عام 1941، وفي خضم الحرب العالمية الثانية، هددت قوتان إمبراطوريتان (الاتحاد السوفيتي وبريطانيا) إيران بالغزو، رغم أن الأخيرة أعلنت رسميًا الحياد في النزاع، وبينما اعترفت القيادة الإيرانية بخطورة الموقف، رفض الإيرانيون الانصياع للإنذار السوفيتي البريطاني، فقد كانت المقاومة والهزيمة العسكرية بالنسبة لهم أكثر احتمالًا من “الخيانة والاستسلام”.
ومع التفاوت الكبير في العدد والعتاد بين القوتين، هُزم الجيش الإيراني بسرعة واحتلت القوات الإمبراطورية السوفيتية والبريطانية البلاد لعدة سنوات، لكن على الرغم من ضعفها الشديد، استمرت طهران في الكفاح من أجل سيادتها، وبعد مرور عام على انتهاء الحرب، تمكنت من استعادتها، حيث أُجبر المحتلون على الانسحاب.
هذه الواقعة، إلى جانب العديد من الأحداث الأخرى في تاريخ إيران الحديث، تدل على أن المقاومة جانب أساسي في الثقافة السياسية الإيرانية، وأنها كانت دائمًا قوة دافعة في سياستها الخارجية، واليوم، حيث تواجه البلاد تهديدًا آخر لسيادتها، فإنها ستلتزم بهذا المبدأ الدقيق نفسه، ويضمن هذا، إلى جانب عدد من العوامل الأخرى، الفشل النهائي لمحاولة الولايات المتحدة إجبار الإيرانيين على الاستسلام.
إدارة ترامب لا ترغب في التعلم من دروس التاريخ الإيراني
بعد عقود طويلة مرت على الحرب العالمية، تواجه البلاد اليوم خصمًا آخر يبدو في ظاهره اقتصاديًا أكثر من كونه عسكريًا، وتمثل آخر حلقاته في إعلان وزارة الخزانة الأمريكية يوم أمس الجمعة فرض عقوبات جديدة على إيران تستهدف صناعة البتروكيماويات في البلاد، بما في ذلك أكبر مجموعة قابضة للبتروكيماويات لديها (شركة الخليج الفارسي)، لتوفيرها الدعم المالي للذراع الاقتصادية للحرس الثوري الإيراني المسؤول عن برنامج الصواريخ الباليستية والبرنامج النووي.
“الاستسلام لواشنطن ورفع الراية البيضاء بسبب العقوبات بنظر طهران أشد قسوة وصعوبة من العقوبات الأمريكية، وتداعياتها المؤلمة على اقتصاد البلاد”، يقول كبير محللي الشأن الإيراني بمجموعة الأزمات الدولية علي فايز
بهذه الطريقة تواصل واشنطن الضغط على طهران بسبب برنامجها النووي والصاروخي، ولشن الأخيرة حروب بالوكالة في دول الشرق الأوسط الأخرى، لكن في الوقت الذي تستهدف فيه واشنطن تجفيف منابع تمويل القوة العسكرية الإيرانية، ترفض إيران أيضًا فكرة إجراء محادثات دولية أوسع نطاقًا بشأن برنامجها النووي وطموحاتها العسكرية، وتعلن أنها لن تناقش سوى الاتفاق المبرم عام 2015 مع القوى العالمية.
وتأتي الإجراءات الجديدة التي يراها محللون “رمزية إلى حد بعيد” في أعقاب جولة من العقوبات التي فرضت الشهر الماضي استهدفت عائدات صادرات إيران من المعادن الصناعية، ففي أبريل/نيسان الماضي، أعلنت إدارة ترامب أنها لن تجدد إعفاءات العقوبات للدول التي تشتري النفط الإيراني، وهددت باتخاذ تدابير عقابية لمن ينتهكون نظام العقوبات الصارم الذي فرضته.
ازداد التوتر بين الولايات المتحدة وإيران حيث فرضت واشنطن المزيد من العقوبات على طهران
منذ ذلك الحين، صعَّدت إدارة ترامب تهديداتها وخطابها العدائي الذي دفع أكثر باتجاه حملة “الضغط القصوى” ضد طهران، وتلك فرضية ترى فيها واشنطن أن دفع العقوبات الأمريكية للاقتصاد الإيراني إلى حافة الهاوية سيجبر الإيرانيين على الانتفاض ضد حكومتهم ويجبر الجمهورية الإسلامية على “التصرف بشكل عملي”، لكن هذا السيناريو يبدو غير واقعي رغم كثرة تناول وسائل الإعلام له.
فمع أن العملة الإيرانية فقدت ثلثي قيمتها، وصادرات النفط انخفضت لأكثر من النصف منذ 2016، ورغم الأزمة الإنسانية والنقص في الغذاء والدواء، فلا يوجد حتى الآن أي مؤشر على أن سياسات إيران الإقليمية تتغير أو أن قادتها على استعداد للعودة إلى طاولة المفاوضات والخضوع لمطالب إدارة ترامب، كما لا يوجد أي تلميح إلى أن المصاعب الاقتصادية قد تسببت في اضطرابات شعبية بشكل يهدد بقاء النظام.
رغم هذه المؤشرات الإيجابية نسبيًا من وجهة النظر الإيرانية، تأمل واشنطن أن تؤدي إستراتيجية إظهار فشل الدولة نتيجة لانهيار اقتصادي إلى إنهاك طهران وإجبارها على الوصول إلى طاولة المفاوضات بشروط أمريكية جديدة، ولكن على العكس من ذلك قد يعود التصعيد الأمريكي بخيبة أمل كبيرة، ففي ظل وجود تهديد وجودي، فإن النجاة تهم الجمهورية الإسلامية.
نجت قيادة الجمهورية الإسلامية بالفعل في إقناع الشعب الإيراني أن أي استرضاء للولايات المتحدة سيكون بمثابة استسلام، وذلك من خلال الاستجابة لتهديدات إدارة ترامب بخطاب أكثر تحديًا
وفي هذا الصدد، يقول كبير محللي الشأن الإيراني بمجموعة الأزمات الدولية علي فايز في مقال بمجلة “ذي أتلانتك” الأمريكية: “الضغوط القصوى التي يمارسها ترامب علي إيران لن تمكنه من تركيعها”، ويرى أن الاستسلام لواشنطن ورفع الراية البيضاء بسبب العقوبات بنظر طهران أشد قسوة وصعوبة من العقوبات الأمريكية وتداعياتها المؤلمة على اقتصاد البلاد.
وبينما تتوقع إدارة ترامب “أقصى ضغط” لترك إيران دون خيار سوى الاستسلام، فإن الإجماع في البلاد أنه مهما حدث فإن الإيرانيين يقاومون حتى الآن، ولا يُقصد بالمقاومة هنا منع الضرر الناتج عن العقوبات الأمريكيَّة، بل النجاح في تقليص الضرر إلى أقصى الحدود ولأطول فترة من الزمن دون تراجع مواقف النظام تجاه واشنطن.
وقد نجحت قيادة الجمهورية الإسلامية بالفعل في إقناع الشعب الإيراني أن أي استرضاء للولايات المتحدة سيكون بمثابة استسلام، وذلك من خلال الاستجابة لتهديدات إدارة ترامب بخطاب أكثر تحديًا، فمرة تهدد بإغلاق مضيق هرمز، ومرة أخرى توقع عقود داخلية وخارجية تتعلق بالنفط بحلول نهاية 2019، ومرة ثالثة تستعرض منجزات نووية جديدة.
المقاومة الإيرانيّة الطويلة للعقوبات الأمريكيّة
لا شك في وجود آثار للعقوبات الأمريكية الأخيرة على الاقتصاد والشعب الإيرانيين، فكل إيراني يبلغ من العمر أربعين عامًا أو أقل قد شهد خلال جميع مراحل حياته تعاقب العقوبات الدولية على بلاده، الأمريكية تارة والأوروبية تارة والأممية تارة أخرى، والثلاثة معًا أحيانًا، أي أن شريحة واسعة من الشعب اعتادت العيش أو التعايش بمرارة مع العقوبات، كما اعتاد النظام وجودها.
في الوقت الذي يعاني فيه الإيرانيون من الأزمة الاقتصادية، فإن إستراتيجية “الضغط الأقصى” الأمريكية تضطرهم إلى التجمع حول عَلَم بلادهم، بدلاً من محاولة “إسقاط النظام”
وبحسب دراسة نشرها المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن السيناريو سيتكرر بعد العقوبات الجديدة كأنما لا جديد، فكل عصر له متغيرات مختلفة عن سابقه، وعدم مرونة الأنظمة السياسية عامة وإدراكها البطيء لطبيعة المتغيرات قد يترتب عليهما نتائج غير متوقعة وخاطفة.
ففي الوقت الذي يعاني فيه الإيرانيون من الأزمة الاقتصادية، فإن استراتيجية “الضغط الأقصى” الأمريكية تضطرهم إلى التجمع حول عَلَم بلادهم، بدلاً من محاولة “إسقاط النظام” كما يقول فريق الأمن القومي التابع لترامب، لذلك فإن القيادة الإيرانية تعتبر العقوبات الاقتصادية مجرد خطوة واحدة في مجموعة من التدابير الرامية إلى زعزعة استقرار البلاد.
وفي ضوء التناقضات بشأن أكثر أنظمة العقوبات قسوة التي فرضتها واشنطن على أي خصم حتى الآن، يبدو من غير المرجح للسياسة الأمريكية إزاء إيران أن تنجح حيث ستلجأ طهران إلى المقاومة، وليس هذا لأن القيمة الثقافية للمقاومة عالية نسبيًا، ولكن أيضًا لأنه كلما قاومت القيادة الإيرانية الضغط الخارجي، زادت قدرتها على اكتساب الشرعية لدى الإيرانيين.
اعتادت شريحة واسعة من الشعب العيش أو التعايش بمرارة مع العقوبات كما اعتاد النظام وجودها
وإذا كانت العقود الأربع الماضية قد مرت بشيء، فإنها لم تحمل في طياتها تداول الجمهورية الإسلامية أبدًا الشرعية القائمة على المقاومة للتفاوض مع قوة معادية، وهذا يفسر أن النتيجة الأقل ترجيحًا لإستراتيجية “الضغط القصوى” هي موافقة طهران على الوصول إلى طاولة المفاوضات بشأن الشروط أحادية الجانب التي وضعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
في الوقت نفسه، لن تبقى إيران سلبية في مواجهة الضغوط الأمريكية المتزايدة، فهي لديها القدرة على التأثير على أولوية واشنطن الإقليمية الرئيسية – أسعار النفط – دون الكثير من التكلفة والجهد، ويمكن أن تفعل ذلك دون استخدام أو إثارة مواجهة عسكرية، كما يمكنها استخدام شبكتها من الأصدقاء والحلفاء في المنطقة وخارجها لتعطيل إنتاج وتجارة النفط العالمية.
بالإضافة إلى ذلك، قد يتأثر أيضًا تعاون إيران في مكافحة الاتجار بالبشر مع الاتحاد الأوروبي، حينها ستلتزم السلطات الإيرانية بهذه الاتفاقات مع الاتحاد الأوروبي على الورق فقط، لكنها لا تفعل شيئًا عللى أرض الواقع، وقد يؤدي ذلك إلى موجة هجرة أخرى نحو الحدود الأوروبية أو زيادة كبيرة في الاتجار بالمخدرات، علمًا بأن الولايات المتحدة أدرجت إيران على قائمتها لأسوأ الدول فيما يتعلق بالاتجار بالبشر.
لماذا لن تنجح حملة “الضغط القصوى”؟
إذا تحركت واشنطن لشن الحرب، فمن الصعب أن نتخيل كيف ستركع إيران على ركبتيها كما فعلت أمام الاتحاد السوفيتي وبريطانيا، لكن بطبيعة الحال لن يقف النظام الإيراني مكتوف الأيدي أمام العقوبات الأمريكية، وسيتوجه لاتباع مجموعة من الإستراتيجيات والخيارات من أجل إبطال فاعلية العقوبات الخطيرة، وفي هذا الصدد، هناك ثلاثة تحديات رئيسية على الأقل ستواجهها الولايات المتحدة في مثل هذا السيناريو.
أولاً، من المرجح أن تدعم الصين وروسيا الخصمان العالميان للمقاومة الإيرانية، وإن كان ذلك بشكل غير رسمي، وكلاهما قد أغضبهما اتجاه الولايات المتحدة نحو آسيا والحرب التجارية التي شنها ترامب على الصين، وسيكون الصراع مع إيران فرصة لهذه القوى العالمية للعودة إلى ساحة المواجهة مع الولايات المتحدة.
ومن الواضح أن الصين وروسيا لن تقاتلان من أجل إيران، لكن الحفاظ على شريكهما واقفًا على قدميه هو أمر ذو قيمة إستراتيجية، فكلاهما له مصلحة في إيقاف ترامب وإرهاقه في مواجهة مع طهران حتى لا تشيع الفوضى بالقرب من حدودهما، وإلى جانب الدعم العسكري والمالي، يمكن أن تزود الدولتان إيران بالدعم السياسي في مجلس الأمن الدولي.
يبدو أن ترامب لا يريد أن يلعب دور الغازي الفاتح ولا حتى دور المهادن، وأنه يمشي على خط رفيع بين التهديد والدبلوماسية، لكنه لا يلتزم بأي منهمًا، ولا يبدو أن لديه أي خطة للحرب ولا للمفاوضات
ثانيًا، إذا بدأ ترامب الحرب، فسيواجه عزلة دولية أكبر بكثير مما أنتجته سياساته “المدمرة” على المدى الطويل كما تقول صحيفة “واشنطن بوست”، في المقابل، تحتفظ إيران اليوم بأرضية أخلاقية عالية بسبب صبرها الإستراتيجي والتزامها بالصفقة النووية، بينما يواصل المجتمع الدولي رفضه لموقف ترامب العدواني، ففي وقت قريب، تم إطلاع وزير الخارجية مايك بومبو على حدود القوة الناعمة للولايات المتحدة، خاصة بعد زياراته الأخيرة إلى أوروبا، حيث واجه استقبالًا باردًا وتوبيخًا بشأن سياسة واشنطن تجاه إيران.
يُضاف إلى ذلك أن التواءات ترامب بشأن مواجهة إيران تربك الحلفاء الأوربيين، فالرئيس ترامب ومساعديه بعثوا برسائل تثير الدوار والتضارب بشكل واضح إلى إيران في الأسابيع الأخيرة، منها ما أفاد بإرسال تعزيزات من القوات والسفن الحربية إلى المنطقة كتهديدات بالحرب ومنها إعلان الرغبة في التفاوض وليس الحرب في الوقت نفسه.
رغم ذلك، ما زال الحلفاء الأوروبيون يحاولون إنقاذ الاتفاق الموقَّع مع إيران عام 2015 الذي انسحب منه قبل عام تقريبًا، كما يحاولون فهم إستراتيجية إدارة ترامب، في حين يبدو أن ترامب لا يريد أن يلعب دور الغازي الفاتح ولا حتى دور المهادن، وأنه يمشي على خط رفيع بين التهديد والدبلوماسية، لكنه لا يلتزم بأي منهمًا، ولا يبدو أن لديه أي خطة للحرب ولا للمفاوضات، كما يصفه الكاتبان إدوارد وونج وديفيد سانجر في مقال بصحيفة “نيويورك تايمز“.
أعضاء الطاقم على متن حاملة الطائرات الأمريكية “أبراهام لنكولن”
ربما يعتمد ترامب على موقع القيادة الأمريكية في العالم، أي عندما تتصرف الولايات المتحدة، فإن الباقي سوف يتبعها، لكن التخلي عن الاتفاقيات والمعاهدات الدولية شيء وشن حرب شيء آخر، وفي جميع الأحوال، إذا اختارت الولايات المتحدة بدء صراع، فسيتعين عليها القيام به دون دعم حلفائها التقليديين، وقد لا يكون لشركائها الإقليميين – السعودية والإمارات و”إسرائيل” – الكثير من المساعدة، وقد يتحولون في الواقع إلى مسؤولية تعطل خطط الحرب الأمريكية عن طريق متابعة مصالحهم الخاصة.
ثالثًا، من المؤكد أن الحرب مع إيران ستكون كارثة أكبر من تلك الموجودة في العراق، خاصة أن الولايات المتحدة في الوقت الحاليّ ليست على دراية بالقدرة العسكرية الإيرانية الكاملة، فبعد أن تم عزلها منذ فترة طويلة عن أسواق الأسلحة الغربية، طورت إيران صناعة الأسلحة المحلية الخاصة بها، ولا تزال قدراتها غير معروفة للعالم الخارجي، هذا يمكن أن يقوض بالتأكيد التخطيط العسكري الأمريكي في الفترة التي سبقت الحرب.
على الرغم من أن الجيش الإيراني أقل من حيث المستوى مقارنة بجيش الولايات المتحدة، فإنه لا يزال أقوى بكثير من جيش صدام حسين الذي تم تدميره عام 2003 في غضون أسابيع، كما أن القوات الإيرانية أكثر استعدادًا بكثير وأكثر ملاءمة أيديولوجية وأكثر عددًا، هذا إلى جانب المناطق الجبلية لإيران التي تضمن تفوق القوات الإيرانية في مواجهة أي غارات هجومية.