جاءت الزيارة التي قام بها رئيس جهاز المخابرات العراقي حميد الشطري، إلى العاصمة السورية دمشق في ظهر يوم الخميس 26 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، لتدشّن مرحلة جديدة من العلاقات بين بغداد ودمشق، خصوصًا أنها زيارة جاءت بعد فترة من التردد والضبابية في الموقف العراقي ممّا يجري في سوريا ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، وبالتأكيد هي تحول هامّ في سياق التعاطي العراقي الذي كان لا بدَّ أن يجد له مكانًا ممّا يجري هناك.
تشير زيارة الشطري دمشق إلى أن العراق أراد أن يبني مسارًا مختلفًا عن مسار باقي دول الإقليم، التي بدأت تتفاعل تباعًا مع الوضع السوري، من خلال جعل الدبلوماسية الأمنية هي المعيار الذي ينبغي أن تقوم عليه المسارات الأخرى بين بغداد ودمشق.
حيث إن الخوف الذي يتردد داخل أروقة النظام السياسي في بغداد، نابع بالأساس من أن صعود نظام سياسي جديد في دمشق، يتبنّى موقفًا متشددًا من طهران، سيخلق مساحة للمواجهة مع بغداد، وبالتالي هذه النظرة المركّبة هي ما دفعت قوى الإطار التنسيقي ذات العلاقات الجيدة مع طهران، لتجد نفسها في موقف المستهدف من النظام السياسي الجديد في دمشق، رغم عدم وجود ما يؤكد صحّة ذلك، على الأقل حتى الآن.
دلالات هذه الزيارة
تشير هذه الزيارة بوضوح إلى أن بغداد ترى أن مشكلتها مع الوضع الجديد في سوريا أمنية وليست سياسية، وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى تعدد المشاكل الأمنية بين العراق وسوريا، بداية من تهديدات تنظيم “داعش”، إلى شبكة تجارة المخدارت، إلى تهديدات حزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية، إلى بقايا وفلول النظام السوري التي لجأت للعراق بعد سقوط الأسد، وبالتالي هي بحاجة لتفاهمات أمنية مع القيادة الجديدة في سوريا، قبل الحديث عن تفاهمات سياسية واقتصادية.
إن قيام حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، بإعطاء مهمة تطبيع العلاقات مع دمشق إلى مؤسسة أمنية (جهاز المخابرات) وليس مؤسسة سياسية (وزارة الخارجية)، تشير إلى رؤية بغداد أن المخاوف التي دفعتها إلى عدم إعطاء تصور واضح ممّا يجري في سوريا هي مخاوف أمنية، وإن هذه المخاوف بحاجة لمعالجتها، من أجل تحويلها إلى فرص سياسية واقتصادية واعدة.
بالتأكيد إن الخطوة الأخيرة بإرسال وفد عراقي إلى دمشق، مهما كان مستواها ونوعها، تعكس قرارًا عراقيًا جريئًا في الانفتاح على سوريا، فالعلاقات بين الدول يجب أن تكون عابرة للأشخاص والعقد الطائفية، حيث الأنظمة السياسية تذهب والشعوب والدول هي من يبقى، ومشتركات العراق مع سوريا أكبر من أي دول جارة أخرى، وهذه حقيقة يجب أن تكون حاضرة في أذهان صنّاع القرار في بغداد، فدمشق ستكون قريبة ممّن يكون قريبًا منها.
إن هذه الزيارة وبهذا المستوى قد لا تعكس اعترافًا قانونيًا عراقيًا بالوضع الجديد في سوريا، بل قد تعكس اعترافًا واقعيًا به، وهذا بحدّ ذاته تحول هامّ في سلوك بغداد، وإن التقدم الذي سيبنى على هذه الزيارة هو ما سيحدّد شكل العلاقات المستقبلية بين دمشق وبغداد، لكن الأهم فيها أنها حدثت وحرّكت المياه الراكدة بين البلدَين.
زيارة لها أبعاد أخرى
بالوقت الذي تواجد فيه رئيس جهاز المخابرات العراقي في دمشق، كانت هناك زيارة أخرى يجريها وزير الداخلية العراقي عبدالأمير الشمري، إلى العاصمة التركية أنقرة، والتي التقى خلالها نظيره التركي علي يرلي كايا، والتي بحثت في ملفات سبق أن بحثها وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي، خلال زيارته الأخيرة إلى أنقرة مطلع الأسبوع الجاري.
ولا تختلف الملفات التي بحثها الشمري مع نظيره التركي، عن تلك التي بحثها الشطري مع القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، خصوصًا فيما يتعلق بموقف العراق من التعاطي التركي والإدارة السورية الجديدة مع حزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية.
ممّا لا شك فيه أن حكومة السوداني تدرك جيدًا أن أي مسار دبلوماسي مع الإدارة الجديدة في سوريا يجب أن يجد صداه مع أنقرة، بحكم التشابك الأمني الذي تشهده الحدود العراقية التركية السورية، خصوصًا مع تلويح تركيا بقرب شنّ عملية عسكرية تستهدف مناطق تواجد قوات سوريا الديمقراطية.
وبالتالي إن بناء تفاهم أمني عراقي سوري، بالتوافق مع قيام تركيا بعملية عسكرية في شمال شرق سوريا، هي ضرورة تفرض على العراق التفاهم مع سوريا، بغضّ النظر عن التحفظات التي يحملها قادة العراق من الوضع الجديد في سوريا.
فضلًا عن ذلك، إن التفاهمات الأخيرة التي جرت بين بغداد وعمان والرياض، أوصلت حكومة السوداني إلى قناعة مهمة، وهي إن أي تأخير بالانفتاح على دمشق سيجعل العراق بعيدًا عن أي ملامح للانتقال السياسي في سوريا.
كما إن تأمين الوضع في سوريا يمثل اليوم حاجة عراقية، في ظل تصاعد تهديدات تنظيم “داعش” وقوات سوريا الديمقراطية، أيضًا إن الحاجة لتأمين الحدود العراقية السورية بعيدًا عن أي اضطربات، جعلت المتغير الأمني هو المحدِّد الرئيسي في العلاقات بين دمشق وبغداد.
ممّا لا شك فيه إن البُعد الذي لم يأخذ حيزًا هامًّا من هذه الزيارة هو إيران، التي تجد نفسها ورغم الخسائر التي تعرضت لها في سوريا، مهتمة بأي تقدُّم للعلاقات بين دمشق وبغداد، وأنها تمثل فرصة كبيرة لتأمين وضعها في العراق أولًا، والبحث عن فرصة للعودة إلى دمشق ثانيًا.
ورغم صعوبة مثل هذه الفرضية، بالنظر إلى الأدوار السلبية التي لعبتها طهران في سوريا، إلا إن التصريحات الأخيرة للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وعضو مجلس تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي، ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، تشير بما لا يقبل الشك إلى أن إيران ليست بوارد التخلي عن التفكير بسوريا من جديد، رغم ما تعرضت له هناك من خسائر استراتيجية كبيرة.
ورغم أن زيارة الشطري إلى دمشق قد تخلق مسافة أمان بين ما تريده بغداد وما تريده طهران من دمشق، إلا إن مسألة احتفاظ إيران بتواجد عسكري داخل العراق، وقريب من الحدود مع سوريا، سواء عبر مقرات الحرس الثوري أو الفصائل المسلحة القريبة منها، تبقى متغيرًا هامًّا قد يحكم على فرص نجاح أو فشل زيارة الشطري إلى دمشق.
فإيران بالتأكيد بحاجة للتهدئة على الحدود العراقية السورية من أجل إنتاج تموضعات جديدة لها، وتخدم استراتيجية الفوضى التي لوّحت بها مؤخرًا، وهذا بحدّ ذاته تحدٍّ حقيقي أمام حكومة السوداني، في كيفية جعل المسار الأمني الذي وُضعت أُسُسه مع زيارة الشطري إلى دمشق، متغيرًا هامًّا في حجب الطموحات الإيرانية عن سوريا في المرحلة المقبلة.
ممّا لا شك فيه أن الفرص الواعدة في الساحة السورية كبيرة جدًّا، ويمكن للعراق أن يكون المستفيد الأكبر منها، فيما لو تحول من النهج الأمني إلى النهج السياسي في علاقاته مع دمشق، وهذه فرصة أيضًا لكي يتحرر العراق من قيود الجغرافيا والأيديولوجيا التي وضع نفسه بها.
فالانتقال من مستوى إجراءات بناء الثقة مع القيادة الجديدة في سوريا، إلى مستوى توسيع وتشبيك العلاقات، سيجعل العراق أكثر طرف إقليمي مستفيد من الساحة السورية، بحكم كون العراق أكبر دولة لديها حدود مع سوريا، وهي ميزة لا تتمتع بها أي دولة أخرى مجاورة لسوريا.