“لا نستطيع توفير الذرة الرفيعة لإعداد “بليلة”، أي سلق الذرة في النار مع الماء والملح، ناهيك عن تلبية الاحتياجات الأخرى”، هكذا قال زميل صحفي يتواجد في ولاية النيل الأبيض جنوبي السودان، خلال نقاش دار بيننا حول الوضع الإنساني في الأيام الأخيرة.
وفي اليوم التالي، أعلنت لجنة مراجعة المجاعة في نظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي عن حدوث مجاعة في خمس مناطق هي: مخيمات زمزم وأبو شوك والسلام في شمال دارفور، وجبال النوبة الغربية في جنوب كردفان. وتوقعت اللجنة أن تتوسع المجاعة لتشمل مناطق أخرى مثل أم كدادة، مليط، الفاشر، الطويشة، واللعيت في شمال دارفور، بين ديسمبر 2023 ومايو 2025.
وذكرت اللجنة في تقريرها الذي صدر يوم الثلاثاء 24 ديسمبر، أن 17 منطقة أخرى مهددة بالمجاعة، من بينها دلامي وغرب كادقلي وأم دورين والبرام في ولاية جنوب كردفان، وطويلة ونيالا جنوب ونيالا شمال وبليل وشطايا وكاس في ولاية جنوب دارفور، والفروس بشرق دارفور، بالإضافة إلى مدني الكبرى وشرق ولاية الجزيرة ومايو جنوبي العاصمة الخرطوم.
ومعظم المناطق التي شهدت المجاعة أو التي يُتوقع أن تشهدها أو المعرضة لخطرها، تخضع لسيطرة قوات الدعم السريع، ما يوضح مدى التدمير الذي ألحقته هذه القوات بسبل العيش، ونهبها لكل شيء، بما في ذلك الإغاثة التي تقدمها، بجهد كبير، غرف الطوارئ، وهي مجموعات متطوعة تعمل على توفير الغذاء والأدوية لآلاف الأشخاص العالقين في مناطق النزاع عبر المطابخ الجماعية.
ويخشى أن تتحول المطابخ الجماعية التي تقدم الغذاء يوميًا لآلاف الجوعى إلى مظهر دائم في حياة السودانيين، حيث يعاني 24.6 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد.
وفاة 12 طفلًا وإصابة 5340 آخرين بسوء التغذية في جنوب الخرطوم
كشفت غرفة طوارئ جنوب الحزام، الأربعاء، عن وفاة 12 طفلًا بسبب سوء التغذية وإصابة 5340 طفلًا آخر بالمرض خلال ديسمبر الجاري في المنطقة الواقعة جنوب العاصمة السودانية الخرطوم.
وتشمل منطقة جنوب الحزام أحياء “الإنقاذ،… pic.twitter.com/cMe9uyKeDJ— سودان تربيون (@SudanTribune_AR) December 26, 2024
تدابير متطرفة
استبقت الحكومة السودانية إعلان تقرير المجاعة وعلقت مشاركتها في التصنيف المرحلي، بحجة أن التقرير يصدر عن مصادر غير موثوقة ويقوض سيادة البلاد وكرامتها.
وفي رسالة صادرة قبل يوم واحد من إعلان المجاعة، قال وزير الزراعة إن التقرير المنتظر يفتقر إلى بيانات محدثة حول سوء التغذية وتقييمات إنتاج المحاصيل في الموسم الصيفي الأخيرK كما عبر عن مخاوفه بشأن قدرة لجنة مراجعة المجاعة على جمع البيانات من الأراضي التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع.
وكانت الحكومة السودانية قد رفضت سابقًا الاعتراف بالمجاعة التي أُعلن عن حدوثها في مخيم زمزم منذ مطلع أغسطس 2024، حيث عزت شح الغذاء في المخيم، الذي يقع بالقرب من الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، إلى الحصار الذي تفرضه قوات الدعم السريع على المنطقة ومنعها لوصول إمدادات الإغاثة إليها.
وتؤكد الحكومة على أن الغذاء متوافر في الأسواق، وهذا صحيح، لكن لا يستطيع معظم السودانيين شراءه بسبب ارتفاع أسعاره، نتيجة لتعطيل النزاع القائم لسبل العيش في الريف والحضر، كما أن القيود المفروضة على حركة التجارة، خاصة في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، تضاعف من أسعار المواد الغذائية.
وعند النظر إلى الصور والفيديوهات التي تنشرها غرف الطوارئ لطوابير الجوعى في انتظار الحصول على الطعام، يتوصل المرء إلى قناعة بأن السودانيين يعيشون في خضم كارثة إنسانية تتجاهلها أطراف النزاع، التي تحاول تشتيت انتباه الناس بالمعارك والاستقطاب الأهلي والانتهاكات.
واضطر بعض السودانيين إلى اتخاذ تدابير متطرفة في الحصول على الطعام، بما في ذلك تناول علف الحيوانات والأعشاب وممارسة الفتيات والنساء الجنس مقابل الغذاء، بالإضافة إلى الانضمام إلى الجماعات المسلحة من أجل البقاء على قيد الحياة في ظل أسوأ كارثة من صُنع الإنسان.
شهادات صادمة
قال تقرير لجنة مراجعة المجاعة إن الغذاء غير متاح لـ90% من الأسر النازحة، كما يحتاج 80% من النازحين البالغ عددهم 11.5 مليون شخص إلى الخدمات الصحية التي أبلغ 29% من الفارين عن أنهم غير قادرين على تحمل تكلفتها أو غير متاحة لهم.
وأفاد منتدى المنظمات غير الحكومية الدولية في السودان، في تعليقه على إعلان المجاعة، بأنه يشهد التأثير المروع للجوع الشديد على المجتمعات يوميًا، حيث يفر الناس عبر الحدود بحثًا عن الطعام ويموت الأطفال بمعدلات مثيرة للقلق وتتحمل النساء العبء غير المتناسب المتمثل في الاضطرار إلى إيجاد طرق لإطعام أسرهن.
وأضاف: “في المناطق الأكثر تضررًا من الجوع، يعني البقاء على قيد الحياة غلي أوراق الأشجار، أو صنع الوجبات الخفيفة من التربة أو أعلاف الحيوانات، أو التسول في الأسواق المحلية، أو ممارسة الجنس”.
وقال أحد العاملين في مجال الإغاثة: “لقد زرت مرفقًا صحيًا كان يتولى رعاية أكثر من 50 طفلًا، كانوا جميعًا يعانون من سوء التغذية. وكانت أجسادهم عبارة عن جلد وعظام. وفي الفترة القصيرة التي قضيتها هناك، توفي أحدهم. ولم يكن عمره قد تجاوز العامين. وقد لُفَّ جسد الطفل بقطعة قماش ووضع على ظهر شاحنة، وكانت والدته إلى جانبه”.
🆘بعد أربعة أشهر من تأكيد المجاعة لأول مرة في مخيم زمزم في #السودان، تم تحديد المزيد من المناطق التي تعاني من المجاعة.
يحث برنامج الأغذية العالمي واليونيسف على تقديم المزيد من الدعم ووصول المساعدات غير المقيد لإنقاذ الأرواح ومنع المعاناة الإنسانية على نطاق غير مسبوق. pic.twitter.com/QobkIcV62y
— برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة (@WFP_Arabic) December 26, 2024
تدمير كامل
ترجع أزمة الجوع الواسعة في السودان إلى إصرار أطراف النزاع على تصفية خلافاتهم في المناطق المأهولة بالمدنيين، ما أدى إلى تعطّل سُبل العيش. ووفقًا لدراسة أعدّها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، ونُشرت في 11 أبريل/نيسان 2024، عن سُبل العيش في السودان وسط النزاع المسلح، فإن نصف الأسر الريفية توقفت عن ممارسة نشاطها الزراعي، وترتفع هذه النسبة إلى 63% في ولايتي سنار وغرب كردفان، وإلى 68% في ولاية الخرطوم.
وأوضحت الدراسة أن النزاع تسبب في اضطرابات شديدة في التوظيف وسبل العيش، مما أدى إلى عدم استقرار اقتصادي واسع النطاق، وقد شهدت 36.9% من الأسر الريفية تغييرًا في الأنشطة المدرّة للدخل، حيث انتقل 15% منها من العمل إلى انعدام العمل بشكل كامل.
وأكدت الدراسة أن الأسر الريفية التي تعاني من انخفاض الدخل، وتلك التي تواجه صدمات مثل المرض أو الوفاة أو الأحداث المناخية، معرّضة بشكل خاص لانعدام الأمن الغذائي المرتفع. ويزداد الوضع حرجًا للغاية بالنسبة للأسر التي فقدت دخلها تمامًا، إذ أفادت بأن 59% من الأسر الريفية تواجه انعدام الأمن الغذائي المعتدل أو الشديد، حيث يوجد أعلى معدل انتشار في ولايات النيل الأزرق وغرب كردفان وجنوب كردفان.
وأبلغت 25% من الأسر الريفية بأنها غير قادرة على زيارة الأسواق بسبب الحواجز المادية والقيود الاقتصادية وقضايا السلامة، فيما أبلغ 43% منهم بعدم قدرتهم على إجراء عمليات شراء السلع الأساسية. وهنا يظهر تأثير الحرب، خاصة فيما يتعلق بتعطّل الزراعة التي تستفيد منها ببيع فائض إنتاجها من المحاصيل لتغطية الاحتياجات الحياتية الأكثر إلحاحًا.
غرفة طوارئ شالا والمزارع:
مواصلة لمشروع التدخل الطارئ لدعم المطبخ الجماعي بمراكز الايواء وتجمعات قامت غرفة طوارئ شالا والمزارع بتقديم وجبة غذائية بمدرسة شالا الابتدائية المختلطة لعدد 150 أسرة ( 600) فرد وتستمر المطبخ لمدة 18 يوم بهدف تقليل حدة المعاناة النازحين . pic.twitter.com/ZMv9Dl86Tt— hala haya 5 (@NidalSaad4) December 26, 2024
وأجرى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية دراسة نُشرت في 12 نوفمبر/تشرين الثاني السابق، عن الأثر الاقتصادي والاجتماعي للصراع المسلح على الأسر الحضرية.
وذكرت الدراسة أن 18% من الأسر الحضرية أفادت بعدم وجود دخل أو عمل مقارنة بـ1.6% قبل النزاع، فيما انخفضت فرص العمل بدوام كامل إلى النصف، وتوقعت أن يتجاوز معدل البطالة 45% بحلول نهاية هذا العام.
كما ذكرت 56% من الأسر بأنها في حالة صحية أسوأ أو أسوأ بكثير بعد انخفاض نسبة الوصول إلى الخدمات الصحية من 78% إلى 15.5%، وهذا يعني أن أسرة واحدة من بين كل سبع أسر تستطيع الوصول إلى الرعاية الصحية.
تمضي أوضاع السودان إلى مزيد من التأزم، مع اختفاء أصوات المبادرات العديدة التي كانت تعمل على إنهاء النزاع عبر التفاوض، ليحل محلها اشتداد المعارك وزيادة أعداد الجوعى
وأوضحت أن قرابة نصف الأسر تواجه انعدام الأمن الغذائي بمستوى متوسط، حيث أفاد 76% من السكان بعدم تلقي أي مساعدة على الإطلاق وهم يعتمدون على شبكات شخصية من أفراد الأسرة والأصدقاء عوضًا عن المؤسسات الحكومية والوكالات الإنسانية الدولية ومنظمات المجتمع المدني المحلية.
وأفادت 63.6% من الأسر الحضرية بتوقف أطفالها في سن الدراسة عن الذهاب إلى المدرسة، بينما بلغ معدل توقف الأسر التي لديها طفل واحد في سن الدراسة عن الذهاب إلى المدرسة أكثر من 88% منذ بدء الصراع.
فيما انخفض معدل الوصول إلى المياه عبر الأنابيب للأسر من 72.5% إلى 51.6% مع تدهور إمداد الكهرباء لـ90% من الأسر.
مآلات النزاع
قال العضو في غرفة طوارئ الخرطوم، بشير الجزولي، إن معظم الأسر العالقة في مناطق المعارك تعيش على وجبة واحدة في اليوم، حيث نشهد يوميًا تزايد أعداد الأشخاص الذين يعانون من سوء التغذية، ويتفاقم الوضع مع الشح الشديد في الأدوية والمحاليل الوريدية.
وأشار، خلال حديثه لـ”نون بوست”، إلى أنه “رغم المضايقات التي يتعرض لها المتطوعون والناشطون، والقيود التي تفرضها أطراف النزاع على الوصول الإنساني، نعمل على تقديم الغذاء الشحيح، لأننا ببساطة لا نستطيع رؤية الأشخاص يموتون من الجوع ونقف مكتوفي الأيدي”.
وشدد على أن تدخلات غرف الطوارئ لا تكفي 1% من الاحتياجات الهائلة للفئات الأشد احتياجًا، وهي تدخلات تتكامل مع أنشطة أخرى مثل دعم المجلس النرويجي للاجئين بالخبز في بعض مناطق غرب وشمال دارفور، وتقديم أطباء بلا حدود الغذاء إلى الآلاف في جنوب دارفور، وقوافل برنامج الأغذية العالمي.
وأوضح الجزولي أن وضع نهاية للجوع يتطلب وقفًا فوريًا لإطلاق النار، حيث إن أي استجابة إنسانية ستكون جزئية دون ذلك، قاطعًا بأن استمرار الصراع يعني – ببساطة – تعميم نطاق الجوع على كل السودان.
لم يظهر الجزولي أي تفاؤل بانفراج الأزمة في السودان، نظرًا لعدم تواني أطراف النزاع في تصعيد الأعمال العسكرية في الفاشر بولاية شمال دارفور والجزيرة وسنار والخرطوم وأجزاء من كردفان، إضافة إلى تنفيذ أنشطة تزيد من حدة الاستقطاب الأهلي، مثل التجنيد الواسع والدعاية الحربية والتجريم واقتصار استبدال العملة وإقامة امتحانات الشهادة الثانوية في مناطق سيطرة الجيش.
تمضي أوضاع السودان إلى مزيد من التأزم، مع اختفاء أصوات المبادرات العديدة التي كانت تعمل على إنهاء النزاع عبر التفاوض، ليحل محلها اشتداد المعارك، وزيادة أعداد الجوعى الذين ربما يموت أكثرهم بصمت دون أي أفق لنهاية هذه المأساة.