على مدى أربعة قرون، كانت سوريا جزءًا حيويًا من الإمبراطورية العثمانية، التي تركت بصمة واضحة في النسيج العمراني والثقافي لبلاد الشام، امتدت هذه الحقبة من القرن السادس عشر حتى أوائل القرن العشرين، وشهدت بناء معالم مميزة تنوعت بين المساجد، التكايا، المدارس، الأسواق، الخانات، والمرافق العامة، التي تشكل اليوم إرث العمارة العثمانية في سوريا.
تواجه هذه المعالم اليوم تحديًا كبيرًا يتمثل في الإهمال والتدمير الناتج عن سنوات من النزاع والحروب التي صاحبت عمليات قمع الثورة السورية، حيث تعرضت العديد منها للتخريب أو الهدم، بينما تقف أخرى في حالة يرثى لها، تنتظر جهود الترميم والإحياء. ورغم هذا الواقع المؤلم، تظهر بارقة أمل في الأفق مع سقوط نظام الأسد ووصول قيادة جديدة للمشهد السوري تمتلك علاقات وطيدة مع تركيا تجعل إمكانية التحرك في هذا الملف ممكنة وواقعية.
في هذا المقال نستعرض تاريخ الآثار العثمانية في سوريا، واقعها الحالي، وإمكانية بذل جهود تركية عبر مؤسساتها المختصة لإعادة إحياء تلك المعالم التاريخية، مع تحليل للتحديات التي تواجه هذه المهمة الطموح والفرص التي قد تنتج عنها.
تاريخ العثمانيين في سوريا.. الروائع المهملة تنتظر الانتعاش
بدأ الحكم العثماني لسوريا عام 1516 بعد معركة مرج دابق، واستمر حتى عام 1918 مع نهاية الحرب العالمية الأولى. خلال هذه الفترة، شهدت سوريا بناء العديد من المنشآت التي عكست تطور العمارة الإسلامية في سوريا بهويتها العثمانية.
تنتشر الآثار العثمانية في أرجاء سوريا كافة، من الشمال إلى الجنوب، ومن الغرب إلى الشرق. ترك العثمانيون بصماتهم العمرانية في كل المدن السورية مع التركيز على المدن الرئيسية، حيث عملوا على تطوير المرافق العامة، وبناء المنشآت الدينية، وإقامة الأسواق التجارية، وتشييد محطات البريد والسكك الحديدية.
لا يمكن أن نحيط بكل هذا الإرث في مقال واحد، ففي مدينة حلب وحدها يوجد ما يزيد على 300 بناء عثماني، لكننا سنستعرض أبرز ما تركه العثمانيون على الأرض السورية وإمكانية إحيائه.
أبرز الآثار العثمانية في العاصمة دمشق
دمشق العاصمة وأحد أقدم المدن المأهولة في التاريخ، تحمل في شوارعها وأزقتها بصمات حقب تاريخية متنوعة، منها الحقبة العثمانية، حيث تركت الإمبراطورية العثمانية إرثًا عمرانيًا غنيًا في دمشق، يتجلى في المعالم الدينية والتجارية والإدارية التي تعكس محورية هذه المدينة التي أطلق العثمانيون عليها لقب “شام شريف” وجعلوها قاعدة الحكم لهم في كل ولاية بلاد الشام العثمانية.
التكية السليمانية هي واحدة من أبرز معالم دمشق العثمانية، وتقع وسط المدينة بالقرب من سوق الحميدية والمتحف الوطني. شُيدت التكية عام 1554 بأمر من السلطان سليمان القانوني، وصممها المعماري الشهير سنان باشا. كانت التكية مركزًا دينيًا وخيريًا، حيث تضمنت مسجدًا ومدرسة ومأوى للفقراء، وهي ما زالت قائمة وتُستخدم كمركز ثقافي وسياحي، لكنها بحاجة إلى ترميم يعيد لها بريقها التاريخي.
ومن المعالم العثمانية الأخرى، سوق الحميدية، الذي يمتد من مدخل قلعة دمشق حتى بوابة الجامع الأموي. بُني هذا السوق في القرن التاسع عشر في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ويُعد أحد أكبر الأسواق المسقوفة في العالم الإسلامي. يتميز السوق بقناطر حجرية وسقف معدني يضفي طابعًا مميزًا على المكان، وما زال السوق مركزًا تجاريًا حيويًا، إلا أنه يعاني من الإهمال والتآكل في بنيته التحتية.
على مقربة من سوق الحميدية، يقف خان أسعد باشا شامخًا في سوق البزورية داخل دمشق القديمة. شُيد هذا الخان في القرن الثامن عشر بأمر من والي دمشق أسعد باشا العظم، وكان مركزًا تجاريًا مهمًا لاستراحة القوافل. يتسم الخان بساحة مركزية تحيط بها غرف وأقواس مزخرفة، ويُستخدم حاليًا كمركز ثقافي وسياحي، إلا أنه يحتاج إلى تحديث مرافقه للحفاظ على طابعه التاريخي.
في منطقة القنوات، يُبرز جامع المرادية كأحد المعالم الدينية التي بُنيت في عهد السلطان مراد الرابع. يتميز المسجد بتصميمه البسيط ونوافذه الزجاجية الملونة، وهو لا يزال قائمًا كمكان للعبادة، لكنه بحاجة إلى صيانة للحفاظ على تفاصيله المعمارية.
كما تضم دمشق العديد من الأسبلة، مثل سبيل السلطان سليمان الذي يقع في سوق مدحت باشا. بُني هذا السبيل في القرن السادس عشر لتوفير المياه للمارة، لكنه يعاني اليوم من الإهمال ويحتاج إلى ترميم كامل لاستعادة وظيفته وجماله.
من بين المؤسسات التعليمية، تأتي المدرسة السلطانية التي شُيدت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني بمنطقة باب الجابية. كانت المدرسة مركزًا للتعليم الديني والدنيوي، لكنها الآن مهجورة وتنتظر الترميم لإعادة تأهيلها كمركز تعليمي أو ثقافي.
جامع السنانية، الذي يقع بالقرب من حي الميدان، هو مسجد آخر شُيد في القرن السادس عشر بأمر من سنان باشا. يتميز المسجد بمئذنته الرشيقة وزخارفه الداخلية، وهو لا يزال يستخدم كمسجد، لكنه يعاني من الإهمال الجزئي.
أما دار السعادة، التي كانت مقر إقامة والي دمشق، فتقع بالقرب من سوق الحميدية. تتميز هذه الدار بالتصميم العثماني التقليدي الذي يجمع بين الزخارف الفخمة والساحات الواسعة، لكنها تعرضت للإهمال وتُستخدم اليوم لأغراض إدارية.
في ساحة المرجة، تقف السرايا العثمانية التي بُنيت في القرن التاسع عشر كمقر حكومي. يمثل المبنى الطراز الكلاسيكي العثماني، لكنه يعاني من تدهور في بنيته بسبب غياب الصيانة.
وأخيرًا، حمام القيشاني في منطقة باب الجابية، الذي شُيد في القرن الثامن عشر، يُعد واحدًا من الحمامات التقليدية العثمانية المميزة بزخارفه الرخامية والبلاط المزخرف. توقف الحمام عن العمل منذ سنوات، ويحتاج إلى ترميم ليعود إلى وظيفته التراثية أو السياحية.
على الرغم من أن هذه المعالم ما زالت قائمة في دمشق، فإن معظمها يعاني من الإهمال أو الاستخدام غير المناسب. إعادة ترميم هذه المواقع يمكن أن تعيد لها رونقها التاريخي، وتجعلها نقاط جذب سياحي وثقافي، ما يسهم في تعزيز الهوية الثقافية والاقتصادية للمدينة. مشروعات مثل تلك التي تديرها وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا) يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في حماية هذا التراث الثري وإحيائه.
أبرز الآثار العثمانية في حلب الشهباء
حلب، المدينة السورية العريقة، كانت واحدة من أهم المراكز الحضرية خلال العهد العثماني، حيث شهدت بناء العديد من المنشآت التي لا تزال تعكس العمارة العثمانية المميزة. أسهم الموقع الجغرافي للمدينة وأهميتها الاقتصادية والثقافية في بناء منشآت دينية وتجارية وخدمية تركت بصمتها على المشهد العمراني. فيما يلي استعراض لأبرز المعالم العثمانية التي شُيدت بالكامل في تلك الحقبة.
جامع الخسروية، الذي يقع في حي الجلوم وسط مدينة حلب القديمة، يُعد أول مسجد عثماني في المدينة. بُني عام 1546 على يد خسرو باشا، أول والي عثماني لحلب. يتميز الجامع بتصميم عثماني كلاسيكي يتضمن قبة مركزية ومآذن رشيقة، وكان بمثابة مركز ديني وتعليمي. مع ذلك، تعرض الجامع لدمار كبير خلال النزاع المسلح في المدينة، ولم تُتخذ أي خطوات جدية لترميمه.
في قلب الأسواق القديمة، يقف خان الوزير كأحد أبرز المراكز التجارية التي بُنيت في القرن السابع عشر. يتميز بساحة مركزية محاطة بغرف وقاعات مخصصة للتجار والقوافل، مع بوابة مزخرفة تعكس الطابع العثماني. على الرغم من الأضرار الجسيمة التي لحقت به خلال الحرب، لا يزال الخان يحتفظ ببعض أجزائه، لكنه بحاجة ماسة إلى ترميم شامل.
أما التكية المولوية، التي تقع في منطقة باب الفرج، فقد تأسست في القرن السابع عشر كمركز للطريقة الصوفية المولوية. تضم التكية قاعات دائرية مخصصة لحلقات الذكر، إلى جانب مسجد ومرافق خدمية. تعرضت التكية لتخريب كبير خلال السنوات الماضية، وهي بحاجة إلى جهود إعادة تأهيل لإحياء هذا المعلم الصوفي المميز.
وفي سوق المدينة، يُعتبر خان الجمرك أحد أبرز المنشآت التجارية التي شُيدت خلال العهد العثماني. بُني ليكون مركزًا لتجارة وتخزين البضائع، ويتميز بساحة واسعة تحيط بها غرف تخزين ومساحات للأنشطة التجارية. رغم تعرض الخان لأضرار خلال النزاع، لا تزال أجزاء منه صامدة، إلا أنه ينتظر مشروعات الترميم لإعادته إلى دوره التاريخي.
من بين المساجد، يبرز جامع الأطروش، الذي بُني في القرن السابع عشر في منطقة باب الفرج. يُعرف المسجد بتصميمه الهندسي الفريد الذي يعكس الطراز العثماني، مع مئذنة مميزة وقبة متناغمة. المسجد لا يزال قائمًا، لكنه يعاني من الإهمال ونقص الصيانة.
في أحياء حلب القديمة، تنتشر العديد من الحمامات العثمانية، التي شُيدت خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر لتلبية احتياجات السكان. تتميز هذه الحمامات بغرفها المزخرفة والقباب التي تسمح بدخول الضوء الطبيعي، ما يعكس جمال التصميم ووظيفيته. على الرغم من تعرض معظمها للإهمال والتخريب، لا يزال القليل منها يعمل بشكل محدود.
إلى جانب جامع الخسروية، شُيدت المدرسة الخسروية عام 1546 لتكون مركزًا تعليميًا دينيًا. تضم المدرسة قاعات دراسية وساحات داخلية تعكس الطراز العثماني. تعرضت المدرسة للتدمير الكامل خلال النزاع، وهي بحاجة إلى إعادة بناء شاملة.
ومن بين التكايا البارزة، تأتي التكية الإخلاصية الواقعة قرب القلعة، والتي تأسست في العهد العثماني كمأوى للفقراء ومركز ديني. تتميز التكية بتصميمها البسيط الذي يجمع بين القباب الحجرية والمآذن القصيرة. تعرضت التكية للتدمير الكامل خلال الحرب، ولم تُطلق أي مبادرات لترميمها.
في منطقة باب الفرج، يقع مسجد باب الفرج، الذي بُني في أواخر القرن السابع عشر. يتميز المسجد بتصميمه العملي والبسيط مع مئذنة رشيقة وقبة صغيرة. المسجد ما زال قائمًا ولكنه يعاني من الإهمال ونقص الصيانة.
أخيرًا، يُعد خان النحاسين، القريب من سوق النحاسين، من المعالم التي تعكس دور حلب كمركز للصناعة والتجارة خلال العهد العثماني. شُيد الخان في القرن الثامن عشر ليكون مركزًا لتجارة النحاس، ويضم ساحات واسعة وغرفًا مخصصة للصناع والتجار. تعرض الخان لأضرار جزئية خلال الحرب، لكنه ما زال قائمًا في انتظار الترميم.
آثار عثمانية في مدن سورية أخرى
شهدت المدن السورية الثانية، مثل حمص وحماة وإدلب ودير الزور والرقة ودرعا، هي الأخرى نشاطًا عمرانيًا خلال الحقبة العثمانية، حيث أُنشئت فيها العديد من المعالم التي عكست الطابع العمراني العثماني. هذه المعالم، التي شُيدت لتلبية الاحتياجات الدينية والتجارية والخدمية، لا تزال شاهدة على تلك الحقبة.
في حمص، يُعتبر جامع خالد بن الوليد واحدًا من أبرز المعالم العثمانية. أعيد بناؤه في القرن التاسع عشر على الطراز العثماني، ويمتاز بقبتين ضخمتين ومئذنتين رشيقتين. رغم تعرضه لأضرار خلال الحرب، فإنه لا يزال قائمًا ويستخدم كمكان للعبادة. كما يُعد خان رستم باشا، الذي شُيد في القرن السادس عشر، من أقدم الخانات في حمص، ويتميز بساحته الواسعة وغرفه المحيطة، لكنه اليوم يستخدم بشكل محدود ويحتاج إلى ترميم شامل.
أما في حماة، فتبرز النواعير على نهر العاصي كرمز للمدينة. هذه العجلات المائية الضخمة طُورت بشكل كبير خلال العهد العثماني لتخدم أنظمة الري، ولا تزال تعمل كمعلم سياحي رئيسي، رغم حاجتها إلى صيانة دورية. كما تضم المدينة عددًا من الحمامات العثمانية التي تتميز بتصاميم داخلية مزخرفة وقباب مضيئة، لكنها توقفت عن العمل وتحتاج إلى جهود ترميم لإعادتها إلى سابق عهدها.
في إدلب، يُعد الجامع الكبير من أبرز الآثار العثمانية. أُعيد تجديده في القرن التاسع عشر على الطراز العثماني، ويمتاز بقبابه الكبيرة ومئذنته المضلعة. خضع الجامع مؤخرًا لأعمال ترميم استعاد خلالها الكثير من جماله. كما تحتوي إدلب على التكية الإخلاصية، التي شُيدت خلال الحقبة العثمانية كمأوى للفقراء ومركز ديني. تعرضت التكية للتدمير خلال الحرب ولم تشهد أي جهود لإعادة تأهيلها حتى الآن.
في درعا، تُعد محطة سكة حديد الحجاز واحدة من أبرز معالم الحقبة العثمانية. أُنشئت في بداية القرن العشرين كجزء من مشروع السكة الذي ربط دمشق بالمدينة المنورة، لكنها تعرضت للإهمال والتخريب. كذلك، تُعد قلعة المزيريب، التي أُعيد استخدامها في العهد العثماني كمحطة دفاعية واستراحة للحجاج، من المعالم البارزة التي تعاني من الإهمال وتحتاج إلى ترميم.
أما في دير الزور، فيُعد الجسر المعلق فوق نهر الفرات أحد أبرز الإنجازات العثمانية الهندسية. شُيد في أوائل القرن العشرين، لكنه تعرض لأضرار جسيمة خلال الحرب وأصبح غير صالح للاستخدام. كما تحتوي المدينة على عدد من الحمامات العثمانية التي كانت تلبي احتياجات السكان، لكنها توقفت عن العمل بسبب الإهمال.
في الرقة، تُعد قلعة جعبر واحدة من أبرز المعالم. أُعيد استخدامها خلال العهد العثماني كحصن عسكري ومقر إداري، وتتميز بأسوارها العالية وأبراجها الدفاعية، لكنها تعرضت لأضرار خلال النزاعات. كذلك، يُعد خان الرقة، الذي شُيد في القرن التاسع عشر كمركز تجاري، من المعالم التي تعاني من الإهمال والتخريب.
هل يمكن لـ”تيكا” أن تلعب دورًا في إحياء الإرث العمراني العثماني في سوريا؟
بعد سقوط نظام الأسد وتشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة في سوريا منحت تركيا حلفاءها الجدد في دمشق زخمًا كبيرًا ووعود أكبر بمد يد العون في المجالات المختلفة للنهوض في البلاد، ولأن مقالنا هنا يناقش إرثًا معماريًا عثمانيًا في سوريا فإن المؤسسة التركية التي كان لها الدور الأبرز في رعاية هذا الإرث خارج تركيا هي “تيكا” فما هي هذه المؤسسة؟
تعتبر وكالة التعاون والتنسيق التركية، المعروفة اختصارًا بـ تيكا (TİKA)، مؤسسة حكومية تركية تأسست عام 1992 بهدف تقديم المساعدات التنموية وتعزيز التعاون بين تركيا والدول الأخرى في مختلف المجالات. تُعتبر تيكا الذراع التنفيذية لتركيا في تقديم المساعدات الدولية، حيث تركز على دعم التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في أكثر من 150 دولة حول العالم.
تُعتبر تيكا واحدة من أكثر المؤسسات تأثيرًا في تعزيز “الدبلوماسية الثقافية والتنموية” لتركيا. من خلال مشروعاتها، تسعى إلى تعزيز التعاون الدولي وحماية التراث الثقافي المشترك وتحسين حياة المجتمعات في الدول المستهدفة.
لعبت تيكا دورًا مهمًا في إعمار الإرث العثماني في عدد من دول العالم والمنطقة باعتباره إرثًا مشتركًا بين تركيا وهذه الدول، ما يجعلها مؤهلة بشكل جيد لخوض هذه التجربة في سوريا الجديدة ولفهم أكثر لطبيعة عمل هذه المؤسسة فعلينا الاطلاع على نماذج من عملها.
فمثلًا قامت “تيكا” بترميم أكثر من 100 بناء أثري في منطقة البلقان وحدها، منها مدرسة بريزرن العسكرية في كوسوفو، وجامع السلطان مراد في مقدونيا، وجامع محمود يازجي في رومانيا، وبرج الساعة في ألبانيا، وحمام أولجين علي باشا في الجبل الأسود، ومدرسة قره غوز بي في البوسنة والهرسك، وضريح غول بابا في المجر، وقلعة رام في صربيا
فيما قدمت نموذجًا جيدًا في إعادة إعمار وترميم مجمّعي الإمام الأعظم والشيخ عبد القادر الكيلاني في العاصمة العراقية بغداد، وغيرها الكثير من الأعمال المشابهة في دول المنطقة التي كانت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية.
استراتيجيات تيكا في الحفاظ على التراث العثماني
تسعى تيكا إلى استعادة الرونق العثماني من خلال استراتيجيات شاملة، حيث تتميز جهودها بالاهتمام بمشروعات ترميم المعالم الأثرية العثمانية، مثل إحياء المساجد القديمة والحمامات التاريخية، وتقوم كذلك بعملية الدعم الفني بتوجيه فريق من الخبراء والفنيين المتخصصين لمساعدة الفرق المحلية في استعمال التقنيات الحديثة للتقليل من الأضرار التي لحقت بالآثار وتعزز ذلك بالأنشطة الثقافية عبر تنظيم الفعاليات الثقافية التي تُبرز الثقافة العثمانية وتعزز الوعي بتراثها، مثل المعارض الفنية والندوات التاريخية، إلخ.
في هذا السياق يجب القول إن الحرفيين السوريين يمتلكون سمعة جيدة في مجال الإعمار والترميم، لكن العزلة الطويلة جعلتهم بحاجة لمن يقدم لهم التحديث والتدريب، ويمكن لتيكا أن تؤدي هذا الدور عبر تدريبهم للحفاظ على الفنون التقليدية المرتبطة بالعمارة العثمانية، وهذا ما سيعزز قدرتهم على العمل على بقية الآثار والمعالم المعمارية السورية، ما سيسرع النهضة العمرانية التي ستقود بدورها لتفعيل السياحة الثقافية من خلال تحسين البنية التحتية للمواقع السياحية، ما سيعود بالنفع على الاقتصاد المحلي المتعب جدًا.
جهود تيكا ليست مجرد مشروعات ترميم، بل هي بمثابة إعادة إحياء الثقافة والتاريخ والدفع بعجلة الاقتصاد والتعافي، يمكننا أن نرى أن هذه المبادرات، رغم التحديات، تمثل خطوة نحو المستقبل، حيث تستعيد سوريا جزءًا من تراثها الذي يعكس الهوية الثقافية السورية المخطوفة طوال العقود الماضية والمختزلة بشكل محزن، ما يحفز الأجيال القادمة على أخذ زمام المبادرة للحفاظ على هذا الإرث الغني والمتنوع.
ختاما.. كل ما سبق يدفع باتجاه أهمية أن يستغل السوريون وحكومتهم الجديدة ومنظمات المجتمع المدني الفرصة في الاستفادة من حليف يمتلك أدوات مهمة وتجربة كبيرة ومؤسسات عريقة معنية بإحياء المواقع التاريخية والتراثية والأثرية التي تعاني بشدة في سوريا وتحتاج لمن يمد لها اليد.
ويبقى كل ذلك مرهونًا بقدرة سوريا الجديدة على الاستقرار الأمني الذي سيكون القاعدة الأهم في جذب كل المؤسسات الدولية وليست التركية فقط لتقدم لتاريخ وآثار هذا البلد ما يستحقه بعد الظلم الكبير الذي وقع عليه طوال العقود السابقة.