ترجمة حفصة جودة
لقد قام علي بكل ما يفترض به أن يفعله، فقد تحمل لمدة عقدين من الزمان ساعات العمل العصيبة في متاجر نيويورك الصغيرة وجنى ما يكفي من المال لبناء منزل مكون من 4 طوابق في بلده الأم “اليمن”.
وفي أثناء زيارته لليمن عام 2015 تزوج علي وخطط للانتقال بزوجته من مدينتهم “إب” إلى منزلهم الجديد في صنعاء، لكن أحلام علي انهارت عندما ضربت غارة جوية للتحالف بقيادة السعودية منزله الفارغ في صنعاء، فتغير مستقبله في لحظة، يقول علي بسخرية: “يجب أن أعمل الآن 20 عامًا أخرى كي أعيد بناء المنزل”.
لم يستسلم علي وحاول إعادة بناء حياته واستعادة مستقبله، وبعد فترة وجيزة عاد إلى اليمن ثم أصبح أبًا عام 2017، لكنه لم يلتق بابنه إلا من خلال شاشة الهاتف، فأسرته لا تستطيع الانضمام إليه في أمريكا بسبب سياسة المهاجرين الحاليّة لواشنطن، ونظرًا للحرب في اليمن فهو يخشى أن تموت أسرته خلال 10 سنوات، ورغم أن قصة علي مأساوية فإنها ليست فريدة من نوعها.
اليمنيون في أمريكا: حيوات متوازية
تمتلئ نيويورك وبقية مدن أمريكا بقصص كثيرة مثل قصة علي، عن يمنيين أمريكيين صنعوا حياتهم في الولايات المتحدة ليتحول مستقبلهم في النهاية إلى الأسوأ، ويواجهون صعوبات لا تقهر لإعادة شمل عائلاتهم، ولا يمكنهم التمتع بثمار عملهم الشاق.
مدينة إب التي ينحدر منها معظم اليمنيبن العاملين في نيويورك
يملك اليمنيون ويديرون العديد من متاجر الأطعمة في أمريكا لأكثر من نصف قرن، وتقدر رابطة التجار اليمنيين الأمريكيين “YAMA” أن هناك نحو 5000 متجر يديره اليمنيون في نيويورك وحدها.
يشير يوسف مبارز مدير العلاقات العامة للرابطة أن سبب نجاح اليمنيين يرجع إلى أخلاقياتهم في العمل ودوافعهم الريادية وفطنتهم في العمل وكذلك علاقاتهم الأسرية والاجتماعية.
ينحدر معظم هؤلاء اليمنيون من مدينة إب أكثر المدن اليمنية ازدحامًا وأجملها، حيث تعرف بـ”إب الخضراء” وهي مشهورة بأرضها الخصبة والبساتين الطبيعية المدرجة المليئة بعشرات القصور الصغيرة، ويمتلك اليمنيون الأمريكيون العديد منها.
جاء عبد الله مبارز – جد يوسف مبارز – إلى الولايات المتحدة في الستينيات من القرن الماضي وفتح متجرًا للأطعمة الجاهزة في بروكلين، بينما ظلت زوجته وأطفاله في اليمن وكان يعود إليهم عدة أشهر كل فترة، انضم والد يوسف إليه وهو في عمر 10 سنوات وعمل في المتجر قبل أن يتمكن من فتح متجره الخاص في عمر الـ14، ومثل العديد من اليمنيين في نيويورك أصبح لعائلة مبارز جذورًا في أمريكا مع الحفاظ على الروابط العميقة في البلاد.
تعد المتاجر التي يعمل بها اليمنيون نقطة مركزية للقاء وتبادل الأخبار
يحافظ هؤلاء المواطنون الأمريكيون الجدد على جذورهم العميقة بشكل جزئي في كلا البلدين وذلك بإبقاء أسرهم في اليمن ويعودون إليهم في زيارات طويلة، فتنقسم حياتهم ما بين حياة العمل في أمريكا والحياة الأسرية في اليمن قبل أن يتقاعدوا في النهاية ويعودوا إلى وطنهم، يقول مبارز: “عندما يكونون هنا فهم أمريكيون وعندما يكونون في اليمن فهم يمنيون، وهم بذلك يحتفظون بكلتا الثقافتين”.
ضربة مزدوجة من الحرب وحظر السفر
لكن هذه النسخة اليمنية من الحلم الأمريكي أصبحت كارثية في السنوات الأخيرة، فقد تضرر نمط الزيارات والهجرة لليمنين الأمريكيين العاملين في هذا المجال الذين يحتفظون بهوياتهم المركبة وفي بعض الأحيان حيوات منقسمة، بسبب هذين العاملين.
ففي البداية كان الصراع الذين اجتاح اليمن في 2015 وتسبب في أسوأ أزمة إنسانية عالمية، في أبريل 2019 تنبأ تقرير الأمم المتحدة أنه بنهاية هذا العام سيكون الصراع قد أزهق أرواح 230 ألف يمني غالبيتهم نتيجة الأمراض والمجاعة.
بعد ذلك في يناير 2017 أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حظر سفر العديد من مواطني دول مسلمة ومن بينها اليمن ومنعهم من دخول أمريكا، ووفقًا لتقرير وزارة الخارجية السنوي بشأن إصدار التأشيرات فقد انخفض حصول اليمنيين على تأشيرات الهجرة بنسبة 80% في عام 2018 مقارنة بعام 2017 ومن بينهم انخفاض بنسبة 75% في تأشيرات اليمنيين مع أقاربهم من المواطنين اليمنيين الأمريكيين.
اليمنيون الأمريكيون يحتجون على حظر السفر في سان فرانسسكو
جاء فؤاد – 35 عامًا – إلى نيويورك عندما كان مراهقًا للعمل مع ابن عمه، وكان يحلم دائمًا بالحياة الأمريكية مع أسرته بدلاً من تقسيم حياته بين اليمن وأمريكا، وفي 2016 تزوج فؤاد في إب بسبب إلحاح أقاربه لكن بعد 3 سنوات ما زال ينتظر تأشيرة زوجته، تحولت حياته إلى مأساة خاصة بعد وفاة ابنته الرضيعة، ويتساءل فؤاد هل سيتحقق حلمه الأمريكي ومتى قد يحدث ذلك.
بعد زيارته لليمن لمدة 6 أشهر في 2018 أنجبت زوجته طفلهما الثاني في شهر فبراير هذا العام، ومثل علي؛ لم يلتق فؤاد بابنه عبد الفتاح بعد والذي أسماه تيمنًا باسم والده الذي قتل في الحرب وترك وراءه 9 أبناء، ويخطط فؤاد لزيارة اليمن العام المقبل رغم المخاطر، وحتى ذلك الحين فهو دائم القلق على سلامة أسرته، يقول فؤاد: “في كل صباح أستيقظ وأدعو الله ألا يصيبهم مكروه”.
أما سليمان – 40 عامًا – فقد وصل إلى نيويورك عام 1997 وبدأ في العمل بمتجر الأطعمة الجاهزة لعقد من الزمان قبل أن يتمكن من شراء متجره الخاص مع شقيقه، ومع وجود زوجته وابنتيه في اليمن كان سليمان يعيش تلك الحياة المزدوجة.
لكن بعد أن حطمت شظايا قنبلة زجاج منزله في إب عام 2015، توسلت إليه ابنته الصغرى – وكانت 4 أعوام حينها – أن يخرجهم من اليمن، ولحسن حظه تمكن سليمان من استخراج التأشيرات قبل حظر السفر، وعاد إلى اليمن ليأخذ أسرته في رحلة شاقة إلى الولايات المتحدة من خلال عدن والبحر الأحمر وجيبوتي.
اليمنيون يحفرون قبورًا للأطفال بعد استهداف حافلتهم في غارة جوية سعودية بصنعاء
ما زالت ابنة سليمان الكبرى – 14 عامًا – تصر على رغبتها في العودة إلى اليمن يومًا ما، أما مستقبله ومستقبل أسرته التي انضم إليها ولدان ولدوا في أمريكا فقد أصبح هنا، لقد أجبرتهم الحرب على الحياة في نيويورك حيث لم يحصل على إجازة منذ 3 سنوات، وما زال سليمان يشعر بالقلق على عائلته الكبيرة في اليمن حيث يقول: “أعمل طوال اليوم لكنني لا أنفك عن التفكير في عائلتي وهل هم بخير وما زالوا على قيد الحياة؟”.
الشتات يفرض نفسه
أصحبت الحياة المنقسمة بين اليمن ونيويورك غير متاحة في 2019، وبدأ حلم العودة إلى اليمن في التلاشي، فالواقع القاسي بالإضافة إلى الخوف على العائلات أدى إلى قيام العديدين مثل سليمان بجلب أسرهم إلى أمريكا، لكن الكثيرين مثل علي وفؤاد لم يتمكنوا من ذلك بسبب حظر السفر.
ورغم الخسائر العاطفية والمادية، فإن آلاف اليمنيين في نيويورك ما زالوا يحاولون الاتصال باليمن، فهم يقضون ساعات طويلة من العمل والتحدث مع الأصدقاء عن العودة للوطن، ويستمرون في العمل لمناوبات طويلة حتى يتمكنوا من إرسال المال إلى عائلاتهم المتأثرة بالحرب ونقص المال.
يمنيون ومسلمون آخرون يتظاهرون ضد صحيفة نيويورك بوست
ومع ذلك قام العديدون برحلات شجاعة إلى اليمن رغم المخاطر، كما وجد الكثيرون متنفسًا في المشاركة ببعض الأنشطة مثل إظهار تأثيرهم السياسي والاقتصادي، ففي 2017 أغلق آلاف من مالكي المتاجر الصغيرة متاجرهم وتظاهروا في شوارع نيويورك ضد حظر السفر.
يقول يوسف مبارز إن اليمنيين الأمريكيين يشاركون في السياسة دائمًا، ويضيف: “بمجرد أن أدركنا تأثيرنا، ليس فقط كمواطنين ولكن كتجار وأصحاب عمل، تقدمنا لتعزيز مجتمعنا”، وما زال هذا الإصرار مستمرًا، ففي أبريل بدأ مئات اليمنيين من مالكي المتاجر في مقاطعة “نيويورك بوست” بسبب صفحة البداية التي استهدفت سيدة الكونغرس المسلمة إلهان عمر.
تمتلئ نيويورك بقصص اليمنيين التي تدمي القلب، وتشعر فيها بقلق وآلام أصحابها، لكنهم يتمتعون أيضًا بمرونة استثنائية وشجاعة وأمل، يقول علي: “الله يأتي بالخير، لا شيء يبقى على حاله للأبد”.
المصدر: ميدل إبست آي