تواجه مدينة الموصل وما حولها تحالفًا ثنائيًا يعيق عملية التحول والخروج من هذه المرحلة الانتقالية الواقعة بين الحرب وإعادة الإعمار والاستقرار، وهو تحالف “الفساد والإرهاب” الذي يضع العراقيل والعقبات أمام الحلول التي تنتظرها المدينة بفارغ الصبر، ناهيك عن وجود جهات تجر المدينة إلى منعطف الإرهاب من جديد جراء استشراء الفساد السياسي الإداري والمالي وغياب الإجراءات الرادعة التي توقف الإصرار على السير نحو الفوضى، وكأن دروس وخسائر البشر والحجر والمال والتاريخ ليست كافية لمدينة تعاني بكل تفاصيل الحياة فيها.
ملفات المدينة متداخلة ومتشابكة عضويًا، فالأمن مرتبط بالفساد المالي والاقتصادي والإداري والخدمي والتهريب، وليس هناك ملف من ملفات المدينة إلا وتجد أذرع للفساد والفاسدين وهم بذلك يمنحون فرصة ذهبية لعودة الإرهاب، فما يجري في محافظة نينوى ككل هو إعادتها إلى ما قبل سقوطها بيد داعش سياسيًا وأمنيًا مع غياب – ومحاربة – أي مشروع سياسي مقبول ينتشلها من الفساد وخطر عودة الإرهاب.
فغياب الشرطة المحلية والقوات المشتركة من أبناء محافظة نينوى سُيشعر الموطن الموصلي بالخوف الذي يخلق عدم التعاون مع الأجهزة الأمنية، وقد سُجلت حالات عديدة للخوف من التعامل مع الأجهزة وعدم الإبلاغ عن عناصر داعش لعلمهم بعدم جدواها سواء على سلامتهم من عناصر داعش أم من تلك الأجهزة، ناهيك عن وجود شلل وموت سريري لأي مظهر من مظاهر الدولة، ويلاحظ ذلك أي مواطن بسيط عندما يتعامل مع القوى الدخيلة والغرباء والشخصيات الفاسدة والميليشيات أو المؤسسات ودوائر الدولة الهشة التي تعج بالفساد والفاسدين.
التجاوزات لم تقتصر على الميليشيات وعصابات السلطة والأحزاب المتنفذة إنما وصل الأمر إلى المؤسسات الدينية
تقوم المكاتب الاقتصادية التي تتبع ميليشيات أو أحزاب في بغداد وشخصيات نافذة باتباع خطوات داعش في تهريب النفط وأخذ الإتاوات وابتزاز ميسوري الحال ومصادرة العقارات والسجن والمحاكمات القاسية بشهود الزور بحق الأبرياء وتبرئة الدواعش بمبلغ 5000 $، مع منح المجرم وثيقة “إثبات” ليتحرك بها ويتجاوز أي اعتراضات أو عراقيل تحاسبه أو تتأكد من صلته بالتنظيم، فهؤلاء يمارسون أفعال داعش التي وصفوها بأبشع الأوصاف – لكن مع فارق بسيط – أن أفعالهم التي يقومون بها تجري بثوب الدولة وعلمها وغطائها ويتاجرون بخراب وسكراب الموصل، وغالبًا ما تُقيَّد تلك الأفعال ضد مجهول أو استخدام عبارات فضفاضة مثل “تدعي انتماءها للحشد” وهذه الكلمة لا تُحمَّل الميليشيات الدخيلة والغرباء المسؤولية، خاصة أن المعلومات المتوافرة تؤكد أن أغلب تحركات تلك المكاتب وتهريبها للنفط والأغنام والسجائر والسكراب تتم بتصاريح من الأمانة العامة لمجلس الوزراء أي من أعلى سلطة في البلاد!
التجاوزات لم تقتصر على الميليشيات وعصابات السلطة والأحزاب المتنفذة، إنما وصل الأمر إلى المؤسسات الدينية كالوقف الشيعي الذي تجاوز على أملاك وعقارات تابعة للوقف السني وحولها إلى أسواق تجارية كما سيطر على 48 مرقد تابع للوقف السني وحولها للوقف الشيعي!
بحسب التقارير التي يؤكدها المسؤولون الأمنيون سواء العراقيين أم الغربيين فإن عناصر داعش تنشط في مناطق عدة وبنسب مختلفة تزداد وتنقص بحسب عدد العناصر وجغرافية المنطقة والوجود الأمني والتمويل والحاضنة، فهم يركزون على مناطق ما حول الموصل في القيارة والحضر ومنطقة عطشانة والجدعة وحمام العليل والنمرود، وأخطرها منطقة الجزيرة والقوسيات وسنجار ومخمور والمناطق الجبلية.
من جهة أخرى، هناك نقص في المحافظة بحدود 15 ألف شرطي و35 مركز شرطة و4 أفواج طوارئ، بالإضافة إلى أن السيطرات الأمنية المنتشرة في المحافظة، يرى العديد من المسؤولين أنها عديمة الجدوى وهي ليست إلا ديكورًا أمنيًا لعدم امتلاكها للتجهيزات الفنية واللوجستية كالسونار والكاميرات الحرارية وكشف المتفجرات، لتحقق غاياتها في حفظ الأمن والقبض على عناصر الإرهاب المتسللين، فهناك عناصر يُطلق سراحهم من السجون بسبب الفساد، فكيف سُيقبض على المطلوبين، فهي بهذا الوضع ليست إلا سيطرات لتعطيل حياة المواطنين واستفزازهم وابتزازهم ورفع عتب أمام المواطن.
تعدد الجهات المسؤولة يضيع المسؤولية والمحاسبة وتحديد ما الجهة المقصرة
كما تعاني الكثير من المناطق من عدم توافر قوات كافية من الشرطة والجيش والحشود والأجهزة الأمنية الأخرى ويصل النقص في بعض المناطق إلى النصف، فلا تتمكن من السيطرة عليها، كما تعاني بعض الحشود من ضعف التسليح وعدم صرف الرواتب مما يدفع بعض ضعاف النفوس إلى العمل مع الميليشيات في الابتزاز والسرقة أو تكوين عصابته الخاصة.
فهناك سوء إدارة للملف الأمني وسوء تقدير للخطر الأمني، فمثلاً تنتشر قطاعات ما يقرب من فرقة ونصف على القاطع المحاذي لإقليم كردستان رغم أن الوضع الأمني لا يستوجب وجود هذا الحجم من القطاعات ويتطلب إعادة انتشار وتموضع، ناهيك عن أن تعدد الجهات المسؤولة يضيع المسؤولية والمحاسبة وتحديد ما الجهة المقصرة.
الأخطر أن الفساد دخل أخطر الأجهزة الأمنية العراقية وأكثرها حساسية وهي “جهاز المخابرات” هذا بحسب تقرير “لجنة تقصي الحقائق حول الوضع في نينوى”، ناهيك عن وجود عشرات المنظمات الإنسانية والمجتمع المدني دخلت إلى المحافظة تعمل كواجهات لأجهزة استخبارات إقليمية ودولية دون أن تتوافر أي جهود أمنية عراقية لمتابعة طبيعة عملهم وغاياتهم.
أخيرًا، هناك آمال محلية كبيرة تطمح لإيقاف الانحدار نحو الفوضى بالتغييرات والقرارات الأخيرة في محافظة نينوى بعد كارثة العبارة وآمال أخرى على إيقاف الاستهتار بالمدينة وأزماتها، لكن يبقى السؤال الأهم: هل سيستطيع المخلصون من أبناء المدينة مواجهة الفساد والميليشيات الدخيلة والقوى التي تتربص بالمدينة واستقرارها؟