لم نستقر بعد على مقاعدنا داخل السينما لمشاهدة فيلم “الممر” إلا وضجت القاعة بالتصفيق الحار مع الثواني الأولى لبداية العمل، تصفيق رافقه بعض الشعارات التي تعزز مشاعر الوطنية والفخر بدور القوات المسلحة المصرية في حرب التحرير، هذا رغم أن اللقطات الأولى للعمل جاءت بمرارة النكسة.
تفاعل جاء انعكاسًا واضحًا للشحن العاطفي الذي سبق عرض العمل من مختلف شرائح المجتمع، بما فيهم بعض المسؤولين الحاليّين – عبر صفحاتهم على منصات التواصل الاجتماعي – الذين رأوا أن “الممر” عمل يستوجب المشاهدة لما يوثقه من تاريخ مشرف للجيش المصري في مواجهة المحتل الإسرائيلي عقب هزيمة 1967.
كان الحضور متأهبًا للتفاعل مع كل حركة وسكنة من العمل، حتى تلك التي خلت من أي ملامح المقاومة والشجاعة، إلا أن أكثرها قوة كانت تلك اللقطات التي جسدت الهزيمة المرة للجنود الصهاينة، حينها وقف الجميع في القاعة في مشهد يشبه مدرجات كرة القدم في مباريات المنتخب الوطني.
بعيدًا عن الميزانية الضخمة للعمل التي تكفي لإنتاج 3 أفلام كما صرّح مخرجه شريف عرفة، في تصريحات سابقة له، إلا أنه نجح في تقديم عدد من الرسائل أكثرها سياسية، للداخل والخارج على حد سواء، هذا بخلاف ما حمله توقيت العرض من دلالة رمزية، خاصة أنه تزامن مع ما يثار بشأن ما يسمى بـ”صفقة القرن” والعلاقة الدافئة التي تربط بين القاهرة وتل أبيب في الآونة الأخيرة.
“إسرائيل” العدو الأكبر
الرسالة الأولى التي حملها الفيلم وجسدها بصورة واضحة كانت التأكيد على أن “إسرائيل” العدو الحقيقي للمصريين والأمة العربية، وهو ما تم توثيقه أكثر من مرة على لسان الرائد نور “أحمد عز” خلال حديث دار بينه وبين ابنه وزوجته وبعض جنود كتيبته بسلاح الصاعقة المصرية.
المرارة التي حملتها العبارات التي جرت على لسان بطل العمل والمشاهد المروعة التي سيقت خلال النكسة تعمق حجم العداء الواضح بين دولة الاحتلال والمصريين، هذا بخلاف الحوار الذي دار بين نور والضابط الإسرائيلي ديفيد (إياد نصار) الذي لخص طبيعة الصراع بين العرب وإسرائيل في جملة واحدة “إما نحن أو هم”.
حرص أمير طعيمة مؤلف العمل الذي تدور أحداثه في الفترة من 3 من يونيو عام 1967 إلى 1968 على توثيق حجم الألم جراء النكسة وما ألحقته بالمصريين، الأمر الذي دفع بعض الجنود إلى رفض العودة لأهليهم وديارهم هربًا من نظرات العار التي ستلاحقهم.
كما أبدع المخرج شريف عرفة في نقل هذا المعنى عبر أكثر من مشهد لا سيما على لسان المجند هلال الذي تعهد بألا يضع عينه في عين والده إلا بعد أن يغسل عاره وينتقم لنفسه ولوطنه من الصهاينة، معمقًا هذا المفهوم من خلال الشحن العاطفي للجنود، ما دفع هلال إلى التصدي بمفرده لطائرات العدو، ورغم اعتراض الضابط نور على هذا السلوك الذي اعتبره انتحارًا، فإن رد المجند كان واضحًا: يكفي أن نوصل لهم رسالة إننا مش خايفين منهم وإننا رغم الهزيمة أقوى منهم.
فشل استراتيجية الشعارات
الرسالة الثانية التي حملها العمل تتعلق بفشل إستراتيجية الجيش المصري قبل النكسة، تلك الإستراتيجية التي اعتمدت على الشعارات الجوفاء التي أدت في النهاية إلى الهزيمة النكراء، وهو ما جسده الضابط نور في أكثر من حوار دار بينه وبين مجنديه، أبرزها: انسوا الفوضى اللي كنا عليها قبل النكسة.
الفيلم جاء بمثابة محاكمة فنية واضحة لنظام جمال عبد الناصر وثورة يوليو، هذا على عكس الأفلام السابقة التي تناولت تلك الحقبة وسعت إلى تجميل صورة النظام آنذاك، وهو ما اعتبره البعض نقلاً غير أمين لتلك المرحلة، متجاهلاً دور القيادة السياسية التي لم يتطرق إليها المخرج سوى في لقطة واحدة أظهرت صورة ناصر بين الجنود.
العمل وإن لم يتطرق إلى قضية العرب الأولى، القضية الفلسطينية، بصورة مباشرة ، إلا أن البعد العربي كان حاضرًا بشكل أو بآخر في الكثير من تفاصيله
كان الفشل شعار المرحلة، ليس على المستوى العسكري فحسب، بل على المستويات كافة، وهو ما تعكسه حالة الصحفي إحسان (أحمد رزق) الذي تخصص في أخبار الراقصات والملاهي، الأمر الذي دفع الجميع إلى محاولة التخلص من هذا الفشل عبر عمل بطولي يعالج سلبيات المرحلة السابقة، فاستقر الجميع على القيام بعمليات استنزاف للعدو، لعلها تكون بداية حقيقية لهم من جانب وللبلد من جانب آخر.
الضابط نور نفسه وفي حديث دار بينه وبين ابنه أكد أنهم – يقصد الجيش – سبب الفشل لكنه في الوقت ذاته تعهد أمامه بالعمل على علاج ما حدث، عبر فكر جديد وإستراتيجية جديدة تتعامل مع الأمر بناء على مفردات الواقع على أرض الميدان بعيدًا عن الشعارات الوطنية الجوفاء التي تميزت بها تلك الفترة وأدت إلى إلحاق الهزيمة بمصر في أكثر من ميدان.
شريف عرفة مخرج العمل
المباراة لسه مخلصتش
“مش معنى إن يجي فيك هدف بداية المباراة إنها خلصت.. المباراة لسه مخلصتش” لم تكن هذه الجملة التي رد بها الضابط نور على اتهامات ابنه له بالهزيمة أمام العدو الصهيوني سوى تأكيد من مؤلف العمل ومخرجه على أن الصراع مع الكيان المحتل مستمر، وأنه لم ولن ينتهي دون عودة الحقوق لأهلها.
تأكد هذا المعنى أكثر من مرة خلال الحوارات التي دارت بين الضابط الإسرائيلي والأسرى من جانب وبينه وبين نور من جانب آخر، المعنى الذي يذهب إلى أن مسألة الصراع بين العرب والإسرائيليين مسألة مستمرة ولن تنتهي في الوقت القريب، في ظل احتلال الكيان الصهيوني لشبر واحد من التراب العربي.
العمل وإن لم يتطرق إلى قضية العرب الأولى، القضية الفلسطينية، بصورة مباشرة، إلا أن البعد العربي كان حاضرًا بشكل أو بآخر في الكثير من تفاصيله وذلك من خلال أكثر من جملة تحدثت عن بقاء “إسرائيل” في المنطقة بأسرها من الأساس، وهي نقطة إيجابية خاصة مع وجود أجيال جديدة تجهل هذا الصراع وتهتم بقصايا الداخل متجاهلة قضية العرب الرئيسية.
“الممر” وإن نجح في كسب دعم الشارع لجيش أكتوبر العظيم إلا أنه نجح أكثر في تعميق مشاعر الكراهية للإسرائيليين وذلك رغم الجهود المبذولة، رسميًا كانت أو غير رسمية، لتعزيز مبدأ التعايش والتقارب بين الشعبين
التوقيت علامة استفهام
سواء كان مقصودًا أم غير ذلك فإن تزامن عرض هذا العمل الذي يعمق شعور الكراهية للكيان الصهيوني ويعزز من قيمة الانتماء والفخر لجيش التحرير وحرب الاستنزاف، مع ما يثار بشأن “صفقة القرن” والتقارب الواضح بين القاهرة وتل أبيب في الآونة الأخيرة، لهو تزامن يثير الكثير من التساؤلات.
الهتافات التي ضجت بها قاعة العرض في أثناء عرض الفيلم ضد الاحتلال ربما لا تتناسب بشكل كبير مع الخيوط العامة التي تتبناها القاهرة في السنوات الأخيرة مع العدو، حيث التنسيق البين والتفاهم الكبير، وهو ما تعكسه اللقاءات المتبادلة بين قادة الدولتين في أكثر من محفل، هذا بخلاف ما تتناقله وسائل الإعلام العبرية عن دفء العلاقات مع النظام المصري في الوقت الراهن.
العمل وإن بدا عليه منذ الوهلة الأولى وكأنه من إنتاج الشؤون المعنوية في القوات المسلحة المصرية إلا أنه أثار في كثير من نفوس مشاهديه مشاعر الوطنية والفخر لهذا الجيل الذي تصدى للمحتل ودافع عن الوطن وضحى بنفسه في مقابل عدم التفريط في حبة رمل واحدة من سيناء.
من كواليس الفيلم
أداء تمثيلي جيد
نجح عرفة في قيادة فريق العمل للخروج بأفضل أداء ممكن، كل حسب قدراته، فأبدع محمد فراج الذي نجح بقوة في تجسيد دور هلال المجند الصعيدي القناص، صاحب الغيرة الشديدة على أرضه وعرضه، الذي وقع في حب الفتاة السيناوية البدوية التي أدتها بتمكن أيضًا أسماء أبو اليزيد.
كذلك استطاع محمد جمعة إتقان دور أبو رجيبة السيناوي الذي يساعد الجنود ويرفض ترك أرضه، فيما أبدع أحمد فلوكس في دور محمود الذي أسره الصهاينة وتعرض للتعذيب لكنه لم يتخل عن وطنيته، هذا بخلاف أحمد صلاح حسني الذي نجح في رسم صورة الضابط الصارم، ومحمد الشرنوبي في دور المهندس المجند.
كما نجحت هند صبري في إتقان دور زوجة الضابط المهزوم نفسيًا بعد النكسة، وهي التي تحبه وتحاول تشجيعه ورفع معنوياته والشد من أزره، والتأكيد أن النصر حليفه مهما كانت الأمور، هذا الدعم الذي أثر وبشكل كبير في أداء الضابط المصري الذي نجح في قيادة كتيبته لتحقيق المهمة المطلوبة رغم الصعاب التي واجهته.
“الممر” وإن نجح في كسب دعم الشارع لجيش أكتوبر العظيم إلا أنه نجح أكثر في تعميق مشاعر الكراهية للإسرائيليين وذلك رغم الجهود المبذولة، رسميًا كانت أو غير رسمية، لتعزيز مبدأ التعايش والتقارب بين الشعبين، ومع كل عمل يقدم أو موقف يثار يثبت الشعب المصري أن مخططات التطبيع ومؤامرات الدمج لا محل لها من الإعراب، وأن القضية الفلسطينية هي القضية الأم مهما حاولوا تهميشها.