ارتفاع أسعار السلع وتفاقم مستويات البطالة وفقدان العملة المحلية لقيمتها ونقص السيولة وانخفاض معدل الدخل وغيرها من المشكلات الاقتصادية التي تأخذ شكلًا من أشكال الركود أو الكساد الاقتصادي وتؤثر بشكل مباشر على الحركة الشرائية. وما أن تضرب هذه الأوضاع برياحها على الأسواق العالمية، يصبح من الصعب على طبقات المجتمع من ذوي الدخل المتدني والمتوسط الوفاء بالتزاماتهم وتوفير احتياجاتهم.
وتبعًا لذلك، نجد أن الكثير من الناس يتوجّهون إلى أسواق البالة أو محال الأدوات والأشياء المستعملة، هربًا من الضغوطات المادية والأنظمة الاستهلاكية المُنهِكة، وحاجةً في سد رغباتهم واحتياجاتهم بما يتناسب مع إمكانياتهم المادية.
من أين جاءت فكرة أسواق البالة؟
في مطلع القرن الرابع عشر كان باستطاعة قلة من الناس في كافة المجتمعات بالعالم شراء ملابس جديدة نظرًا لأسعارها المرتفعة وندرة توافرها في الأسواق، إذ كانت كل قطعة فريدة من نوعها ومصممة خصيصًا لشخص واحد ولمناسبة معينة، وكانت تستخدم عادةً لسنوات أو حتى عقود، فلقد اعتادت الأمهات والآباء توريث مقتنياتهما إلى الأبناء، كما كان أصحاب الطبقات الرفيعة يقدّمون ملابسهم المستعملة للعاملين لديهم كطريقة لدفع الأجور والمستحقات.
في منتصف القرن التاسع عشر، أصبحت الملابس منتجًا متوافرًا لجميع الطبقات الاجتماعية تقريبًا وسلعةً اقتصادية تصدّر للأسواق الأخرى، وخلال الحرب العالمية الثانية، ظهرت أسواق البالة في أوروبا لأول مرة، وبدأت كأسواق لبيع الأشياء والملابس المسروقة والمتروكة من الجنود الأمريكيين في أثناء مرورهم من المدن الأوروبية. وتدريجيًا بدأت في الانتشار في أمريكا الشمالية بسبب الظروف الاقتصادية القاسية وحاجة الناس إلى ارتداء ملابس بتكلفة منخفضة.
ومع ارتفاع الدخل وازدياد حركة الإنتاج وانخفاض تكاليف التصنيع بين فترة الستينيات والسبعينيات، انخفض الطلب على المواد المستعملة ولكنه زاد في البلدان النامية، فلقد كانت الدول الاستعمارية تصدر الملابس المستعملة والأدوات المملوكة مسبقًا إلى مستعمراتها، في الجهة الأخرى، اعتمدت الجمعيات والمنظمات الخيرية على هذه الأسواق وأرباحها في جمع التبرعات والمساعدات.
تُعرف الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر مصدري الملابس المستعملة، وتليها المملكة المتحدة وألمانيا وهولندا، في المقابل تعد دول جنوب الصحراء الكبرى أكثر البلدان استيرادًا لهذه الملابس، حيث تتلقى أكثر من 25% من صادراتها العالمية
اختلفت توجهات هذه الأسواق في الثمانينيات، وباتت أهدافها ربحية بحتة. ولتحقيق ذلك سعت لاستقطاب النساء والرجال الذين يبحثون عن ملابس عصرية وأنيقة بأسعار معقولة، إلى أن اتسعت نماذج البيع لديها واختلفت مستويات جودة السلع وشملت الحقائب والأحذية والكتب والأدوات الموسيقية والمعدات المنزلية والرياضية وغيرها الكثير من السلع التي سيطرت عليها متاجر التجزئة لسنوات عديدة.
حاليًّا، يتم تصدير وبيع هذه السلع ذات الجودة العالية إلى دول أمريكا الوسطى، ويتم شحن الملابس ذات الجودة المتدنية إلى إفريقيا وآسيا، وتُعرف الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر مصدري الملابس المستعملة -تبلغ قيمة هذه الصناعة 24 مليار دولار ومن المتوقع أن تصل إلى 51 مليار بحلول العقد القادم ، وتليها المملكة المتحدة وألمانيا وهولندا. في المقابل تعد دول جنوب الصحراء الكبرى أكثر البلدان استيرادًا لهذه الملابس، حيث تتلقى أكثر من 25% من صادراتها العالمية، ولذلك تعتبر هذه التجارة ذات أهمية كبيرة بالنسبة للاقتصاد الإفريقي.
أسباب نمو شعبيتها في وقتنا الحاضر
ازداد انتشار متاجر الأدوات المستعملة في وقتنا الحاضر، ليس فقط بسبب انجذاب بعض الأشخاص إلى الأزياء العتيقة والكلاسيكية، ولكن أيضًا بسبب التوجهات الفكرية الواعية بالتكلفة الحقيقية للموضة السريعة التي تدعم إعادة تدوير الملابس والأدوات المستعملة حفاظًا على موارد البيئة الطبيعية واحتجاجًا على ظروف التصنيع القاسية التي يتعرض لها عمّال مصانع شركات العلامات التجارية الكبرى، فبحسب دراسة حديثة أجرتها مؤسسة “إلين ماكثر”، فإن عربة واحدة مملوءة بالأقمشة تُهدر كل ثانية، وصناعة الأزياء تعتبر ثاني أكبر مستهلك وملوث للمياه على مستوى العالم.
تصنيع الملابس يحتاج إلى أطنان من القطن الذي يستهلك كميات كبيرة من المياه، وهي مشكلة تواجهها كل من الصين والهند، فمن المرجح أن يزداد استهلاك المياه لديها إلى 50% عام 2030؛ ما سيؤدي إلى نقص ثروتها المائية بشكل كبير، خاصة أن صباغة الأقمشة تستهلك 5 تريليونات لتر من المياه سنويًا، ذلك عدا عن نفايات الملابس التي ترسل إلى المكبات وتحتاج إلى 200 عام على الأقل للتحلل، وخلال هذه السنوات تترك آثارًا مضرة بالتربة والمياه.
يضاف إلى ذلك، الأوضاع الاقتصادية القاسية التي غيرت من النظرة الاجتماعية والثقافية لهذه الأسواق ودفعت طبقات المجتمع المحدودة والمتوسطة الدخل للجوء إليها كخيار معقول مقارنة مع السلع الجديدة المحلية، على سبيل المثال يتضح الاهتمام المتزايد في هذه البضاعة في مصر التي تعاني من ارتفاع أسعار الملابس التي يتم استيرادها غالبًا من الخارج بالدولار، بسبب تعويم وانخفاض سعر الجنيه المصري وارتفاع معدل التضخم.
وعادةً ما يتم بيع هذه الملابس بالكيلو، وتبدأ الأسعار من 15 جنيهًا وحتى 600 جنيه للملابس الشتوية، وأشهر أسواقها “وكالة البلح” و”سوق بور سعيد”، وغيرها من الأسواق التي توفر خيارات ملائمة لاحتياجات المستهلك المصري. في هذا الخصوص، ذكر تقرير صادر من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، أن حجم الواردات من الملابس المستعملة بلغ نحو 5 ملايين و996 ألف دولار، ما بين شهري يناير/كانون الثاني وأغسطس/آب عام 2017.
تواجه دول الأردن وسوريا وقطاع غزة الوضع نفسه من تراجع أحوال الناس المادية وارتفاع الأسعار وضيق القدرة المالية على توفير الاحتياجات المادية الشخصية والمنزلية، ولذلك نلاحظ الإقبال الشديد على هذه المحال من تلك الشعوب
جدير بالذكر أن مصر ليست المستهلك العربي الوحيد لأسواق الباله، ففي بداية الألفينات تدهور الوضع الاقتصادي والأمني في العراق ما أدى إلى ارتفاع معدل الفقر والبطالة في البلاد، ونتيجة لهذه الاضطرابات لم يعد بإمكان العائلات العراقية من ذوي الدخل المحدود والمتوسط سد احتياجاتها من الأسواق الاعتيادية التي تعتمد على البضائع المستوردة، ولذلك توجهوا نحو محال بيع الملابس المستعملة لاقتناء أي قطعة بأقل من 3 دولارات أمريكية، وأكثرها شعبية سوق الباب الشرقي.
تواجه دول الأردن وسوريا وقطاع غزة الوضع نفسه من تراجع أحوال الناس المادية وارتفاع الأسعار وضيق القدرة المالية على توفير الاحتياجات المادية الشخصية والمنزلية، ولذلك نلاحظ الإقبال الشديد عليها رغم النظرة الدونية التي كانت دومًا تلاحق زوار وزبائن هذه المتاجر.
بالمحصلة، لا بد من الإشارة إلى أن الإقبال الشديد على السلع المستعملة كان مدفوعًا أيضًا بقوة التكنولوجيا ومنصات التواصل الاجتماعي الرقمية التي أتاحت للناس بيع أغراضهم الشخصية وشراء سلع مستعملة بعيدًا عن الوصمة الاجتماعية، فلقد ظهرت مواقع تجارية إلكترونية مثل eBay وAmazon كأحد الحلول البديلة للتسوق وأكثر الصناعات نجاحًا ونموًا في العالم.