في عام 1923، نشرت صحيفة “فرانكفورتر ألجماينه تسايتونج”، إحدى أبرز الصحف الألمانية وأكثرها تأثيرًا، مقالًا لافتًا تحت عنوان “بعيدًا إلى الحرية!”، تناول الزيادة الملحوظة في عدد الألمان الذين يتطلعون إلى مغادرة البلاد بحثًا عن حياة أفضل في الخارج.
في ذلك الوقت، اتجه العديد ممن حلموا بحياة أفضل خارج ألمانيا إلى شراء تذاكر للسفن المتجهة إلى “العالم الجديد”، بينما اختار آخرون اللجوء إلى دول أوروبية مجاورة مثل هولندا وسويسرا ورومانيا، في ظل معاناة ألمانيا من آثار الحرب العالمية الأولى، التي تركت البلاد ممزقة اقتصاديًا وسياسيًا، مع تضخم مفرط أنهك المواطنين، وتهديدات متكررة بانقلابات معادية للديمقراطية.
ورغم مرور قرن كامل على نشر ذلك المقال، يرى الصحفي الألماني يورج لويكن في مجلة “جيرمان ريفيو” أن إعادة صياغة تلك المقدمة اليوم قد لا تبدو بعيدة عن الواقع، فبالنظر إلى ألمانيا في عام 2024، من الصعب تخيل أنها قد تصبح بلدًا يسعى مواطنوها لمغادرته “للتنفس بحرية أكبر” في أماكن أخرى، ولكن السؤال المحوري يظل قائمًا: ما الذي يدفع الأفراد إلى التفكير في الهروب الجماعي من واحدة من أكبر اقتصادات أوروبا؟
فرار من بلد يبحث عن العمال
لطالما اشتهرت ألمانيا بكونها أكثر دولة أوروبية بحثًا عن المهاجرين، لا سيما العمال المهرة، بفضل ما تقدمه من رواتب سخية وفرص مهنية متميزة، ما يجعلها تتفوق على دول كبرى مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا.
منذ عام 2016، هاجر ما يقرب من 1.8 مليون ألماني، في حين عاد ما يقل قليلًا عن 1.3 مليون ألماني في الفترة نفسها، وهذا يعني أن ألمانيا خسرت أكثر من نصف مليون من مواطنيها بسبب الهجرة، وبالنظر إلى التغير السنوي في صافي الهجرة، يبدو من الواضح أن عدد المهاجرين الألمان أكبر من عدد العائدين كل عام منذ عام 2004.
وهناك إحصائية مثيرة للقلق تفيد بأن أكثر من ربع مليون ألماني غادروا ألمانيا في عام 2023 نحو وجهات أخرى، وكذلك أكثر من مليون مقيم، ما يعني أن نحو 1.2 مليون تركوا البلاد خلال عام واحد، ولأن 184 ألف مواطنًا ألمانيًا فقط منهم عادوا إلى وطنهم، فإن ما يُسمّى بميزان الهجرة أصبح سلبيًا.
كما ارتفعت نسبة الألمان المغادرين ارتفاعًا كبيرًا عن الأعوام الماضية، ففي عام 2015 لم تتجاوز النسبة 138 ألفًا، لكنها قفزت بأكثر من 140 ألفًا في العام التالي، وهو ما أدّى إلى نقص العمال المهرة في ألمانيا حتى اليوم، وبالتالي عرقلة أنشطة الشركات التجارية التي تحتاج إلى نحو 400 ألف عامل ماهر سنويًا لضمان استمرار أعمالها.
وعلى مدار أي عام خلال العقد الماضي، انتقل حوالي ربع مليون مواطن ألماني إلى الخارج، وتظهر الأرقام التي جمعتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أنه من بين كل 100 ألف ألماني، غادر البلاد 170 في عام 2021، وهذا يمثل 5 أضعاف مستوى الولايات المتحدة و10 أضعاف مستوى اليابان.
ويعيش حاليًا 5% من الألمان في الخارج، ما يضع ألمانيا في المرتبة الثالثة من حيث الهجرة بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بعد بولندا وبريطانيا، وقد ارتفع العدد السنوي للمهاجرين الألمان تدريجيًا في الثمانينيات.
ليس ثمة ما يوضح هذا الواقع بشكل أفضل من الأرقام التي ينشرها البنك الدولي حول التحويلات المالية التي يرسلها العمال المهاجرون إلى وطنهم، ففي حين تتصدر الدول مثل الهند والصين قائمة المتلقين، وضعت تدفقات التحويلات المالية التي بلغت 19 مليار يورو ألمانيا في المرتبة العاشرة خلف نيجيريا وبنغلاديش في عام 2022، وتشمل قائمة الدول التي تتدفق منها معظم التحويلات المالية إلى ألمانيا كل من الولايات المتحدة وسويسرا.
من حيث الحجم، قد لا يُقارن هذا بموجات الملايين الذين غادروا إلى أمريكا الشمالية في أواخر القرن التاسع عشر، لكن الأرقام لا تروي القصة كاملة، فهؤلاء المهاجرون ليسوا صغار السن فحسب، بل إنهم أيضًا يتمتعون بمؤهلات عالية، حيث تظهر الاستطلاعات أن ثلاثة أرباع المغادرين الألمان حاصلون على درجات جامعية.
لاحظ الخبير الاقتصادي هيربرت ديتر، في مقال له في صحيفة “نيو تسورخر تسايتونج” السويسرية الناطقة باللغة الألمانية: “تمامًا كما كان الحال في القرن التاسع عشر، أصبحت ألمانيا مرة أخرى بلدًا للهجرة دون مناقشة هذه الظاهرة على نطاق واسع من قِبل الجمهور الألماني، لكن هذه المرة لم يكن عمال المزارع هم الذين يغادرون بل الأشخاص المؤهلون تأهيلًا عاليًا، فالأطباء ينتقلون إلى سويسرا والنرويج، والمهندسون ينتقلون إلى أستراليا”.
من بين جميع الدول الأوروبية، تظل سويسرا الوجهة الأكثر شعبية للمهاجرين الألمان، حيث يذهب إليها واحد من كل خمسة من المغتربين، وفي بداية عام 2022 كان حوالي 311 ألف مواطن ألماني يقيمون في هذه الدولة الألبية الصغيرة، وارتفع عددهم لسنوات.
ومقارنة بعام 2021، بلغت الزيادة أقل من 1% (حوالي 1800 شخص)، وتأتي النمسا وإسبانيا في المرتبتين الثانية والثالثة على القائمة، بينما تأتي فرنسا وهولندا في المرتبتين التاليتين، ويتخذ الآخرون من أمريكا الجنوبية وبعض الدول الآسيوية وجهة لهم، وفقًا للأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاء الاتحادي.
تتجلى أهمية الهجرة الألمانية بالنسبة إلى سويسرا في النظام الصحي في البلاد، والذي يعتمد على تدفق مستمر من الأطباء الذين يعبرون الحدود الشمالية، حيث يعمل في سويسرا حاليًا ما يقرب من 7 آلاف طبيب تلقوا تدريبهم في ألمانيا، أي ما يقرب من خُمس إجمالي العاملين في المجال الطبي في البلاد، وهذا يشكّل صفقة جيدة بالنسبة إلى سويسرا، فالقادمون الجدد يتحدثون بالفعل اللغة المحلية، والأفضل من ذلك أن شخصًا آخر دفع تكاليف تدريبهم بالكامل.
وهذه صفقة جيدة للمهاجرين أيضًا، حيث يستطيع الأطباء المبتدئون مضاعفة أجورهم، في حين يهربون في الوقت نفسه من ظروف العمل المرهقة في المستشفيات في ألمانيا، ومع ذلك هي ليست صفقة جيدة على الإطلاق بالنسبة إلى دافعي الضرائب الألمان، فالرسوم الجامعية في ألمانيا لا تزال مجانية، ومع تقدير تكلفة تدريب طبيب واحد بنحو ربع مليون يورو، يدعم العمال الألمان النظام الصحي السويسري بمليارات اليوروات.
استنادًا إلى دراسة أجراها المعهد الفيدرالي لأبحاث السكان وجامعة دويسبورغ الألمانية في عام 2019، فإن ثلث من يهاجرون يقررون الرحيل لمدة طوية جدًّا، والبقة يعودون بعد سنوات، لكن ما يقلق برلين أكثر أن الشباب (25-39 عامًا) هم أكثر فئة تهاجر، وهي الفئة التي تعول عليها ألمانيا كثيرًا لسدّ الثغرات في سوق العمل.
لا سيما أن المجتمع الألماني يعاني من ضعف شديد في عدد الولادات، ويتقدم سكانها في السن بسرعة، ويتقلص عدد السكان العاملين مع تقاعد مئات الآلاف من جيل طفرة المواليد (الجيل الذي وُلد أثناء زيادة المواليد في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة).
ما وراء هروب الألمان
استنادًا إلى دراسة جامعة دويسبورغ، فإن خُمس المغادرين الألمان سئموا من الوضع السياسي في البلاد، وقال 1 من كل 4 من الألمان الذين يعيشون في الخارج إنهم مدفوعون بالمال، فالأجور خارج ألمانيا تزيد عمّا يجنونه في بلدانهم بحوالي 12 ألف يورو سنويًا، ومع ذلك يبقى التطور المهني هو الدافع الأول للهجرة، تليه الرغبة في أسلوب حياة مختلف.
في ضوء ذلك، ليس من المستغرب أن تكون سويسرا، التي تتمتع بأجور مرتفعة وضرائب منخفضة، الوجهة الأولى للألمان باستمرار، ففي عام 2022 وحده نُقل حوالي 20 ألف شخص عناوينهم عبر بحيرة كونستانس الواقعة في 3 دول: ألمانيا وسويسرا والنمسا، كما يرتفع عدد الألمان الذين حصلوا على الجنسية السويسرية بشكل مطرد، ففي عام 2021 تم تسجيل رقم قياسي جديد بحوالي 7 آلاف و940 حالة تجنيس.
وفي ألمانيا، تعدّ البيروقراطية الشديدة التي تعاني منها البلاد من أسباب هجرة كثير من الناس عن البلاد، فقضاء المعاملات الإدارية قد يستغرق أسابيع، ناهيك عن تعقيد الوثائق الإدارية وكثرتها، والجهد المبذول في استخراجها، لا سيما أن ألمانيا لا تزال متأخرة بقطاعات الرقمنة والابتكار.
ويؤدي الطقس السيّئ أيضًا دوره في تحفيز المغادرين، فألمانيا تعيش خريفًا وشتاءً يُضرب بهما المثل في الكآبة، إذ تغيب الشمس، وتتلون السماء بلون داكن عدة أشهر، ما يدفع سكان ألمانيا للبحث عن عطل في هذه الفترة.
من ناحية أخرى، يعدّ نمط الحياة في المجتمع الألماني من الأسباب الطاردة من البلاد، فهو يؤثر سلبًا حتى على الشباب الألمان أنفسهم، فالشوارع تنام مبكرًا، والقواعد صارمة في كل شيء.
أما العلاقات الاجتماعية فهي معقدة، وقد أكدت دراسات أن نسب الشعور بالوحدة ارتفعت داخل المجتمع الألماني، إذ يشعر 25% من البالغين بالوحدة الشديدة، وحتى الشباب المقبل على الحياة يعاني 26% منهم من مشاعر الوحدة بحسب المؤسسة الألمانية للإغاثة من الاكتئاب.
كما تتميز ألمانيا بنظام قوي للحماية الاجتماعية، يشمل تعويضات الأطفال، وتعويضات البطالة، والدعم الموجه للأسر، إضافة إلى مجانية التعليم والرعاية الصحية، ومع ذلك فإن العديد من المغادرين لا يبحثون فقط عن الاستقرار الذي يضاهيه في بلدان أخرى، بل يتطلعون أيضًا إلى تجارب حياتية مختلفة.
يبرز ذلك بشكل خاص بين أوساط الجيل الجديد، الذي لم يعد مستعدًا لنسخ تجارب الأجيال السابقة من الألمان الذين بذلوا جهدًا شاقًا في إعادة بناء البلاد بعد الحرب العالمية الثانية، بل يسعى إلى حياة أكثر توازنًا، تُركز على الجودة الشخصية والتجارب الثقافية بدلًا من العمل الدؤوب وحده.
العمال المهاجرون يهربون أيضًا
تستقطب ألمانيا مهاجرين جددًا للمساعدة في سدّ نقص العمالة وتعويض المهاجرين الراحلين عنها، لدرجة أنها قدمت مؤخرًا عددًا من سياسات الهجرة لجذب العمال المهرة وجعلهم يمكثون في البلاد، وسنّت قوانين لجلب العمال من بلدان عبر العالم، فوفقًا لوكالة التوظيف الفيدرالية الألمانية تحتاج البلاد إلى 400 ألف مهاجر ماهر سنويًا.
وفي يونيو/ حزيران الماضي، أطلقت ألمانيا “بطاقة الفرصة”، وهي تصريح إقامة يسمح للعمال المؤهلين بدخول ألمانيا والبحث عن عمل لمدة عام، كما تسعى وزارة الخارجية الألمانية إلى تبسيط الاعتراف بالمؤهّلات المهنية الأجنبية، وبالتوازي مع ذلك تم إصلاح قوانين الجنسية في البلاد لتسريع التجنُّس، وتسهيل الحصول على الجنسية بالولادة، والسماح بالجنسية المزدوجة.
رغم أن القوانين في ألمانيا تغيرت لتصبح أكثر ترحيبًا بالمهاجرين، بعد عقود اتسمت بسياسات تركز على ترحيلهم، إلا أن الواقع يشير إلى أن النهج الأساسي تجاه اللاجئين والمهاجرين لم يتغير كثيرًا، فحتى العمال المهرة، يواجهون تحديات كبيرة في تحقيق النجاح في ألمانيا، ففي كثير من الحالات، يجد هؤلاء أنفسهم مضطرين للمغادرة، إذ يفشل سوق العمل الألماني في توفير الحوافز والظروف التي تشجع العمالة الوافدة على البقاء لفترة طويلة.
وفي منتصف يوليو/ تموز الماضي، أفادت صحيفة “ديلي ميل” البريطانية بأن ألمانيا تثير مخاوف بشأن فقدان المهاجرين ذوي المهارات العالية إلى بريطانيا وغيرها من البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية، وناشد وزير العمل الألماني هوبرتوس هايل، مجموعة من طلاب العلوم الهنود البقاء أثناء زيارته لجامعة في برلين، وسلط الضوء على المخاوف بشأن مغادرة مثل هؤلاء العمال، مع وجود عرض أفضل متاح في الاقتصادات المنافسة مثل المملكة المتحدة.
تكشف دراسة حديثة صادرة عن مؤسسة برتلسمان الألمانية، أن ألمانيا تحتاج إلى 288 ألف عامل مهاجر سنويًا حتى عام 2040 لإنقاذ الاقتصاد الألماني، ويفترض نموذج توقعات آخر أنه سيكون هناك حاجة إلى 368 ألف حتى عام 2040 لسدّ فجوات نقص العمال بعد تراجع عدد المواليد ونسب الزواج لأدنى مستوى في البلاد، ما أدّى إلى شيخوخة السكان ونقص الأيدي العاملة في قطاعات مختلفة، أبرزها الرعاية الصحية والهندسة والتكنولوجيا.
ووفقًا لتقرير صادر عام 2022 عن المعهد الاقتصادي الألماني في كولونيا، تحتاج البلاد إلى حوالي 320 ألف شخص متخصصين في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات أو ما يعرف بمجالات “ستيم (STEM)”، ويتفاقم هذا النقص بسبب دخول العديد من المهندسين والعلماء الآن في التقاعد، في وقت تواجه فيه ألمانيا مهمة شاقة تتمثل في الشروع في تحول رقمي هائل.
ورصد استطلاع أجراه معهد توبنغن للبحوث الاقتصادية التطبيقية، مجموعة من الأسباب التي تدفع المهاجرين لمغادرة ألمانيا، جاء في مقدمتها الأسباب البيروقراطية، مثل انتهاء مدة العقود المؤقتة أو عدم الاعتراف بمؤهّلات العمال المهنية، وتتعلق الأسباب الأخرى بأسلوب الحياة في ألمانيا، فوفقًا لنتائج الاستطلاع، تعرض اثنان من كل ثلاثة من المهنيين المؤهلين من دول غير أوروبية للتمييز.
ومن بين الأسباب الأخرى، شعور كثير من المهاجرين بعدم التقدير، وبأن مؤهلاتهم لا تحظى بالاعتراف، كما تعدّ الظروف المعيشية بشكل عام في ألمانيا عاملًا حاسمًا، مثل النقص في مراكز رعاية الأطفال، وانخفاض دعم الإسكان الاجتماعي.
فألمانيا لديها أدنى معدل ملكية للمنازل في الاتحاد الأوروبي، وأكثر من نصف السكان مستأجرون لأن تمويل شراء منزل بالكامل من خلال قرض بنكي أصعب بكثير، ومع دفع الكثير من المال مقابل السكن، تتلاشى ميزة الأجور المرتفعة في ألمانيا مقارنة بدول أخرى.
لا يتعلق الأمر بذلك فقط، بل يحتاج المهاجرون إلى فهم كيفية فرض الضرائب على الرواتب، على سبيل المثال تكسب الممرضة 3433 يورو في المتوسط، وإذا لم يكن لديها أطفال فإن 17 يورو تذهب إلى ضريبة الدخل و723 يورو إلى الضمان الاجتماعي، لذا فإن راتبها الصافي سيكون 2293 يورو، ومن ذلك سيحتاجون إلى تغطية الإيجار والبقالة والملابس والنفقات الأخرى أيضًا.
قد يكون هذا سببًا لكون 2 من كل 5 مهاجرين مهرة في ألمانيا غير راضين إلى حد ما أو غير راضين تمامًا عن وضعهم المالي، ومع ذلك إن الرعاية الصحية والتعليم مجانيان عمليًا، وهذا يرجع بحد كبير إلى الضرائب المرتفعة وخصومات الضمان الاجتماعي، لكن دولًا أخرى مثل هولندا لديها ضرائب أقل على المغتربين.
ووفقًا لرئيس سوق العمل والموارد البشرية والسياسة الاجتماعية في مركز ZEW (مركز لايبنتز للأبحاث الاقتصادية الأوروبية)، هولجر بونين، فإن الجمع بين الأجور المنخفضة نسبيًا مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى، ومعدلات الضرائب المرتفعة، والحاجز اللغوي، كلها عوامل تساهم في عدم كون ألمانيا مكان عمل جذابًا للمهنيين المهرة.
الماكينة الألمانية في خطر
تبدو ألمانيا في حيرة من أمرها، ففي حين تشكو أنها بحاجة إلى عمالة ماهرة وعمال أجانب، تسرّح كبرى الشركات في الوقت نفسه آلاف العاملين، وتغلق مصانعها، فقد أعلنت أكثر من 15 ألف شركة ألمانية إفلاسها في عام 2024، بسبب تدهور الصناعة الألمانية التي طالما عُرفت بقوتها وتطورها، والدليل هو انخفاض الناتج الاقتصادي في ألمانيا إلى 0.2%، ونسبة النمو المتوقع حاليًا هي صفر بالمئة.
ويواجه أكبر اقتصادات أوروبا خطر التدهور الدائم بعد ركود طويل، فقد أدت التكاليف المرتفعة للطاقة ومنافسة الشركات الصينية وانخفاض الصادرات، إلى تراجع الدخل وجعل الأسر أفقر بنحو 2500 يورو، ومن ناحية أخرى تقلصت ثقة الشركات الألمانية في المستقبل، وسرّحت شركات الصناعة الثقيلة، وأبرزها فخر الصناعة الألمانية (السيارات)، آلاف العمال، وحذّر خبراء من وضع كارثي إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة، لكن تقديرات وكالة “بلومبيرغ” أشارت إلى أن الجزء الأكبر من العجز صعب تعويضه.
وطالما أن الشركات تغلق أبوابها في وجه العمال المحليين والأجانب، فهذا يعني أن هناك عددًا أكبر للعاطلين عن العمل سيُضاف إلى أكثر من 2.8 مليون شخص حاليًا دون وظيفة، في بلد كان المحرك الرئيسي للنمو في أوروبا، لكنه يعاني أصلًا من مشكلة ديموغرافية بسبب نقص العمالة الماهرة من الخارج، وعدم التوازن بين عدد المتقاعدين والعاملين.
ولسدّ الفجوات في سوق العمل، يرى الخبراء أن على الحكومة الألمانية تحسين ظروف المهاجرين، وتقليل العوائق والبيروقراطية أمامهم وتوفير بيئة مريحة لهم، وتبسيط الأعمال الورقية مثل الإقرارات الضريبية على سبيل المثال، ومكافأة المهاجرين المهرة الذين يختارون تعلم اللغة الألمانية.
تقول خبيرة الهجرة في مؤسسة برتلسمان، سوزان شولتس، إن الأولوية يجب أن تعطى لتطوير القوى العاملة المحلية، سواء بين السكان الأصليين أو المهاجرين الذين وصلوا بالفعل، وزيادة المشاركة في سوق العمل، لكن هذا وحده قد لا يكون كافيًا لتلبية الطلب على العمالة حتى عام 2040.
يأتي ذلك في ظل انتخابات تشريعية مبكرة ستشهدها ألمانيا قريبًا، بعدما أدت الوعكة الاقتصادية إلى عدم استقرار الحكومة، وخسارة المستشار الألماني الاشتراكي الديمقراطي أولاف شولتس الثقة في البرلمان (بوندستاغ) في منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2024، لتضطر البلاد إلى الإعلان عن إجراء انتخابات في فبراير/ شباط 2025 تركز الحملات الانتخابية فيها على قضايا هامة مثل الهجرة واللجوء.
وأظهرت استطلاعات الرأي زيادة ملحوظة في دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة، التي تدعو إلى تشديد القيود على الأجانب في ألمانيا، خاصة عقب التدفقات الكبيرة للاجئين في السنوات الأخيرة.
وفي وقت تعاني فيه ألمانيا من أزمة اقتصادية كبيرة وخلافات سياسية داخلية، يحذّر الخبراء سياسيين ألمان ينادون بعودة السوريين إلى بلادهم بعد سقوط نظام بشار الأسد، إذ يعيش في ألمانيا نحو مليون لاجئ سوري فرّوا من بطش النظام السوري منذ عام 2015، وقد تؤدي عودتهم إلى نقص كبير في اليد العاملة في الكثير من القطاعات، وفي مقدمتها قطاع الصحة.
على سبيل المثال، وفقًا لإحصائيات نقابة الأطباء الألمانية، يعمل حوالي 6 آلاف طبيب وطبيبة من سوريا في ألمانيا حتى نهاية العام الماضي، من بينهم نحو 5 آلاف يعملون في المستشفيات، بالإضافة إلى ذلك، يعمل حوالي 2160 شخصًا من السوريين في مجال الرعاية الصحية والتمريض.
ويقدَّر عدد السوريين العاملين في السوق الألماني بـ 287 ألفًا، يسهمون إسهامًا كبيرًا في التخفيف من نقص المهارات في ألمانيا، وينشطون في قطاعات مختلفة مثل هندسة السيارات، التي انضم إليها مؤخرًا نحو 4 آلاف فني من أصحاب القدرات العالية.
ولأن الاقتصاد كان دائمًا أسرع من السياسة، لم تنتظر المعاهد الاقتصادية المستقلة طويلًا لدراسة تأثير اللاجئين السوريين في الاقتصاد الأكبر في أوروبا، وخرج معهد الاقتصاد الألماني (IW) بتحليل لخّص حاجة الاقتصاد الألماني للسوريين العاملين في قطاع تعاني من نقص العمالة، بالقول إن “إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم توجّه ضربة قاسية إلى الاقتصاد الأكبر في أوروبا”، ما يجعل البلاد غير قادرة على تعويض عدد المواطنين الألمان والأجانب الذين يغادرون، وترتفع أعدادهم كل سنة.