يقول سكوت بيترسون أحد كتاب صحيفة كريستيان ساينس مونيتور الأمريكية في تحليل له، إن إيران تمتعت بنفوذ في العراق منذ الغزو الأمريكي عام 2003، من خلال الاستثمارات الكبيرة والعمل الخيري لمساعدة الأغلبية الشيعية في البلاد، وكذلك عن طريق دعم المجموعات المسلحة لمهاجمة القوات الأمريكية على الأراضي العراقية.
ولكن قدرة إيران على التأثير في المؤسسة الدينية القوية كانت محدودة، وهي مؤسسة الحوزة العلمية بزعامة السيد علي السيستاني في مدينة النجف المقدسة لدى الشيعة، والآن تحاول طهران بالاشتراك مع حزب الدعوة الذي يتزعمه رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، الدفع برجال دين إيرانيين إلى النجف، لتثبيتهم في مرحلة ما بعد السيستاني، وجعل العراق أقرب إلى إيران.
وجنبًا إلى جنب مع الوجود العسكري والسياسي الواضح لإيران في العراق، فإن هناك أشكالًا من التدخل الفكري الأكثر دهاءً ونعومة، ولا يمكن فهمها بسهولة. تثير هذه التأثيرات تساؤلات عن مستقبل العراق والإسلام الشيعي، خاصة بعد وفاة السيد السيستاني البالغ من العمر 86 عامًا، إذ أشارت صحيفة لوموند الفرنسية أن المرجع الشيعي المقيم في مدينة النجف العراقية، السيد علي السيستاني لا يثق في إيران، وكثيرًا ما انتقد بحدة العقلية الاستعمارية الإيرانية وممارستها للأرستقراطية التي يروج لها رجال الدين الإيرانيون.
لقد سلطت الفتوى التي أصدرها السيستاني عام 2014، لحث العراقيين على محاربة تنظيم داعش، الضوء بشكل أوضح على التوترات القائمة بينه وبين خامنئي، ففي حين توافد العديد من المقاتلين إلى العراق استجابةً لنداء السيد السيستاني، طوّع خامنئي ممثليه السياسيين والأمنيين في الفصائل المسلحة، لاجتذاب هؤلاء المحاربين إلى دائرة نفوذه، وعندما اتخذ السيد السيستاني خطوات لضمان بقاء بعض فصائل الحشد الشعبي تحت نفوذه، على سبيل المثال فصائل “المرجعية” و”العتبات” و”العباس القتالية”، ردت طهران بوقف دعمها العسكري والمالي لها.
يواجه خامنئي تحديات كبيرة في مجال الإعداد لمرحلة ما بعد السيستاني، ففي دراسة لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، أشارت الدراسة إلى أن أتباع السيستاني سيرفضون حتمًا توسعة نفوذ خامنئي في النجف
ويضاف إلى ما تقدم فإنه خلافًا لخامنئي، يتجنب السيستاني الخطابات الطائفية التي تتناول السلفيين أو السنة أو الخصومة بين إيران والسعودية، بل يثبط عزيمة مواطني دول الخليج والدول العربية على دعم حركات التمرد ضد حكوماتهم، وبالمثل حث أتباعه على عدم حمل السلاح على خلفية قضايا “شيعية” ساخنة مثل دعم بشار الأسد في سوريا أو معارضة النظام السياسي في البحرين، فإذا توفي السيستاني، سيطالب العراقيون على الأرجح بزعيم جديد بارز في النجف، لتقديم المشورة الدينية والاضطلاع بدور في السياسات والحوكمة المحلية.
فإلى جانب محمد باقر الإيرواني وعبد الأعلى السبزواري، سيسعى خامنئي بلا شك إلى توسيع دائرة نفوذه في النجف أيضًا، إلا أن سلطته هناك ستكون مقيدة بعدة عوامل: أولًا، تنبثق سلطته العظمى في إيران من مكانته السياسية في طهران أكثر من مكانته الدينية في قم، وثانيًا ليس لديه الكثير من الممثلين الذين يستطيعون ممارسة نفوذهم في النجف.
وإلى جانب ما تقدم، يواجه خامنئي تحديات كبيرة في مجال الإعداد لمرحلة ما بعد السيستاني، ففي دراسة لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، أشارت الدراسة إلى أن أتباع السيستاني سيرفضون حتمًا توسعة نفوذ خامنئي في النجف، مشيرةً إلى أنه أي السيد السيستاني، يمتلك شبكة قوية تضم أكثر من 600 ممثل في كل أنحاء العراق، يمكنهم أن يشكلوا حصنًا ضد نفوذ خامنئي، ومن شأن التلاميذ الناشطين في الحوزة العلمية في النجف أن يؤدوا دورًا أيضًا في دعم معلميهم ليخلفوا السيستاني.
إضافة إلى ذلك، تملك النجف مجموعة متنوعة من المصادر المالية المستقلة في جميع أنحاء العالم، بما فيها بريطانيا والولايات المتحدة ولبنان، وهو ما يمكّن الحوزة العلمية في النجف من مواصلة دورها دون أن تحتاج إلى دعم من إيران، وهو ما سيؤدي أيضًا إلى إحباط أي محاولة من جانب نظام الولي الفقيه لاستقطاب علماء النجف بإغراءات مالية، فأوجه الخلاف بين الخامنئي والسيستاني كثيرة، لعل أبرزها ما يتسم به خامنئي من:
- التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
- تأجيج الخلافات المذهبية في المنطقة.
- الاستعانة بمقاتلين مرتزقة وتوظيفهم لخدمة الأهداف الإيرانية.
- إنشاء جماعات مسلحة وتهديد الأمن القومي للدول.
- إعادة إمبراطورية فارس بحدودها التاريخية القديمة.
- الاستعانة بعملاء عراقيين لتقوية النفوذ الإيراني في العراق.
يمثل السعي الإيراني المستمر إلى ترسيخ فكرة ولاية الفقيه في العراق والمنطقة، هدفًا إيرانيًا لم تحد عنه إستراتيجيتها السياسية والعسكرية وحتى الثقافية
لقد تغيرت أحوال المرجعية الدينية في العراق كتغير بقية مناحي الحياة داخل العراق، ومن الجائز أن تصيبها حالة الارتباك لأنها مبنية أساسًا على اللانظام؛ إذ ليس هناك تقليد يحميها من ذلك، وهنا نشير إلى أنه عندما تسلم السيد السيستاني المرجعية من الخوئي، استطاع حمايتها من السياسة، إلى جانب أعلميته وعدم وجود منافس له، لكن الأمر يختلف بعد السيستاني، وإذا ما تسلمها أحد المراجع الثلاث “فياض والنجفي وسعيد الحكيم” الذين تقترب أعمارهم من عمر السيستاني، فلن يكون لهم مكانة السيد السيستاني، بل وحتى أعلميتهم وحظوتهم في المجتمع الشيعي الإمامي.
لكن يبقى المرشح الأقوى بين كل هؤلاء السيد محمد سعيد الحكيم، حفيد المرجع المعروف السيد محسن الحكيم، خاصة أنه المدعوم من المجلس الأعلى الإسلامي في العراق بحكم الصلات الأُسرية، مقابل دعم حزب الدعوة الإسلامية للحائري المحسوب على طهران، وفي كل الأحوال، ستواجه المرجعية الدينية أزمة حادة بعد السيستاني، قد لا تبقى مركزية عليا فيها، وهذا وارد جدًا، وما نراه اليوم، حتى بوجود السيستاني، مؤشر إلى أن المركزية العليا تكاد تهتز، وتغلب عليها الأحزاب الدينية والفصائل المسلحة وكثرة مراجعها، فكيف الحال بغياب السيستاني الذي ما زال صمام الأمان لمرجعية النجف؟
وقد تتجاوز إيران كل الخيارات المطروحة، من خلال ممارسة ضغوط تسعى من خلالها إلى حسم الأمر بمرجع مباشر من دوائرها، وإذا تحقق هذا الأمر فسيُعد تدميرًا للمجتمع الشيعي في العراق.
يمثل السعي الإيراني المستمر إلى ترسيخ فكرة ولاية الفقيه في العراق والمنطقة، هدفًا إيرانيًا لم تحد عنه إستراتيجيتها السياسية والعسكرية وحتى الثقافية، فلطالما أشارت إيران إلى ارتباط جماعات وأحزاب ومنظمات مدنيةً كانت أم عسكرية بالولي الفقيه في إيران، فقد أشار القائد العام للحرس الثوري الإيراني السابق اللواء محمد علي جعفري قائلا: “الحمد لله، فإن تاريخ الجمهورية الإسلامية مفعم بالأتباع للولاية، واليوم قد اجتاز هذا الأمر الحدود الإيرانية”، وما سمّاه “الثبات في سبيل الله” هو الذي أدى إلى انتصارات نظامه في العراق وسوريا واليمن وفلسطين.
وعلى الرغم من نجاح الجهود الإيرانية في تكريس موضوع التبعية للولي الفقيه في إيران عند أغلب الطبقة السياسية الشيعية والفصائل المسلحة في العراق، فإن الكثير من الشخصيات الشيعية البارزة، استنكرت تطبيق نظرية ولاية الفقيه، واعتبرت أنها خروج عن الخط السياسي الشيعي التقليدي، وفيها تعدٍ على سلطة الإمام المهدي، ولعل السبب الرئيسي الذي حدى بتلك الشخصيات على هذا الاعتراض، أنها وجدت أن تطبيق تلك النظرية والموافقة عليها سيمثلان خطورة كبيرة على نفوذها المحلي، وسيؤديان إلى انضواء كامل تحت راية مرجعية طهران التي تلبس ثوب الولي الفقيه، ومن أهم تلك الشخصيات الرافضة لتطبيق نظرية ولاية الفقيه، مراجع كربلاء والنجف، ومنهم المرجع المتوفي أبو القاسم الخوئي وعلي السيستاني ومحمد سعيد الحكيم.
لم تغفل إيران عن موضوع الترويج المعرفي لثقافتها وعلومها كجزء من دبلوماسية عامة تمارسها في محيطها الخارجي
بالمجمل تتمثل المساعي الإيرانية في ترويج نموذجها الديني في العراق، من أجل تحقيق هدف تقوية القبضة الإيرانية على شيعة العراق، ولضمان نجاح هذا المسعى، أرسلت إيران منذ العام 2003 وحتى اليوم، الكثير من رجال الدين الإيرانيين للدراسة في الحوزة العلمية بالنجف، فضلًا عن ذلك تقدم إيران الكثير من التسهيلات المتعلقة بزيارة الأضرحة الخاصة بأهل البيت “عليهم السلام” الموجودين في إيران، وذلك لإعطاء دفعة قوية لنفوذها الديني في العراق.
يأتي المسعى الإيراني في هذا الإطار ضمن جهد عام للحركة الإيرانية الفاعلة على الساحة العراقية، فإلى جانب ما تم ذكره أعلاه، لم تغفل إيران عن موضوع الترويج المعرفي لثقافتها وعلومها، كجزء من دبلوماسية عامة تمارسها في محيطها الخارجي، والعراق بحكم قربه الجغرافي كان أول المستهدفين من هذا المسعى، فالجهد الإيراني هنا يتضح بصورة كبيرة في الكم الهائل من الكتب والرويات الإيرانية المترجمة والمنتشرة في المكاتب العراقية.
ومن ضمن الكتب الواسعة الانتشار كتاب “الخامنئي قائدي” الذي يتم تداوله بصورة واسعة بين الأوساط الدينية والحوزوية، إذ تتبنى “مؤسسة الإسلام الأصيل”، وهي إحدى دور النشر الواسعة الانتشار في مدينة النجف طبع وتوزيع هذا الكتاب، فجاء في الصفحة الافتتاحية لهذا الكتاب:“سر دائمًا خلف السيد خامنئي، وادعم دائمًا ولاية الفقية، اليوم تعتمد مكانة الإسلام على مكانة وكرامة الجمهورية الإسلامية في إيران، وكرامة الجمهورية الإسلامية، تعتمد على حماية كرامة السيد خامئني”، وبالتالي فإن هذا الكتاب نموذج من عشرات الكتب التي تسعى إلى ترسيخ موضوع النموذج الإيراني الثقافي والمذهبي في العراق.
وكما هو معروف فإن التيار أو المذهب الشيعي في العراق، يرفض موضوع الربط بين الدين والدولة، كما أنه من أشد المطالبين بمدنية الدولة، وعليه تسعى إيران من خلال هذه الجهود إلى إلغاء الهوية الدينية لمرجعية النجف في العراق، من خلال نشر الكثير من الكتب التي تعارض أفكارها، وتناقضها في كثير من الأحيان، وعليه فإن إيران تجد في هذه الوسيلة طريقة سهلة لتقوية النفوذ الإيراني في العراق، ولك أن ترى حجم الارتباط العقائدي الذي يربط الكثير من الأحزاب وقادة الفصائل بالقيادة الدينية في إيران.
تهتم إيران بشكل كبير بالبعد الديني المذهبي في خطابها، بصورة حكمت سياستها وعلاقاتها مع الأحزاب والحركات السياسية والمسلحة، لا سيما تلك التي تؤمن بـ”ولاية الفقية”
إضافة إلى ما تقدم لم تتوقف الجهود الإيرانية عند نشر وترويج الكتب الدينية والثقافية الخاصة بها، وإنما تجاوزت ذلك إلى الحد الذي نظمت معارض للكتب الإيرانية في العراق، التي كان آخرها المعرض الذي نظمته القنصلية الإيرانية في أربيل عام 2016، ضم الآلاف من العناوين المتنوعة للكتب الصادرة في إيران.
تقوية الخطاب الديني الإيراني داخل العراق
بعد العام 2003، ونتيجة لطبيعة الرؤية الإيرانية القائمة على ضرورة أن يهيمن التيار السياسي الشيعي على كل مفاصل العملية السياسية في العراق، عملت إيران على المزج بين الخطاب الديني والسياسي لأغلب القيادات السياسية الإسلامية القريبة منها، ليتحول بالتالي إلى خطاب مذهبي مؤيد لها، واعتاشت إيران عليه طيلة الفترة الماضية، وبما أن أغلب المتصدين للعمل السياسي والديني في العراق الآن، ممن كانوا يعيشون فيها ويدينون بالولاء والطاعة لها، أصبح الخطاب الذي يتصدر المشهد السياسي والديني في العراق، كما يتصوره أغلب الناس بأنه خطاب شيعي.
تهتم إيران بشكل كبير بالبعد الديني المذهبي في خطابها، بصورة حكمت سياستها وعلاقاتها مع الأحزاب والحركات السياسية والمسلحة، لا سيما تلك التي تؤمن بـ”ولاية الفقية”، وفي المقابل تعتبر بعض القوى والأحزاب الإسلامية ذات الانتماء الشيعي، إيران بعدًا وعمقًا إستراتيجيًا لها ولنشاطها، الأمر الذي استطاعت إيران استثماره للتأثير عليهم، من خلال تقوية الخطاب الديني المتمثل بتقديم نفسها بأنها “حامية المذهب”، ومصدر للفتاوى التي ينساق لها قطاع من الشيعة في العراق.
وبالتالي يمكن القول إن الخطاب الديني في العراق هو خطاب إيراني خالص وبإمتياز، لا علاقة له بالمذهب الشيعي إلا بالمقدار الذي يخدم فيه السياسات الإيرانية الحاكمة والأمن القومي الإيراني.