعد “إسرائيل” على ترسيخ روايتها عن الانتصار، وتغتنم السلطة الفلسطينية الفرصة لممارسة سلطتها ضد المقاومة التي تجرأت على تحدي الوضع القائم. لقد تبدد الإيمان بالمقاومة، وتآكلت الثقة في إمكانياتها إلى الحد الذي أصبحت فيه المقاومة نفسها كبش فداء، وبدأ رهان السلطة الفلسطينية السابق على إبقائها على الهامش يؤتي ثماره.
فمنذ أكثر من أربعة عشر شهرًا، والعالم يراقب تدمير غزة، ولاحقا نجاح “إسرائيل” في تحييد قدرة حزب الله العسكرية والسياسية على تقديم الدعم. تمهد اللحظة الحالية الطريق أمام أولئك الذين راهنوا طويلًا على عجز المقاومة، للتحرك وتوجيه قوتهم نحو ما تبقى من المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، مثلما تفعل السلطة حاليا.
لقد قوبل جحيم غزة – الألم والصدمة التي يعيشها العالم أجمع – بضجة عالمية غير عادية، وارتفعت أصوات الملايين من الطلاب والنشطاء والناس العاديين في العالم، وفضحت وسائل الإعلام جرائم “إسرائيل” بلا كلل، وظهرت همجية الجنود الإسرائيليين الساديين أمام أعين الجميع، لكن ذلك كله لم يوقف الآلة الغاشمة، واستمرت آلة التدمير الطاحنة غير مبالية بالمقاومة، وغير مبالية بالإنسانية التي تبيدها.
ولكن بينما يتفرج العالم، كان الفلسطينيون الذين يعيشون داخل نطاق السيطرة الإسرائيلية يراقبون أيضًا، وأصبح بقاؤهم متوقفًا على حسابات مشحونة يراهنون فيها سرًا على التعاون كوسيلة للصمود. بالنسبة لهم، يعني البقاء على قيد الحياة التنقل بين تروس الآلة التي لا ترحم، على أمل الصمود أمام ثقلها الساحق، حتى لو كان ثمن ذلك هو التعاون.
صراحة الخيانة
منذ وقت طويل، يبرّر أنصار محمود عباس تأييدهم له بالقول إن ميزته الأساسية هي صراحته، ويؤكد من يروج لهذه المقولة أنه على عكس أسلافه، لا يتاجر بالأوهام أو الشعارات السياسية، بل هو ملتزم دون خجل بالتعاون مع إسرائيل، وصادق في ذلك ومباشر ولا يخجل من نهجه الأحادي. ولكن هنا تكمن المفارقة: هذه “الصراحة” ليست فضيلة بالمعنى المتعارف عليه، بل هي الخيانة ذاتها.
يبدو الأمر كما لو أن صراحة أبو مازن في تحالفه مع “إسرائيل” مرونة أيديولوجية غير مفهومة، وهي المرونة التي تخفف من التناقضات العميقة في صلب قيادته للسلطة الفلسطينية. وهنا، لا تظهر “الصراحة” – وهي صراحة لا تُفهم على أنها نزاهة، بل شفافية ساخرة – كفضيلة أخلاقية، بل كأداة لإخفاء المكاسب المالية لصالح العائلة والمقربين.
في هذا الاقتصاد المشوه، تصبح شفافية النظام نفسها وسيلة لإخفاء الحقائق، فالاعتراف العلني بالإخفاقات والفشل والانهيار الأخلاقي، يُستخدم كاستراتيجية محسوبة لحماية النظام من الانتقادات. إن ما يتنكر في صورة الصراحة السلبية هو في الواقع رقصات ماكرة؛ حيث تتناغم الكلمات بسلاسة مع السياسات والأفعال، خيانة مقنعة في ثوب التماسك، ومشهد اعترافات ماكرة لنزع سلاح المعارضة. أبو مازن ليس منافقًا، لكن ينطبق عليه تماما ما يصف به نفسه.
الصراحة، عندما تُستخدم كأداة سياسية، تفتح عالمًا من التناقضات والأكاذيب. أن تكون صريحًا، بالمعنى الذي يقصده أبو مازن، يعني زعزعة الأساس الذي يرتكز عليه المعنى. إنها تعني تحويل الشجاعة إلى جريمة، والتضامن إلى فتنة، والمقاومة إلى تهديد ضد المجتمع.
ولا تعمل هذه “الصراحة” على التنوير بل على التعتيم، وتخلّف وراءها مشهدًا متلونًا تتحول فيه كل حقيقة إلى نقيضها. تُحوّل هذه الاستراتيجية الصراحة إلى سلاح، وتؤدي صراحة أبو مازن في هذه الحالة وظيفة غريبة. فبدلاً من أن يكون زعيمًا قوميًّا قد يخذل القضية أو يخونها في المستقبل، فإن خيانته الصريحة منذ البداية أعادت كتابة السردية نفسها عن القيادة والمساءلة.
ومن خلال تبني سياسة التواطؤ علنًا، يخلق أبو مازن درعًا متناقضًا: فالخيانة، باعترافه وإقراره، تصبح استراتيجية للتهرب من المساءلة تمامًا. ومع ذلك، يرحب العديد من الفلسطينيين بهذه الصراحة بشكل لا يمكن تفسيره، وهو أمر يبعث على الارتياح المرير في مشهد أصبح فيه سحق الآمال أمرًا لا يُحتمل. ربما من الأفضل أن يتحمل المرء قائدًا يعترف علنًا بالاستسلام، بدلاً من قائد يخفي خيانته وراء شعارات التحرير، أو قائد يسعى حقًا للتحرير، ومستعد للموت من أجله، لكنه يواجه في النهاية نفس خيبة الأمل القاتلة، وهو أمر أسوأ بكثير.
ولكن هذه الشفافية ليست خالية من المتواطئين، فهي تجد حليفها الأول في خطاب “الواقعية” و”البراغماتية”؛ حيث تُستخدم فزاعة “إسرائيل” القاسية والوحشية التي تحميها الإمبريالية لتجاهل المساءلة الأخلاقية أو لوصف المقاومة بالسذاجة.
أما الحليف الثاني فهو البنية الأساسية الاقتصادية المنسجمة بشكل دقيق مع الاستهلاك، والتي تعمل كمنطق مادي ورمزي في الوقت نفسه. إن هذه البنية التحتية لا تعمل على تشكيل رغبات السكان فحسب، بل تعمل أيضًا بنشاط على فرض الظروف التي يظهر فيها الخضوع باعتباره مسار العمل “العقلاني” الوحيد، وأنه أيضًا المسار الذي يلبي الرغبة في متابعة اتجاهات “تيك توك”، أو الوقوع في حب من أول نظرة في مركز تسوق عصري.
وبهذا المعنى، لا تصبح الخيانة مجرد خيار سياسي، بل تصبح نمط حياة يتخفى وراء لغة الضرورة والحتمية. ولكن رغم كل هذا، لا يقدم أبو مازن بعض الخيارات السياسية الأخرى، لا طوفان أقصى، ولا خروقات أو تجاوزات تمزق الوضع القائم وتفتح آفاقًا للتحرر. بدلًا من ذلك، هناك إيقاع متكرر من التواطؤ، ورغم أنه إيقاع مكلف، إلا أنه يظل ثابتًا ومستقرًا، ويرسم مسارًا بائسًا يمكن توقع مآلاته دون عناء.
ومنذ الأيام الأولى للحملة الجوية الإسرائيلية المدمرة على غزة، انتشرت مقاطع فيديو على “تيك توك” لخطابات أبو مازن التي يوجه فيها أبو مازن انتقادات لاذعة للمقاومة ويتهمها بعدم الواقعية. وبمرور الوقت، سيحل منطق أبو مازن محل الموقف الجريء للسنوار باختراق غلاف غزة، وهي البادرة التي مزقت نسيج السيطرة على القطاع وأشعلت الحرب.
لا يتماشى هدوء أبو مازن مع آلية الاحتلال فحسب، بل أيضًا مع خوف متجذر في أعماقه، متناغمًا مع اليأس المكبوت للفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس وفي داخل إسرائيل. إنها سياسة تعلن عن “مصداقيتها” من خلال فعل الاستسلام ذاته، وهي جدلية يصبح فيها العجز والخيانة البديلين الوحيدين للفوضى والإبادة.
يبدأ منطق أبو مازن، الذي دمره القصف حتى أصبحت الأنقاض شاهدة عليه، في التسلل إلى النسيج الفكري، ليكتسب زخمًا مع رجع الصدى المألوف. يعود المثقفون الفلسطينيون إلى تكرار انتقاداتهم لمحور المقاومة، مشككين في مصداقيته، منددين بالتوجهات الإيرانية، زاعمين أن عبثية النضال المسلح لا تخلق حلولا سياسية.
ويدافع العديد من هؤلاء المثقفين عن “أشكال المقاومة البديلة”، أو على نحو أكثر مكرا، عن “هدوء الاستسلام”. وفي الوقت نفسه، يهمس آخرون متحدثين عن نكبة أكثر تدميرًا من نكبة 1948، كارثة هادئة تتكشف بإيقاعها الذي لا يرحم.
وتتراكم الحجج مثل الأنقاض: لا يمكن التغلب على قوة الجيش الإسرائيلي المدعوم بشكل صارخ من الطبقات الحاكمة الغربية، وحتمية الخضوع يتم تصويرها على أساس أنها واقعية في التعاطي مع المعطيات الراهنة. تنقلب الخطابة على نفسها، وتنزع سلاح المقاومة ليس من خلال القوة الغاشمة وحدها، بل من خلال تآكل أرضيتها الفكرية والأخلاقية، فلا يصبح الصمت تعبيرا عن الموافقة، بل صدى للاستسلام المتعمد.
ما كان مفاجئًا ليس فقط أن يشن جهاز الأمن الفلسطيني عملية جديدة ضد ما تبقى من المقاومة المنظمة في شمال الضفة الغربية، بل أيضًا مدى التواطؤ الفكري والإعلامي والسياسي الذي رافق العملية.
لم يتم التسامح مع العملية فحسب، بل تمت شرعنتها بشكل فعال، وغالبًا من خلال انتقاد أسس ومنطق المقاومة نفسها. فقد قوبلت العملية بالنسبة للكثير من الفلسطينيين بالصمت، إذ غابت الاحتجاجات والتحركات الواسعة، باستثناء الحاضنة الاجتماعية للحركة المسلحة في جنين.
لقد أفرغت الهجمات الفكرية والحرب النفسية المستمرة – إلى جانب وحشية “إسرائيل” ونجاحها في احتواء محور المقاومة – الدعوة إلى المقاومة من مضمونها، وتضاءلت قيمها وبنيتها الوجدانية وصداها العاطفي الذي كان يوحد قوى النضال في يوم ما، تاركة وراءه أرضًا تتسم بخيبة الأمل والشك. وفي هذا السياق، يبدو استقرار الخيانة ووضوحها السافر أكثر قبولًا من حالة عدم اليقين التي ترافق المقاومة.
كسر المحرمات
لقد بلغ جحيم غزة ذروته في لحظة أصبح فيها كسر الأعراف أمرًا شبه اعتيادي. فقد تفككت المحرمات التي كانت راسخة في السابق، وتحديدا المواجهة المباشرة بين قوات الأمن الفلسطينية وفصائل المقاومة في شمال الضفة الغربية.
بفضل نجاحها في أن تثبت للفلسطينيين أن التعاون يضمن لها البقاء في الوقت الراهن، تجرأت السلطة على الزحف بقواتها إلى قلب مخيم جنين للاجئين. وهناك، أطلقت النار على أحد أبرز قادة المقاومة، وسفكت دم طفل فلسطيني في هذه العملية، وتعهدت بالبقاء حتى يتم نزع السلاح من جنين ومخيمها.
لسنوات، كان هناك قاعدة غير معلنة بين الفلسطينيين – وخاصة الملتزمين بالمقاومة – وهي: تجنب الاقتتال الداخلي، وخاصة إراقة الدم الفلسطيني. كانت هذه القاعدة أكثر من مجرد فكرة، بل مبدأً أخلاقيًا يُطبق حتى في أصعب اللحظات.
فعندما حاصرت قوات الأمن الفلسطينية باسل الأعرج ورفاقه، كان بإمكانه أن يقاوم، وأن يخوض معركة بالأسلحة قد تتحول إلى مأساة. لكن باسل اختار الاستسلام، متحملاً الاعتقال والتعذيب بدلاً من انتهاك الحدود الهشة التي تربط مجتمعًا ممزقًا ومحاصرًا.
في اللحظة الراهنة، يتهاوى مفهوم “المقاومة”، كفكرة وممارسة على حد سواء، تحت وطأة وحشية “إسرائيل” واستعدادها لاستخدام كامل قوتها العسكرية أمريكية الصنع. ويبدو أن السلطة الفلسطينية، التي تسعى دومًا لإرضاء “إسرائيل” والولايات المتحدة، مستعدة بشكل متزايد للمجازفة بإثارة حرب أهلية داخلية.
فهي مستعدة لسفك الدم الفلسطيني، ليس فقط لإظهار قدراتها في تكتيكات مكافحة التمرد، بل أيضًا لاستغلال الخطورة الرمزية والمعنوية لشبح الاقتتال بين الأشقاء، وهو سلاح لا يقل قوة عن أي سلاح آخر في الحفاظ على قبضتها على السلطة. وقد اختارت أن تفعل ذلك في وقت تتراجع فيه حركات المقاومة، بينما تتصاعد القوى الداعية للبقاء من خلال التعاون.
وتُعد هذه العملية خطيرة، حيث تحمل في طياتها احتمالا حقيقيًا بأن تأتي بنتائج عكسية، مع تفاقم خطر الاقتتال الداخلي، ويصبح استهداف الكوادر المشاركة في عملية قوات الأمن الفلسطينية، أو الذين أمروا بها، أكثر وضوحًا، وعملا مبررًا بالنسبة للكثيرين.
وتراهن السلطة الفلسطينية على أن المقاومة وكوادرها، مثل باسل الأعرج، ستختار تجنب إراقة الدماء بين الفلسطينيين، مفضلة الاستسلام حتى لو كان الثمن الاعتقال والتعذيب.
لكن ما هو مؤكد أن الخط الأحمر المتفق عليه منذ زمن طويل، بتجنب إراقة الدم الفلسطيني – وهو خط أخلاقي هش لكنه حاسم – قد وفر تاريخيًا حاجزًا يحمي الطبقة الحاكمة وأولئك الذين يسعون إلى تحدي سلطتها. وقد عملت السلطة الفلسطينية على استغلاله لمنع النزاعات العائلية وفض التناقضات الداخلية بين مختلف القوى السياسية.
من خلال تجاوز هذه الحدود، لا يخاطر الرئيس الفلسطيني بشرعيته فحسب، بل يفكك أيضًا حاجزًا أخلاقيًا مشتركًا كان يمنع الانزلاق إلى الصراع الداخلي. لقد اختارت السلطة الفلسطينية كسر هذا المحظور في وقت بلغ فيها منطق التعاون – المدعوم بوحشية “إسرائيل” وسردية الضرورة – ذروته.
ومع ذلك، فإن هذا القرار قد لا يمرّ دون عواقب؛ فهو يقوض نفوذ السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وقد يعمق التصدعات التي تسعى إلى رأبها. وفي النهاية، فإن عملية بهذا الحجم، تخلق حتمًا حالة من عدم اليقين، مما يفكك أحد الركاز التي تدفع الفلسطينيين إلى التمسك بالسلطة الفلسطينية في المقام الأول.
وكلما طال أمد عملية قوات الأمن الفلسطينية، وازدادت دمويتها، وزادت التضحيات التي تتطلبها، ارتفع صوت أجراس الخطر التي تقرع للطبقة الحاكمة في الضفة الغربية. وفي مثل هذا المشهد، ستتراجع لغة الرثاء أو التأنيب تحت وطأة الدماء المسفوكة. وكلما ارتفعت الأجراس، ستطغى صرخات الانتقام على نداءات ضبط النفس، وسيتحول الحزن إلى مطالبة بالمحاسبة.
المصدر: موندويس