ترجمة وتحرير نون بوست
لطالما توددت بولندا إلى واشنطن لضمان تواجد عسكري أمريكي دائم على أراضيها يلعب دور حاجز صد للنفوذ الروسي. وعلى الرغم من نداءات بولندا، إلا أن واشنطن تتمسك باتباع نهج دفاعي يتسم بالمرونة في المنطقة. لكن هذا الأمر قد يتغير قريبا بعد تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السلطة.
منذ أكثر من سنة، كانت كل من الولايات المتحدة وبولندا تجريان محادثات حول هذا الاتفاق، الذي أشار المسؤولون البولنديون إلى أنه قد يتم الانتهاء منه في مطلع أيلول/ سبتمبر. لكن من المؤكد أن يؤدي مثل هذا التواجد الأمريكي الدائم بالقرب من روسيا إلى تحفيز موسكو على تعزيز تواجدها العسكري بالقرب من حدود بولندا، الأمر الذي يضع وارسو وسط المنافسة الساخنة بين كل من واشنطن وموسكو.
بلد على الحدود مع العدو
نظرا لكونها تقع على الخطوط الأمامية للمناطق الواقعة غرب روسيا والمتواجدة في أوروبا الشرقية والوسطى، سعت بولندا منذ فترة طويلة إلى زيادة الالتزام الأمني للولايات المتحدة الأمريكية على أراضيها. وعلى الرغم من انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي سنة 1999، إلا أن هذا البلد الأوروبي لا يزال يفتقر إلى التواجد الواسع والثابت الذي تمتلكه دول حلف الشمال الأطلسي في أوروبا الغربية على غرار ألمانيا وإيطاليا؛ وهو ما يفسر أن بولندا ما تزال عرضة للتأثير الروسي.
إن الصراع الذي جد سنة 2014 في أوكرانيا، الذي ضمت خلاله روسيا شبه جزيرة القرم إلى أراضيها ودعمت صراعا انفصاليا شرق أوكرانيا في أعقاب احتجاجات الميدان الأوروبي في كييف، يؤكد هذه المخاوف. وعلى الرغم من أن أوكرانيا ليست عضوا في حلف شمال الأطلسي مثل بولندا، إلا أن الاحتجاجات أثرت عليها نظرا لكشفها استعداد روسيا للقيام بتدخل عسكري ضد المصالح الغربية في أراضيها الحدودية، مما يُقدم تذكيرا صارخا للبلاد بالمخاطر التي تواجهها وارسو من قبل موسكو.
لم يُرض انتشار القوات على هذا النحو رغبة بولندا التي تبحث عن تواجد عسكري دائم للولايات المتحدة على أراضيها. لكن انتخاب ترامب سنة 2016 قد أتاح لوارسو فرصة جديدة لتحقيق هذا الهدف
في المقابل، أتاح الصراع الأوكراني لبولندا فرصة تعزيز موقعها في الخطوط الأمامية للمواجهة بين روسيا والغرب. ومنذ ذلك الحين، حظيت وارسو إلى جانب دول البلطيق إستونيا ولاتفيا وليتوانيا بتواجد عسكري مكثف للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في شكل تناوب شبه دائم لحوالي 4500 جندي. ونظرا لاعتبارها بمثابة حصن ضد أي إجراء روسي إضافي، كثفت هذه القوات من مناوراتها البرية والجوية والبحرية في السنوات الأخيرة، الأمر الذي عزز من مستوى الالتزام الدفاعي لدول حلف الشمال الأطلسي المتواجدة على الخط الأمامي للمواجهات.
تودّد بولندا للبيت الأبيض
مع ذلك، لم يُرض انتشار القوات على هذا النحو رغبة بولندا التي تبحث عن تواجد عسكري دائم للولايات المتحدة على أراضيها. لكن انتخاب ترامب سنة 2016 قد أتاح لوارسو فرصة جديدة لتحقيق هذا الهدف. فعلى مدار السنوات الثلاث الماضية، وضعت الحكومة البولندية نفسها كداعم رئيسي للمبادرات الأمريكية المُتعلقة بحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. ومن جهته، أصر ترامب على إنفاق دول حلف الشمال الأطلسي لما لا يقل عن إثنين بالمائة من إجمالي ناتجها المحلي على الدفاع، وهو شرط لم تف به سوى بولندا وبعض دول حلف الشمال الأطلسي الأخرى إلى حد الآن.
خلال السنة الماضية، أيّدت بولندا أولويات رئيسية أخرى حددها البيت الأبيض، بما في ذلك دعمها للعقوبات الأمريكية ضد إيران وزيادة مشتريات الغاز الطبيعي الأمريكي، فضلا عن دعمها لجهود الولايات المتحدة لعرقلة مشروع خط الأنابيب الروسي الألماني “نورد ستريم 2″، والنظر في إمكانية منع شركة التكنولوجيا العملاقة الصينية “هواوي” من تطوير البنية التحتية لشبكة الجيل الخامس في بولندا استجابة لمطالب واشنطن، فضلا عن زيادة المشتريات الدفاعية الأمريكية بما في ذلك وضع خطط لشراء طائرات مقاتلة.
بصرف النظر عن التفاصيل المتعلقة بالاتفاق المحتمل بين وزارتي الدفاع البولندية والأمريكية، فإن نشر قوات أمريكية إضافية في بولندا، مهما كان عددها، سيدفع روسيا إلى تعزيز قواتها العسكرية.
في الحقيقة، لقد وضعت هذه الجهود بولندا في موقف قوي لاستمالة واشنطن والحصول على تواجد عسكري أمريكي دائم في البلاد. وخلال اجتماع مع ترامب عُقد في شهر أيلول/ سبتمبر، عرض الرئيس البولندي أندريه دودا على الولايات المتحدة مبلغ ملياري دولار لتمويل إنشاء قاعدة أمريكية بجانب نهر فيستولا على الحدود الشرقية لبولندا، واقترح تسميتها “قلعة ترامب”.
خلال الأشهر التي تلت الاجتماع، شهدت المفاوضات حول التواجد الأمريكي الدائم في بولندا تقدما سريعا. ومن جهتهم، قدم المسؤولون الأمريكيون صيغة مختلفة للتعاون العسكري بين البلدين. وبدلا من إنشاء قاعدة عسكرية كبيرة واحدة، اقترحت واشنطن نشر القوات الأمريكية في العديد من القواعد الموجودة في البلاد، على غرار ريدزيكوو وبوزنان وأورزيسز.
بموجب هذه الخطة، عرضت واشنطن على بولندا بناء مستودع أسلحة تابع لحلف الناتو في مدينة بويدز (وهي في الواقع خطة سبق أن اقترحتها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما)، إلى جانب نشر ما يتراوح بين ألف و1500 جندي أمريكي في البلاد. وعلى الرغم من أن هذا الاقتراح كان أكثر تواضعا مقارنة بالاقتراح الذي قدمته بولندا (طلبت نشر حوالي 15 ألف جندي أمريكي)، إلا أنه سيحقق رغبة وارسو التي طال انتظارها لتحقيق وجود أمريكي دائم.
رد روسيا: المراهنة على روسيا البيضاء
بصرف النظر عن التفاصيل المتعلقة بالاتفاق المحتمل بين وزارتي الدفاع البولندية والأمريكية، فإن نشر قوات أمريكية إضافية في بولندا، مهما كان عددها، سيدفع روسيا إلى تعزيز قواتها العسكرية. ومن بين المواقع المحتملة التي سيتم فيها تعزيز القوات العسكرية روسيا البيضاء، التي تعتبر من بين الشركاء الرئيسيين لروسيا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي بقيادة موسكو.
كان لروسيا البيضاء دور رئيسي في إجراء مفاوضات بشأن النزاع الأوكراني (إعلان هدنة مينسك). وقد استفاد لوكاشينكو من هذه الهدنة لتخفيف الضغط الغربي على حكومته
لطالما نظرت روسيا إلى جارتها روسيا البيضاء كموقع لتوسيع موطئ قدمها العسكري، وذلك من خلال بناء قاعدة جوية بالقرب من الحدود بين روسيا البيضاء وبولندا. في المقابل، يبدو أن التواجد الدائم للقوات الأمريكية في بولندا يمكن أن يوفر لموسكو الدافع الذي تحتاجه للعمل على تحقيق هذه الجهود.
على الرغم من العلاقات العسكرية القوية بين روسيا البيضاء وروسيا، إلا أن مينسك ترفض حتى الآن فكرة بناء قاعدة عسكرية روسية على أراضيها، ويرجع ذلك جزئيا إلى رئيس روسيا البيضاء ألكسندر لوكاشينكو الذي طال أمد حكمه، والذي سعى للحفاظ على سيادة البلاد والحد من تدخل جارتها روسيا. ومنذ انتفاضة أوروميدان في أوكرانيا سنة 2014، حاولت روسيا البيضاء فرض نفسها لتكون الوسيط بين روسيا والغرب، عوضا عن كونها مجرد بيدق في استراتيجية موسكو العالمية.
نتيجة لذلك، كان لروسيا البيضاء دور رئيسي في إجراء مفاوضات بشأن النزاع الأوكراني (إعلان هدنة مينسك). وقد استفاد لوكاشينكو من هذه الهدنة لتخفيف الضغط الغربي على حكومته، مما سمح لمينسك بالضغط على أوروبا والولايات المتحدة من أجل تقديم تنازلات اقتصادية (حتى وإن كانت محدودة).
يبدو أن التوسع العسكري الأمريكي في بولندا يمكن أن يغير اعتبارات روسيا البيضاء. سيكون هذا الوجود العسكري قريبا من حدود روسيا البيضاء، مما قد يشكل تهديدًا مباشرًا للبلاد. وفي أواخر سنة 2018، حذر لوكاشينكو وزير الخارجية البولندي جاسيك تشوابوتوفيتش بأنه سيتعين على روسيا وروسيا البيضاء الرد على فكرة وارسو المقترحة التي تتمثل في بناء قاعدة أمريكية في بولندا، مضيفًا أن البلدان سيضطران إلى نشر قواتهما لمواجهة كل من وارسو وواشنطن. ويشير تحذير الرئيس إلى أن فكرة بناء قاعدة جوية روسية في روسيا البيضاء قد وقع طرحها فعليا وأن مينسك تولي الأولوية لمصالحها الأمنية الخاصة على علاقتها مع الغرب.
أوضحت كل من روسيا وروسيا البيضاء أن تعزيز الولايات المتحدة لوجودها العسكري في بولندا (سواء تمركزت القوات في قاعدة جديدة في بولندا أو وقع نشرها في جميع القواعد الحالية الموجودة في البلاد) لن يترك للحليفين الشرقيين خيارًا آخر سوى مضاعفة قواتهما العسكرية
إن إنشاء قاعدة جوية ليست الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تساعد روسيا على تعزيز وجودها العسكري في روسيا البيضاء، ذلك أنه بإمكان موسكو التركيز على أمور أخرى في البلاد مثل صنع الطائرات الحربية أو تطوير أنظمة الدفاع الجوي. ويمكن أن تعزز روسيا وجودها في مناطق مجاورة مثل كالينينغراد أو شبه جزيرة القرم أو شرق أوكرانيا.
من المتوقع أن تؤدي زيارة الرئيس البولندي أندري دودا المرتقبة إلى واشنطن يوم 12 حزيران/ يونيو إلى إحراز تقدم كبير فيما يتعلق بالصفقة العسكرية، التي تأمل بولندا في وضعها في صيغتها النهائية قبل زيارة ترامب لبولندا لإحياء ذكرى الحرب العالمية الثانية في مطلع أيلول/ سبتمبر. لكن قيام الولايات المتحدة وبولندا بهذه الخطوة ينطوي على خطر زيادة حدة التنافس على امتلاك الأسلحة بين موسكو والغرب. وقد أوضحت كل من روسيا وروسيا البيضاء أن تعزيز الولايات المتحدة لوجودها العسكري في بولندا (سواء تمركزت القوات في قاعدة جديدة في بولندا أو وقع نشرها في جميع القواعد الحالية الموجودة في البلاد) لن يترك للحليفين الشرقيين خيارًا آخر سوى مضاعفة قواتهما العسكرية.
المصدر: ستراتفور