يشيع أبناء سوريا وثوارها في الشمال السوري المحرر جثمان شهيدهم عبد الباسط الساروت، “الفتى النبيل” الذي قضى دفاعاً عن ثورته وحرية الشعب وكرامة الأهل، بعد 8 سنين مضت بمقارعة الظلم والاستبداد بكل ما أوتي من طاقة بصوته ونشاطه وسلاحه.
لم يثن تبدل ميادين عبد الباسط الساروت الحارس السابق لنادي الكرامة السوري عن عزيمته على النصر وإصراره على التحدي، من ميدان الكرة إلى ميدان الثورة شق حارسنا طريقه معلناً بداية النهاية لظلم أسود أسدل ستاره النظام السوري على سوريا بأكملها، فحمل على عاتقه هم إزاحة هذا السواد وإشراع ألوية الحرية والكرامة على وطن حلم به ذات يوم، وما بين أهازيجه في جموع متظاهري حمص “وطنا بينزف يابا” إلى ” يا يما توب جديد” قصة ولادة لثورة وضاءة بثت أملًا وحماسًا في نفوس السوريين.
ذلك الشاب ذو الـ19 عاماً استطاع بحنجرته وإيمانه أن يوحد أصوات المتظاهرين وقلوبهم معًا بعد ان اختار أن ينشق عن صفوف رياضيي نظام الأسد حتى سموه بلبل الثورة الصداح فكان شدوًا واعدًا لكل من أراد أن يشعل جذوة الثورة في قلبه، ويسلك طريق الحرية الشائك الوعر.
لم يكن من السهل على السوريين قراءة خبر استشهاد الساروت، الذي قضى في معركة بريف حماة ضد قوات الأسد، عن 27 عاماً، المعارك التي ظل عبد الباسط مُصّرًا على أن تكون ضد ميلشيات النظام السوري. فخلال ساعات ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بآلاف النعوات والعبارات التمجيدية لشخصٍ قلّ نظيره في تاريخ الثورة السورية، ذلك “البلبل” الذي حيثما طلبت الثورة تجده، بدءً بالمظاهرات وليس انتهاءً بالحراك المسلح.
أظهرت وسائل التواصل الاجتماعي بكافة منصاتها كيفية التحام السوريين واتفاقهم على حب الساروت في ظاهرةٍ قلّ مثيلها، كيف لا وذلك الشاب الذي وحّد القلوب بصوته وهدرت الحناجر خلف هتافاته فكان في استشهاده موحدًّا للقلوب على حبّه، كما وحد الصفوف على مدار 9 سنوات مضت.
لم يكن الساروت الأخير بين أفراد عائلته ممن يلقون حتفهم، فسبقه بذلك عام 2011 ودع أخاه الأكبر وليد وفي السنة التي تليها زف والده شهيدأ ليلحق بهم إخوته محمد عبد الله وأحمد
وفي مرحلة من مراحل الثورة السورية، دخل الساروت في متاهة المتغيرات وضباب الطريق الذي عاشه كل ثائر، إلا أنه وفي عام 2016، خرج إلى تركيا غائباً عن الأنظار، يعمل في مشغلٍ للخياطة، رافضاً كل العروض المقدمة لعيشةٍ فارهة وحياة ملؤها الرفاهية. كان منتظراً العودة التي تحققت بعد غياب شهور، ليقود مظاهرات كبيرة في الشمال السوري المحرر من سطوة الأسد.
كل من يعرف الساروت يعرف ابتسامته ومحبته وبساطته، وهي الصفات التي جعلته رمزًا وأيقونة في الثورة اليتيمة، كنا نراه في إدلب يمشي بالأسواق غير مبالٍ بأي تهديد يصيبه، بسمته لاتفارق محيّاه، الكل كان يقول له توارى عن الأنظار فالكل يتربص بك وهو يقول “تركوها على الله”.
لم يكن الساروت الأخير بين أفراد عائلته ممن يلقون حتفهم، فسبقه بذلك عام 2011 ودع أخاه الأكبر وليد وفي السنة التي تليها زف والده شهيدأ ليلحق بهم إخوته محمد عبد الله وأحمد، ويتوالى إجرام النظام ليكمل قتل أخواله وعدداً من أقاربه، فيبقى “باسط” وحيد أمه، التي تسمى بـ “خنساء الساروت”، أمه التي بقيت وحيدةً تكابد الفقد والحسرة على كل عائلتها.
أذكر في لقائي الأول بالساروت في مدينة إدلب كم كنت أرمقه بنظراتي وهو يهتف بنا وينادي بصوته لمدينتي التي أحببت، كان اللقاء سريعاً إلا أن وجدت بذلك الشاب النحيل مالم أتخيله من البساطة والرقة، مع محبتي الكبيرة وتعلقي بأغانيه إلا أني كنت اعتبر حارس ثورتنا من المشاهير الذين تكون حولهم هالةً كبيرة من الأضواء، وما إن انتهى اللقاء حتى ركب دراجته الناريه هو وصديقه منطلقاً بابتسامةٍ لايمكن للعقل أن يتخيلها.
رحل عبد الباسط اليوم تاركاً خلفه ذكرى أجمل أيام ثورتنا، تاركاً لنا أغانيه التي طالما أسعدتنا وطالما حمستنا وطالماً رقصنا عليها وصفقنا من أجلها، كم رددنا الله أكبر بعد هتاف كبر عليهم يالله يا ابن بلادي، كم صدحت حناجرنا على “جنّة جنّة يا وطنّا”، كم تمايلنا بهتافات “يا وطنّا ياغالي والشعب بدو حرية”، لطالما ذرفنا الدموع على نشيد “يا يمّا ثوب جديد زفيني جيتك شهيد”، واليوم ستصبح هذه الأهازيج ذكرى تؤرقنا وتفتح المواجع والآهات على صاحبها وأيامه العظيمة.
لعلّ آخر ما أصدره الساروت من أغاني كان في رمضان المنصرم لم تكن مخصصة لسوريا وثوارها فقط بل كانت رسالةً موجهةً لكل ثائري العرب ضد حكامهم في السودان ومصر والجزائر، كان حارس ثورتنا على عفويته يحمل هم كل شاب عربي، يحلم بما يتمناه أي إنسان بحياة كريمة لايهيمن عليها طاغية ولا يتسلط عليها ظالم.
نعم! تخاذلنا وثبت الساروت وصحبه، فرطّنا بالثورة وتمسك بها عبد الباسط ورفاقه، ذهبنا إلى الدنيا وقضى بلبلنا شهيداً لأجل حرية الوطن والشعب، قاتل من أجل حمص والعودة إليها من أجل روح الشهداء والمعذبين في كل مكان.
سلام الله عليك ياساروت، سلام الله على كل مظاهرةٍ خرجت بها، وعلى شهيدٍ شيعته ولكل معركةٍ خضتها لكل أغنية أسعدتنا بها، ولكل أسى عايشته، سلام الله عليك وعلى روحك الطاهرة التي وحدتنا بحبٍ وإيمان، وجعلتنا كما الصلاة صفوفا.
سلّم لنا يا ساروت على عبد القادر الصالح وعلى أبو فرات ولا تنسى أن توصل سلاماتنا للقاشوش وغياث وللقادة الشهداء والأحرار، ولكل ثائرٍ كان دمه الطريق ومايزال.