خرجت مظاهرات مدفوعة من فلول النظام البائد في بعض أحياء مدن اللاذقية وطرطوس وحمص وجبلة والقرداحة، الأربعاء الماضي، مرددين شعارات طائفية، لتبدأ معها حملات أمنية من قبل قوات الأمن العام التابعة للإدارة السورية الجديدة.
المظاهرات التي انطلقت في توقيت واحد، جاءت – حسب مزاعم المتظاهرين – كرد فعل على مقطع فيديو قديم متداول يظهر اعتداء مجموعات مسلحة مجهولة على مقام ديني علوي للشيخ “أبي عبد الله الخصيبي” في منطقة ميسلون بحلب شمال سوريا.
ويُظهر المقطع الذي جرى تداوله عناصر من المعارضة آنذاك وهم يدخلون ثكنة هنانو العسكرية في مدينة حلب حيث يقع المقام، خلال معركة “ردع العدوان” التي انطلقت أواخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مع وجود قتلى لقوات النظام داخل المكان واندلاع النيران.
وبالتزامن مع المظاهرات أعلنت وزارة الداخلية مقتل 14 عنصرًا وإصابة 10 آخرين من قوى الأمن التابعة لإدارة العمليات العسكرية، إثر اعتداء عناصر من فلول النظام البائد في محافظة طرطوس وحمص وسط وغربي سوريا، وهو ما دفع إدارة العمليات العسكرية لاستقدام تعزيزات عسكرية للبدء بحملة تمشيط واسعة النطاق مع فرض حظر التجوال من الساعة الثامنة مساء الأربعاء، حتى الثامنة من صباح الخميس.
لماذا صدر المقطع الآن؟
أصدرت وزارة الداخلية السورية بيانًا بشأن الفيديو الذي تم تداوله مؤخرًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدة أن “هذه المقاطع قديمة وتعود لفترة تحرير مدينة حلب، حينما أقدمت مجموعات مجهولة على هذا العمل التخريبي”، موضحة أن “الهدف من إعادة نشر هذه المقاطع الآن هو إثارة الفتنة بين أبناء الشعب السوري في هذه المرحلة الحساسة”.
وأشارت وزارة الداخلية إلى أن بعض الفلول التابعة للنظام البائد في الساحل السوري وريف حمص استغلت الشائعات الأخيرة، وقامت باستهداف قوات وزارة الداخلية، ما أسفر عن سقوط عدد من الشهداء والجرحى في صفوف القوات الأمنية.
وكانت منصة “تأكد” (المتخصصة بالتحقق من الأخبار والمعلومات)، أكدت أن التسجيل المتداول لاعتداء مسلحين على المقام “صحيح لكنه جاء بسياق مضلل”، فالفيديو المُعاد تداوله الآن قديم ويعود إلى فترة المعارك التي جرت بين الثوار المشاركين في عملية “ردع العدوان” وقوات النظام السوري أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والتي كانت بداية مرحلة سقوط نظام الأسد.
وتابعت المنصة التي نقلت عن عناصر حماية المقام، قولها، إن “القتلى الذين ظهروا في التسجيل يتبعون لقوات النظام، التي كانت تشتبك مع الثوار من داخل المقام”.
عقب تداول الفيديو خرجت مظاهرات في طرطوس وريف حمص واللاذقية نادت بشعارات طائفية مثل “يا علي”، كما تم تداول مقطع فيديو لأحد رجال الدين العلويين ويدعى لقمان بدر غرة الذي حاول استثمار الفيديو المتداول عبر شحن المتظاهرين العلويين ودعوتهم لتشكيل لجان شعبية طائفية مسلحة تهاجم قوات الأمن قائلًا “”أي واحد يستفزنا سنقطع رأسه”، قبل أن يخرج بتسجيل ويدعي أن المظاهرة كانت سلمية.
وتفاعل ناشطون وصحفيون على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد الدعوات الطائفية المحرضة، إذ غرد الكاتب السوري، ماهر شرف الدين، على حسابه بـ”إكس”:
“بعد 14 عامًا من التربُص بأي شعار ديني في أي مظاهرة، فقط ليقولوا بأنها ليست ثورة.. تخرج مظاهرتهم الأولى بشعار “يا علي.. أي نعم!”
فيما نشر الباحث في الشؤون الإيرانية، ضياء قدور، صورة لقمان بدر غرة، معلقًا: “الشيخ المحرض لقمان بدر غرة برفقة آية الله شيرازي. لقمان ينفذ الأجندات الإيرانية بحذافيرها، وخطابه اليوم يمعن في إشعال الفتن الطائفية.
أما الصحفي السوري عقيل حسين، فقد لفت في تغريدة له إلى أن كل هذا الهرج بحجة الاعتداء على (المقام) الذي تم تأمينه من جانب السلطات الجديدة منذ دخولها حلب ويبدو بحالة جيدة، ما يؤكد أن احياء قصة الاعتداء عليه القديمة مجرد ذريعة لضرب الأمن والاستقرار.
ما دور إيران؟
هذه الاحتجاجات جاءت بعد ساعات فقط من تصريحات مسؤولين إيرانيين حول ما يجري في سوريا، حيث صرح وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، لوكالة “مهر” الإيرانية: “من يعتقدون بتحقيق انتصارات في سوريا عليهم التمهل في الحكم، فالتطورات المستقبلية كثيرة”، الأمر الذي اعتبره متابعون البدء بإعطاء تعليمات لفلول النظام البائد.
ولم يقتصر التهديد المبطن على تصريح عراقجي، بل سبقه تصريح لمرشد الثورة الإيرانية، علي خامنئي، قال فيه: “ليس لدى الشاب السوري ما يخسره. جامعته، مدرسته، منزله وحياته كلها غير آمنة، فماذا يفعل؟ يجب عليه أن يقف بإرادة قوية أمام أولئك الذين خططوا ونفذوا لهذه الحالة من انعدام الأمن، وسيتغلب عليهم إن شاء الله”.
كما صرح عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران محسن رضائي: “في أقل من عام سيعيدون إحياء المقاومة في سوريا بشكل مختلف وسيبطلون المخطط الشرير والمخادع لأمريكا والكيان الإسرائيلي ودول المنطقة”.
لم يستغرب سوريون التصريحات الإيرانية والتحريض، فخلال سنوات الثورة السورية سهلت طهران انخراط آلاف المتشددين إلى عمق الحاضنة الموالية وقدمت لهم امتيازات كبيرة، حتى صار من المعروف والمؤكد أن أعمال إثارة القلاقل ممهورة بمصادقة إيران، التي لم تستوعب إلى الآن هزيمتها في سوريا وخسارتها قلب الهلال الشيعي التي كانت تعمل عليه منذ أكثر من عقدين.
ومع خسارتها الموقع في سوريا إلا أن مراقبين يروون أن طهران لا تزال مهتمة بتفريخ ودعم فلول النظام وهندسة إثارة الفوضى ورفض محاسبة هؤلاء الفلول، رغم طمأنة الإدارة السورية الجديدة والتعهد لكل المكونات السورية بعدم التعرض لهم واحترام معتقداتهم وحريتهم الدينية، باستثناء الأفراد الذين تلطخت أيديهم بالدماء السورية.
إلا أن إيران نفت مسؤوليتها عن تأجيج المظاهرات، ووصف المتحدث باسم الخارجية هذه الاتهامات بالباطلة، وصرح أنه “من الضروري منع انتشار الانفلات الأمني والعنف ضد مختلف شرائح المجتمع السوري وضمان أمن المواطنين”.
من هو الخصيبي؟
يعد مقام الشيخ الخصيبي واحدًا من أهم المزارات الدينية للطائفة العلوية، وكان سابقا قبر مهمل في منطقة القشلة (ثكنة هنانو العسكرية) ضمن مكان صغيرة متداعٍ، وظل مهملًا إلى أن استولى عليه الثوار ثم نظام الأسد المخلوع، ليعيد بناءه وتوسعته أحدُ أركان النظام المجرم سهيل الحسن، بدعم إيراني، لخلق موطىء قدم، حيث أطلق عليه اسم جامع أهل البيت.
وادعى الحسن أن هذا القبر للخصيبي أحد مؤسسي المذهب النصيري، رغم أن توسعته تشبه المزارات الإيرانية طابعًا وشكلًا، بهدف التخلص من الطابع العثماني الذي ميزه أصلًا.
وقد ذُكر في ترجمة الخصيبي أنه توفي في حلب، لكن لا يوجد مرجع واحد يحدد مكان قبره بالضبط، ولا مكان وفاته، لا سيما كتب تاريخ حلب.
في حين يحدد مؤرخ حلب، كامل الغزي، في كتابه “نهر الذهب في تاريخ حلب”، أن صاحب هذا القبر هو الشيخ يبرق وليس الخصيبي، وهو رجل من الصالحين كان يتبرك به العامة.
واللافت أنه على مدار سنوات الثورة الماضية لم يظهر أي ذكر لمزار الخصيبي الموجود في حلب، وكثير من أبناء المحافظة لا يعرفون شيئًا عنه، فضلًا عن أن يعرف عنه أبناء المحافظات الأخرى، بما فيها الأقليات.
كما أن الاعتداء على المزار بيوم دخول قوات “ردع العدوان” إلى حلب مطلع الشهر الفائت ونشره في هذا التوقيت يدفع إلى التساؤل والاستغراب، إذ تم اختياره كضريح يخص الطائفة العلوية بالتحديد، مع العلم أن حلب يتواجد فيه أضرحة ومزارات خاصة بالشيعة، كمسجد النقطة أو ما يعرف بمشهد النقطة نسبة إلى مزاعم بوجود صخرة عليها نقطة دم من رأس الحسين بن علي.
ويعتبر شعار “الدفاع عن العتبات المقدسة” سردية إيرانية غذاها “حزب الله” اللبناني لإعلان حربه الطائفية في سوريا وحماية نظام الأسد المخلوع، في حين أن المزارات والأضرحة عند العلويين تكاد منسية.
وكان حضور القوة الناعمة لإيران خلال سنوات الثورة السورية في الساحل السوري في مرتبة الصفر تقريبًا، فقلب الحاضنة المحلية العلوية وطقوسهم المجتمعية بدءًا من اللباس والحجاب والمأكل والمشرب والحياة اليومية والدينية مختلفة تمامًا عن النسق الشيعي الملتزم بطقوس معينة وصارمة وشعيرة التطبير الدموية واللطم.
إضافة إلى تحول الحسينيات الشيعية في الساحل لمراكز ناشزة وغير مقبولة بالنسبة للعلويين، وبالتالي فإن المجتمعات العلوية مالت إلى الانعتاق من دعوات التشيع وبقيت إلى حد ما على حالها دون التأثر المطلق بسرديات حماية العتبات والمراقد.
ونشر ناشط إعلامي مقطع فيديو على حسابه في “إكس”، من داخل مقام الشيخ أبي عبد الله الخصيبي، بحلب، حيث أكد أن المقام مقفل ومؤمن من عناصر حماية تتبع لإدارة العمليات العسكرية.
كما أظهر مقطع الفيديو المكان وهو مضاء بالكامل وبأحسن حال، دون أن تظهر أي علامات أو آثار تخريب وفق ما تم ترويجه سابقًا.
مقطع الناشط كان قد سبقه أيضًا تطمينات أخرى، إذ انتشر فيديو مصور يظهر فيه مقاتلون سوريون وهم يتفقدون الضريح، ويتوعدون المعتدين عليه بالمحاسبة أمام القانون.
ختامًا.. إن التجييش الطائفي المبالغ فيه جدًا حيال تجاوزات بعض المجموعات المجهولة على المراقد والمزارات، والتوجه بحجة ذلك إلى ضرب السلم الأهلي من خلال إدعاء المظلومية الدينية، ما هو إلا مشهد مشابه لتطرف تنظيم “داعش” الذي انتهج تدمير الأضرحة وتجريفها، ومن وراء ذلك التلذذ بالقتل، فالحقيقة التي كانت أبعد من ذلك تكمن في استهداف الثورة السورية وضرب كل المكونات ببعضها، بحثًا عن إحياء مشروع ولاية الفقيه الذي دفنه السوريون وصار وراء ظهورهم.