“اللي بيحصل من بعض الصحفيين وبعض الناس في إن الواحد مش عارف يخرج من البيت عشان يصلي العيد ده مالوش علاقة بالحب، ده بيتقال عليه عدم احترام خصوصية وعدم احترافية”.
بهذه الكلمات القصيرة التي تحمل في طياتها نقدًا ثقافيًا واجتماعيًا لاذعًا، على موقع “تويتر” انتقد محمد صلاح لاعب الكرة المصري المحترف حاليًا في صفوف نادي ليفربول الإنجليزي، سلوك معجبيه من أبناء قريته ومسقط رأسه “نجريج” الذين تجمهروا أمام منزله مباشرةً فور علمهم بوصوله من المطار لقضاء إجازة العيد مع أسرته وأقاربه الذين ما زالوا يقطنون القرية.
وقد شن جمهور مواقع التواصل الاجتماعي هجومًا حادًا على اللاعب بعد هذه التغريدة، متهمين إياه بالغرور والصلف والتحول بعد الشهرة، مطالبين إياه بالتعلم من صديقه أبوتريكة الذي يحسن التعامل مع الجميع في كل المواقف.
كيف ينظر الجمهور إلى صلاح؟
أصبح من نافلة القول أن نذكر أن الجمهور منذ وقت طويل لم يعد ينظر إلى صلاح كمجرد لاعب كرة قدم محترف، وإنما ينظر إليه كبطلٍ ملهم، يحتشد الناس بمختلف أعمارهم وطبقاتهم الاجتماعية على المقاهي لتشجيع فرقه التي يلعب لها حتى لو كانوا لا يعرفون سياقات المنافسة، ويرتدي الأطفال في الشوارع قمصانًا تحمل اسمه، ويعتبر التجار والباعة وضع صورته بجوار محالهم عامل جذب يساعد في الترويج لبضائعهم، وهو صاحب أكبر الحسابات الشخصية المصرية متابعةً على مواقع التواصل الاجتماعي بفارق ضخم عن أكبر منافسيه، حيث تخطى مؤخرًا عدد متابعيه على موقع “إنستغرام” المتخصص في المحتوى البصري حاجز الـ28 مليون متابع.
بكل تأكيد، استحق صلاح كل هذه الشعبية غير المسبوقة بعد أن قاد بلاده إلى نهائي بطولة كأس الأمم الإفريقية عام 2017 بعد غياب عن ثلاث نسخ متتالية، وأحرز هدفي التأهل في مباراة الكونغو التي أوصلت مصر إلى كأس العالم عام 2018 لأول مرة بعد 26 عامًا، وحقق مع ناديه ليفربول ذروة المجد الكروي بحصوله على جائزة أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي وثالث أفضل لاعب في العالم عام 2018 وهداف المسابقة عامي 2018 و2019 وتوج مؤخرًا بدوري أبطال أوروبا مع ليفربول، وقد كانت تجاربه السابقة تؤشر على النجاح والموهبة أيضًا.
أصبحت مشاهدة الـ”مو” تساميًا على كل اضطرابات الشخصية المصرية وإنكارًا لواقعها المريض وإقرارًا بواقع آخر مأمول
ومع ذلك، فقد تزامنت عدة سياقات متشابكة في إنتاج هذه الشعبية وتدعيمها، منها أنه لم يطرق أي لاعب مصري أو يحقق في هذه اللعبة كل هذه الإنجازات الفردية أو الجماعية قط، فكان أقصى آمال المصريين أن يحترف لاعب منهم في فريق متوسط بأحد الدوريات الكبرى، حتى أتى صلاح ليرفع سقف المصريين إلى حد غير مسبوق، ومنها أن طريق محمد صلاح نحو هذه الإنجازات لم يكن مُعبدًا بالورود، وإنما كانت انتصاراته تأتي بعد مخاضات عنيفة أشبه بأبطال السير الشعبية والملاحم الذين أعدتهم الأقدار على مهل ليتولوا زمام القيادة، فقد خسرت مصر بسداسية مُذلة أمام غانا أبعدتها عن طريق كأس العالم في تصفيات عام 2014، وكانت مصر على وشك الخروج في النسخة التالية لولا ما فعله محمد من تحول مذهل في مباراة التأهل، وقد خرج صلاح مصابًا في كتفه إصابة عمدية شاهدها العالم كله في نهائي النسخة الماضية من دوري أبطال أوروبا أدت إلى خسارة فريقه اللقب ليعود في النسخة التالية ليرفع اللقب.
ومنها أيضًا أن تجربة اللاعب مثلت في وجدان الجماعة الشعبية وعقلها اللاواعي كسرًا لعُقدة الخواجة ودحضًا لسردية عجز الإنسان المصري أو العربي أو المحافظ عن التكيف والتأقلم مع الخارج المأمول الذي يمثل المعيارية كما يشرح إدوارد سعيد في دراسته للاستشراق، فضلاً عن النجاح الباهر وعدم الانبهار الساذج، إذ ترجع أصول اللاعب إلى محافظة الغربية في دلتا مصر، ويحرص اللاعب على السجود بعد كل هدف يحرزه، وترتدي زوجته لباسًا محافظًا بصورة ملفتة.
فنرى تقارير تتحدث عن تراجع “الإسلاموفوبيا” في ليفربول على وقع تألق النجم وتقارير أخرى عالمية تحتفي بزوجته المحافظة، وفي الداخل يعيد “الفرعون” الذي تتغنى الجماهير باسمه في مدرجات “الأنفيلد” الروح إلى الشخصية المصرية في ظل واقع محتقن ومأزوم بشكل ربما لم تعرفه مصر الحديثة من قبل، فأصبحت مشاهدة الـ”مو” تساميًا على كل اضطرابات الشخصية المصرية وإنكارًا لواقعها المريض وإقرارًا بواقع آخر مأمول.
هذه الذات الجمعية المتوترة قررت ضمنيًا أن تلتف حول بطلها في كل محطاته، لأن مصيرها الرمزي صار مرتبطًا بمصيره، وعوالمها المتخيلة التي تهرب فيها من بؤس واقعها أمست معلقة على رؤيته يركض خلف الكرة ويحرز الأهداف، فلم تدخر جهدًا في دعمه متى استشعرت احتياجه لها، تصوت له في الاستفتاءات الجماهيرية فيكتسح منافسيه ويتفوق على ميسي ورونالدو، وتؤازره في معركته مع اتحاد الكرة بعد استنجاده بها فينصاع اتحاد الكرة المحلي إلى كل طلباته، حتى أخطائه صارت تفتش فيها على ما لا يهز صورته المثالية عندها، فلم تر من رحلته إلى “إسرائيل” مع فريقه السويسري “بازل” إلا سجدته وهدفه وصورته عند قبة الصخرة، رغم أن نفس الجماهير قد تُسقط غيره إذا فعل ذلك وقد فعلت، وترى في تبرعه المالي للنظام الحاكم الذي يفسد عيشتها تقيةً وثمنًا للحفاظ على مستقبله المهني.
الفترة الأخيرة تخللها انتكاس شديد في ذكاء صلاح الاجتماعي والعاطفي، وانقلاب في نظرته إلى ذاته وزملائه والجمهور، فتحولت العلاقة بينه وبين الآخرين – وبينه وبين ذاته – من بطل واثق يستوعب الجميع وذاته، إلى بطل هش سريع الانفعال
في المقابل فإن الجماهير تنتظر من بطلها اعترافًا دائمًا بالجميل، اعترافًا يؤكد ذاتها كما تأكدت ذاته، فتشعر أنها أكثر التحامًا بالبطل وأكثر ثقة بالنفس لأن ثقتها مستمدة منه وليس العكس، وفي نفس الوقت، فإن هذه الذات الجمعية التي تعرضت لكثير من الصدمات في السابق تتوجس من هذا البطل غير المكتمل وتتحفز لإسقاطه في أقرب محطة إذا استشعرت خذلانها واحتمال تعرضها لصدمة جديدة على يده.
أين أخطأ صلاح؟
فضلاً عن موهبته وتوفيقه الكبير بلا شك، فإن مسيرة صلاح المهنية اتسمت بما يسمى في الدراسات النفسية وعلوم تطوير الذات بالذكاء العاطفي (Emotional Intilligence) والذكاء الاجتماعي (Social Intilligence)، فتلحظ فيه الثقة بالنفس التي لا تتعارض أبدًا مع التواضع، والمرونة الاجتماعية الكاملة دون أدنى شعور باختراق الذات، شهرة كونية ضاربة لا تغير في النفس شيئًا جوهريًا، يسأله الإعلام عما إذا كانت الجماهير تمثل عامل ضغط عليه فيجيب إن أهله يريدونه الأفضل فقط، يفوز بجائزة أفضل لاعب في المباراة فيهدي الجائزة لزميله الذي يلعب مباراته الـ500 في الملاعب، ويطلب أحد المتابعين قميصه فيرسل له قميصًا أصليًا في طرد إلى المنزل.
تبدو هاتان السِمتان جليًا عندما تتأمل ثراء مسيرته المهنية الخارجية، بدءًا من سويسرا تلك البلد الفقيرة كرويًا الغنية ثقافيًا التي تتحدث عدة لغات ليس من بينها الإنجليزية، مرورًا بإيطاليا حيث أجاد اللاعب الإيطالية خلال فترة احترافه بـ”روما”، ووصولًا إلى إنجلترا التي شهدت بزوغ نجمه، خمسة أندية في ثلاث بلدان أوروبية ومنحنى التطور المهني والاجتماعي في نمو هائل، يمضي إلى الأمام ولا ينظر إلى الخلف، يجتاز التحديات ويحطم الإنجازات، الواحد تلو الآخر، علمًا بأن اللاعب لم يحصل على أي شهادة عليا إلى الآن.
ومع ذلك، فإن الفترة الأخيرة تخللها انتكاس شديد في ذكاء صلاح الاجتماعي والعاطفي، وانقلاب في نظرته إلى ذاته وزملائه والجمهور، فتحولت العلاقة بينه وبين الآخرين – وبينه وبين ذاته – من بطل واثق يستوعب الجميع وذاته، إلى بطل هش سريع الانفعال يُهاجم الآخرين ليدافع عن ذاته – الهشة – أو ليستعليَ عليهم، ومن ذلك:
انتقاده السلوك التشجيعي الحماسي لجمهوري أكبر فريقي كرة محليين في مصر، الأهلي والزمالك، في تغريدة بلا أي سبب حقيقي على تويتر، وهو ما استنكره الجمهور واعتبره نوعًا من التعيير الثقافي من اللاعب المحترف في الخارج، وكان هذا أول مسمار في نعش العلاقة الاستثنائية بين صلاح والجمهور.
يتهم صلاح بعض الصحفيين والجمهور بتأويل كلامه وتحريفه، ويعترف أحيانًا أن التعبيرات صارت تخونه، ويدافع “أبو تريكة” عن صلاح بحب واستماتة شديدين، فيرجع الأمر إلى الضغوط الشديدة على اللاعب
انتقاده الجمهور المحلي في مصر بشكل عام، معتبرًا إياهم سببًا في الضغوط التي يتعرض لها، إلا أنه – كما قال – لم يتأثر بتلك الضغوط لأنه تعلم في الخارج أن يدير ضغوطه، وهو ما لا يعرفه الناس في مصر، وأن رأيه في ذاته يستمده من داخله لا من آراء الآخرين، مستخدمًا بعض المفردات الإنجليزية في حواره مع الصحفيين المصريين، فكانت تلك التصريحات القشة التي قصمت ظهر البعير، خاصة أنه كان قد نشر صورة له في وقت سابق يقرأ كتاب “فن اللامبالاة”.
رفض الاستجابة لضغط الجماهير بحذف صورة نشرها لنفسه على مواقع التواصل الاجتماعي مبتسمًا في سريره غداة حادثة قطار رمسيس التي احترق فيها المصريون على الهواء مباشرة، سلسلة من التصريحات الإعلامية تضمنت حديثًا عن إنجازاته التي لم يسبقه إليها أحد محليًا وعربيًا وإفريقيًا، على حد قوله، وهجومًا مبطنًا على زملائه في الفريق، التي فند المتابعون مبالغتها ودوافعها.
ما الذي حدث؟ وما الحل؟
يتهم صلاح بعض الصحفيين والجمهور بتأويل كلامه وتحريفه، ويعترف أحيانًا أن التعبيرات صارت تخونه، ويدافع أبوتريكة عن صلاح بحب واستماتة شديدين، فيرجع الأمر إلى الضغوط الشديدة على اللاعب، التي وإن عكست جانبًا لا يحبه الجمهور داخل أو خارج الملعب، فإنها لا تقدح في أصالة معدنه الأصلي كبطل للشعب.
من الوارد فعلاً أن يكون الجمهور قد حمل صلاح أكثر مما يحتمله لاعب رياضي، وربما أحيانًا أراد الزج به في معارك لا تخصه كلاعب كرة قدم، خاصة أن استمراء مقارنته بصديقه والضغط لإجباره على العيش في جلبابه تعني أن قَبوله مشروط بقالب معين من السلوك لا يضع اعتبارًا لخصوصية مسار اللاعب، وهو ما يأباه الواقع ويرفضه أبوتريكة نفسه بل وربما يضع علاقة الصديقين الحميمين على المحك مستقبلاً.
هذه الصدمات المتكررة، قد تقوم بتقويم وضبط بوصلة هذه العلاقة غير الصحية التي أنتجها واقع شديد التعقيد والتشوه
ولكن في المقابل فإن صلاح – على ما يبدو – بات يريد نجومية مجانية وحبًا غير مشروط، ويعتقد – خطأ – أن ممارسة “العنف السلبي” و”الاستعلاء” الثقافي ضد الجمهور ستمنحه هامشًا أوسع من الحرية، غافلًا حقائق رئيسية مثل: أن هذا الجمهور فاعل رئيس في رحلته الناجحة، والحب الشديد كثيرًا ما يؤدي إلى الكره الشديد، وأن ما يحدث خارج الملعب يؤثر على أدائه داخل الملعب، وهو المستفيد الأول من استرضائهم كما كان يفعل الماضي، وأن المشكلات التي حدثت مع الجمهور كان هو سببها الأول أو أحد أسبابها، ولكنه كان يلجأ – على غير طبعه – إلى حلول أقل نضجًا وأكثر كلفة.
الإيجابي في الأمر، أن هذه الصدمات المتكررة، قد تقوم بتقويم وضبط بوصلة هذه العلاقة غير الصحية التي أنتجها واقع شديد التعقيد والتشوه (لا يمكن أن يتحمل مسؤوليته طرف بعينه من أطرافها)، بما يضمن استمرارها بأفضل النتائج الممكنة لأطرافها، خاصة عندما يدرك الجمهور أن نجمهم المفضل لا يعدو كونه لاعب كرة قدم محترف، وأن نضجه داخل الملعب لا يعني بالضرورة نضجه خارجه، ومن الطبيعي أن يكون لديه نجوم عالميون في كل المجالات، وعندما يعرف صلاح من جانبه أن قدرته على ضبط علاقته بالجماهير لا تقل أهمية عن التدريب قبل المباراة، وأن ممارسة سلطة فوقية على الجماهير لن تؤدي إلى نتائج إيجابية بأي حال وأن قبول الجماهير التي تعتبره بطلها قد يكون حلاً أفضل من محاولة تعلم “فن اللامبالاة”.