يبدو أن إيران بدأت مؤخرًا في استيعاب حجم الضربة الإستراتيجية الكبيرة التي تعرضت لها في سوريا، بفقدان أهم حلفائها في المنطقة، وخسارتها منطقة النفوذ الأبرز في مشروعها بالشرق الأوسط.
ومنذ سقوط بشار الأسد يوم 8 ديسمبر/كانون الأول الجاري، أعطت طهران إشارات متضاربة ومتناقضة أحيانًا، في علاقاتها مع حكام سوريا الجدد، ففي أول تعليق رسمي لها عقب سيطرة قوات المعارضة السورية على دمشق، دعت طهران في بيان لوزارة خارجيتها إلى “إنهاء الصراعات العسكرية على الفور ومنع الأعمال الإرهابية وبدء حوار وطني بمشاركة جميع فئات المجتمع السوري”.
وأضافت أنها “لن تدخر جهدًا في المساعدة على إرساء الأمن والاستقرار في سوريا”، وأنها “ستواصل مشاوراتها مع كل الأطراف المؤثرة وخاصة في المنطقة”.
كما أبدت إيران رغبتها بإنشاء علاقة دبلوماسية مع سوريا الجديدة، وقالت المتحدثة باسم الحكومة فاطمة مهاجراني، إن طهران تُجري مفاوضات لإعادة فتح سفارتها في دمشق، مضيفة في مؤتمر صحفي: “نهجنا دبلوماسي، ونحن وهم جاهزون، ونحن في مفاوضات دبلوماسية لإعادة فتح سفارات البلدين”.
وكان إسماعيل بقائي، المتحدث باسم وزارة الخارجية، صرح في مؤتمر صحفي، أن إيران لم تتمكن بعد من إنشاء قناة اتصال مباشرة مع الحكام الجدد في سوريا.
وفي موازاة هذه التصريحات “الإيجابية”، صدرت تصريحات مُخالفة لهذا التوجه “المُسالم” بخصوص الأوضاع في سوريا، إذ قال المرشد علي خامنئي، إن مجموعة ممن وصفهم بـ”مثيري الفوضى”، بدعم وتخطيط من دول أجنبية، استغلوا الضعف الداخلي في سوريا لإثارة الفوضى وعدم الاستقرار، على حد قوله.
أما التصريح الذي شكل نقلة نوعية في طبيعة التصريحات الإيرانية تجاه سوريا، فصدر على لسان وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، الذي وجه تهديدات مبطنة لدمشق، وقال في تصريح مقتضب: “من يعتقدون بتحقيق انتصارات في سوريا، عليهم التمهل في الحكم، فالتطورات المستقبلية كثيرة”.
أما عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران محسن رضائي قال: “في أقل من عام سيعيدون إحياء المقاومة في سوريا بشكل مختلف وسيبطلون المخطط الشرير والمخادع لأميركا والكيان الإسرائيلي ودول المنطقة”.
وبينما اتسمت هذا التصريحات بالغموض، إلا أنها قُرئت في الأوساط السورية، رسميًا وشعبيًا، على أنها محاولة من طهران للعبث مجددًا بالأوراق في سوريا، وإيماء لسعيها إلى التدخل هناك مجددًا عبر أدوات وأوراق جديدة.
وقوبلت هذه التصريحات بغضب وتنديد كبيرين من السوريين في مواقع التواصل الاجتماعي، وعبر مغردون ومدونون عن اعتقادهم بأن إيران التي كان لها دور “سلبي وهدام” في سوريا من خلال دعم بشار الأسد ونشر الميليشيات الطائفية، لا تزال ترغب بإبقاء النيران مشتعلة بعد هروب حليفها بشار.
أما على المستوى الرسمي، فلم تتأخر حكومة تصريف الأعمال السورية في الرد على تصريحات وزير الخارجية الإيراني، وجاء التعليق على لسان نظيره السوري أسعد الشيباني، الذي كتب في حسابه الشخصي بمنصة “إكس”: “يجب على إيران احترام إرادة الشعب السوري وسيادة البلاد وسلامته، ونحذرهم من بث الفوضى في سوريا ونحملهم كذلك تداعيات التصريحات الأخيرة”.
ومع فقدان إيران أوراقها القديمة في سوريا، المتمثلة بعشرات الفصائل الولائية متعددة الجنسيات، تتوجه الأنظار إلى أدوات أو أوراق جديدة، تحاول إيران استخدامها لخلق الفوضى وقلب الطاولة في المشهد السوري، واستعادة دورها هناك لفرض نفسها لاعبًا إقليميًا مؤثرًا.
ويمكن تلخيص الأدوات التي يمكن لإيران استخدامها فيما يلي:
حزب العمال الكردستاني
ربما كانت العلاقة بين قوات سوريا الديمقراطية، ونظام الأسد البائد، يحيط بها العديد من إشارات الاستفهام الكبيرة، وإن كان الطرفان إعلاميًا يُظهران حالة العداء والتنافر، وخلال فترة العمليات العسكرية الأساسية في سوريا بين عامي 2012 و2017، كانت ميليشيات “ب ي د” الكردية بمثابة “حليف غير مُعلن” لقوات الأسد المخلوع، إذ شاركت تلك الميليشيات مثلًا في حصار معقل المعارضة السورية في أحياء حلب الشرقية، في العام 2016، كما تقاسم الطرفان النفوذ والسيطرة في عدة مناطق، بينها محافظة الحسكة وتل رفعت شمال حلب، مع الإقرار بأن الطرفين دخلا في مواجهات محدودة أفضت إلى تمدد “قسد” على حساب قوات نظام الأسد.
إلا أن الثابت في المعادلة العسكرية في سوريا، هو العلاقة المتينة والقديمة بين إيران وحزب العمال الكردستاني (بي كي كي)، المصنف إرهابيًا، والذي يُعد صاحب الكلمة الفصل في إدارة “قسد”، فمنذ فترة التسعينيات، تقدم إيران الدعم العسكري لحزب العمال، وفي الأشهر الأخيرة، قالت صحيفة “يني شفق” التركية، إن إيران زودت “بي كي كي” بتكنولوجيا الطائرات المسيرة الانتحارية وصواريخ الدفاع الجوية.
واستخدمت إيران علاقتها مع حزب العمال الكردستاني، في العبث بالمشهد السياسي والعسكري في إقليم شمال العراق، وذلك بالتعاون أيضًا مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي فتح معقله في مدينة السليمانية بشمال العراق، كمنطقة نفوذ لحزب العمال الكردستاني، كما ساهم “الوطني الكرستاني” بتقديم تدريبات عسكرية لعناصر تنظيم “بي كي كي” القادمين من شمال سوريا، وسمح للميليشيات الإيرانية باستخدام السليمانية كطريق عبور إلى سوريا.
من خلال ذلك، يمكن لإيران تحريك ورقة “العمال الكردستاني” في شمال شرق سوريا، من خلال عرقلة مساعي الإدارة السورية الجديدة لحل ملف شمال شرق سوريا بطريقة سلمية، والضغط على ميليشيات “قسد” لرفض تسليم السلاح، وإبقاء منطقة شرق الفرات بؤرة مشتعلة وجبهة إيرانية جديدة للصراع مع دمشق.
وكان مظلوم عبدي القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، أقر مؤخرًا بوجود قيادات وكوادر من حزب العمال الكردستاني في شمال شرق سوريا، بعد سنوات من نفي ذلك، وقال إن مقاتلي الحزب سيغادرون سوريا، إذا تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في المواجهة مع تركيا.
تنظيم داعش
في 13 ديسمبر/كانون الأول الحالي، حذرت الميليشيات الكردية، من أن تؤدي الهجمات التي تشنها فصائل الجيش الوطني السوري، على المناطق الخاضعة لسيطرتها، إلى وصول عناصر تنظيم داعش إلى السجون التي تضم قادة التنظيم ومسلحيه، وتديرها “قسد”. وقال مدير مركز إعلام “وحدات حماية الشعب”، سيامند علي، لموقع “الحرة”: “تحتضن المناطق الخاضعة للإدارة الذاتية 27 سجنًا، تضم ما بين 10 إلى 12 ألف معتقل من أخطر عناصر تنظيم داعش”.
وقال تقرير لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، حمل عنوان “الصفقات مع داعش نهج إيراني بامتياز”، إن إبرام الصفقات مع تنظيم داعش في سوريا والعراق، هو “استراتيجية ثابتة في العقل الإيراني، منذ الصفقة الإيرانية الكبرى مع القاعدة عام 2001 بعد حرب أفغانستان، باستقبال قيادات وكوادر القاعدة في طهران، وفي العراق لاحقًا، حيث زودت إيران القاعدة بالأسلحة مقابل عدم التعرض للمراقد المقدسة، وقد وفرت القاعدة لإيران أسباب إنشاء الحشد الشعبي العراقي والسيطرة على العراق، وحولت الثورة السورية من ثورة شعبية ضد الظلم والفساد إلى مواجهة بين النظام السوري والإرهاب”.
وأضاف التقرير: “وقد أصبح واضحًا أن وكلاء إيران هم من يخططون لانتشارات داعش ويوفرون لها الملاذات الآمنة، بما يضمن إبقاءها مهدِدًا لأي استقرار في العراق أو سوريا”.
وفي ظل وجود علاقات وتنسيق بين إيران وحزب العمال الكردستاني، صاحب النفوذ في شرق الفرات، يمكن لطهران أن تُعيد تفعيل ورقة تنظيم داعش، بهدف إعادة الوضع سوريا إلى سيناريو “مكافحة الإرهاب”، وتبديد جهود الحكومة السورية الجديدة في فرض الاستقرار بالبلاد.
وتعليقًا على ذلك، يقول لقاء مكي، الباحث الأول في مركز الجزيرة للدراسات، إنه “لن يكون صعبًا أن تستعين (إيران) بالقاعدة أو داعش لإثارة اضطراب أمني في سوريا والعراق، وحينها ستحرف أنظار واشنطن من استهداف إيران إلى التعاون معها بدعوى محاربة الإرهاب، وستصبح مطالب حل الفصائل المسلحة في العراق غير مطروحة لنفس السبب”.
بث الفتنة واستخدام ورقة الأقليات
لم يطُل الوقت كثيرًا على تصريح وزير الخارجية الإيراني، بشأن “التطورات المستقبلية الكثيرة”، حتى ظهرت الغاية التحريضية منه على الأرض سريعًا، إذ شهدت مناطق الساحل السوري وأحياء في مدينة حمص، خروج مظاهرات يبدو أنها أُعِد لها بشكل مسبق، نادت بشعارات طائفية، وحمل بعض أفرادها السلاح، فيما ظهر أحد المعممين في مدينة حمص، وهو يحرض الناس على استخدام العنف ورفع السلاح في وجه الحكومة السورية الجديدة.
واتهم إعلاميون وناشطون سوريون، إيران بالتحريض على هذه التظاهرات، وبث الفتنة بين مكونات الشعب السوري، من خلال الحديث عن ضرورة حماية المقامات العلوية، بعد فقدان إيران أي أمل باستخدام ورقة “المقامات المقدسة”، وتأمين الحماية لتلك المقامات من جانب إدارة العمليات التابعة للحكومة السورية الجديدة.
دعم فلول الأسد المخلوع
وبالتوازي مع المظاهرات التي نادت بشعارات طائفية، تشهد مناطق في الساحل السوري بشكل شبه يومي، تنفيذ كمائن عسكرية ضد قوات الأمن العام وإدارة العمليات، التي تسيّر دوريات لضبط الأمن وفرض الهدوء في محافظات طرطوس واللاذقية وريفي حمص وحماة.
وفي آخر حادثة من تلك الكمائن، أعلنت إدارة العمليات العسكرية السورية، أن قواتها قضت على مسلحين نفذوا هجومًا ضد دورية أمنية في ريف طرطوس، ما أدى إلى مقتل عنصرين وإصابة 6 عناصر من إدارة الأمن العام التابعة لوزارة الداخلية السورية.
كما أعلن وزير الداخلية محمد عبد الرحمن مقتل 14 عنصراً وإصابة 10 آخرين من عناصر وزارة الداخلية إثر “تعرضهم لكمين غادر من قبل فلول النظام البائد بريف محافظة طرطوس، أثناء أدائهم لمهامهم في حفظ الأمن وسلامة الأهالي”
بينما أكدت إدارة العمليات العسكرية السورية، مساء الأربعاء، أنها “ستضرب بيد من حديد” كل من يسعى إلى زعزعة الاستقرار وإثارة الفوضى في البلاد، وقالت في بيان: “سنضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه زعزعة الاستقرار وإثارة الفوضى في البلاد”.
ورغم خطورة هذه الأوراق التي يمكن لإيران أن تستثمر فيها للعبث بالمشهد السوري، يبقى الطريق أمام هذه المخططات غير ممهد، لا سيما أن قرار قطع النفوذ الإيراني في سوريا ليس ملفًا يخص الإدارة السورية فقط، إنما يحظى استقرار الأمن في سوريا بشبه إجماع إقليمي ودولي، سيدعم دمشق في مواجهة مخطط الاستنزاف، الذي تسعى طهران لتنفيذه هناك.