يبدو أن الانفتاح التركي على الإدارة السياسية الجديدة في سوريا لن يقتصر على الدعم السياسي الذي حظيت به تلك الإدارة، لا سيما بعد إسقاط النظام، بل سيتجاوز ذلك إلى دعم الاقتصاد السوري الذي سيشهد تطورات كبيرة مقارنة بالسنوات السابقة، في رغبة واضحة من الجانب التركي لإعادة بناء البنية التحتية السورية وترسيخ الاستقرار في البلاد.
على مدى الأيام الماضية صدرت تصريحات من قبل مسؤولين أتراك حول توجه تركي نحو مساعدة سوريا بإعادة وتأهيل البنية التحتية في سوريا، كان أبرزها تصريحات وزير النقل التركي، عبد القادر أورال أوغلو الذي استعرض في مؤتمر صحفي خططًا تركية متعددة لإعادة تأهيل البنية التحتية في سوريا، من ضمنها تحسين الطريقين السريعين (M4) و(M5) وبناء الجسور المدمرة عبر منظمات تركية مثل “تيكا” و”آفاد”.
إضافة إلى وضع خطة عمل عاجلة تشمل استئناف خدمات النقل الجوي، وتحسين شبكات الاتصالات وإعادة تشغيل المطارات، إلى جانب إبرام اتفاقيات ترسيم حدود المناطق البحرية.
ومن المشاريع التي تسعى أنقرة إلى تنفيذها في سوريا إعادة ترميم أجزاء من خط السكة الحديد الحجازي التاريخي في سوريا، وإعادة ربط خطوط السكك الحديدية التركية بدمشق، حسب ما قاله أورال أوغلو.
وأشار إلى أن أنقرة ستقيم الوضع بسرعة وتتخذ خطوات لاستعادة الاتصال بالسكك الحديدية مع دمشق كمرحلة أولى، لا سيما أن هناك أجزاءً من خط السكة الحديدية تمتد من تركيا إلى منطقة الحجاز.
سكة حديد الحجاز حلم تركي
أُنشئ مشروع السكة الحديدي في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني عام 1900، واستمر العمل فيه 8 سنوات، ليربط بين دمشق والمدينة المنورة، مع وجود خط إضافي نحو مدينة حيفا، تمتد فروعه إلى كل من عكا ونابلس، وامتاز بكونه المشروع الاستراتيجي الوحيد الذي موّل بتبرعات عثمانية وإسلامية.
وربط المشروع الأقاليم العثمانية بشكل أكبر بإسطنبول، واختزل على الحجاج مسافة كانت تستغرق 3 أشهر، لكنه تعرض للتخريب إبان الثورة العربية بتحريض من بريطانيا، ولم يستكمل مشروع الخط لمكة، ومنذ ذلك الحين لم تفلح محاولات إعادة تشغيله أو تطويره.
سمي خط سكة حديد الحجاز على اسم المنطقة الواقعة غرب شبه الجزيرة العربية، حيث تقع المدينتان المقدستان “مكة والمدينة”، وعرف في السجلات العثمانية باسم “خط شمندوفير الحجاز” أو خط حديد الحجاز الحميدي، وفي وثائق دار الأرشيف العثماني باسم “حجاز تيمور يولي”. بينما أسمته مراجع تاريخية “طريق الحرير الحديدي” بسبب تأثيره السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحيوي على المنطقة خلال فترة تشغيله.
ما بين عامي 1903 و1912 بلغ مكسب منطقة حوران من تصدير قمحها أكثر من نصف البضائع المنقولة على خط السكك الحديدية بين دمشق وحيفا، كما بلغت موارد الخط قبل الحرب العالمية الأولى بعد تنزيل كل النفقات مبلغ 32 ألفًا و768 ليرة عثمانية ذهبية، أي أنه حقق فائضًا في ميزانيته على الرغم من أن تشغيله اقتصاديًا كان لمدة 6 سنوات فقط قبل الحرب.
إضافة إلى العمران والازدهار اللذَين صنعهما، حقّق المشروع أرباحًا مالية بلغت عام 1913 ما يقارب 82 ألف جنيه إسترليني، ونقل 91 مليونًا و626 ألفًا و316 طنًا من المواد الغذائية على الخط سنة 1909، فيما ارتفعت الكميات المنقولة في 1910 إلى 112 مليونًا و7 آلاف و112 طنًا من المواد الصناعية والغذائية.
الباحث السياسي درويش خليفة اعتبر أن فكرة ترميم المحطات التي بنيت في العهد العثماني ليست بجديدة على الأتراك، ففي العام 2018 قدّمت تركيا عرضًا إلى الحكومة اللبنانية لترميم محطة الحجاز في طرابلس، مشيرًا لـ”نون بوست”، إلى أن اليوم وبعد سيطرة إدارة العمليات العسكرية على مفاصل الحكم في دمشق ذهب الأتراك حلفاء الإدارة الجديدة إلى التركيز على إعادة الإرث العثماني والعمل على ترميم ما يمكن وربط السكك الحديدية في تركيا مع الخطوط السورية.
إعادة رسم خريطة التحالفات
مع انتصار الثورة السورية وإنهاء الوجود الإيراني في سوريا، تنتهي الآمال الإيرانية وطموحاتها في ربط خطوط النقل والإمداد من الخليج العربي إلى البحر المتوسط مرورًا بالعراق وسوريا، فقد كانت حكومتا “إيران والعراق” قد وقعتا مذكرات تفاهم لمد الخط الحديدي (الشلامجة الإيرانية – البصرة العراقية)، الذي يعد جزءًا من مشروع كبير يربط إيران بسوريا، عبر البصرة فكربلاء وصولًا إلى ميناء اللاذقية السوري على البحر المتوسط، إضافة إلى ربطه بميناء الخميني من الجانب الإيراني والذي يعتبر رئة تنفس اصطناعي للنظام الإيراني في ظل العقوبات الدولية المفروضة عليه.
ولاقى هذا المشروع الزخم الكبير من خلال التركيز الإعلامي الإيراني عليه، إذ كان يرى الجانب الإيراني أن سعة الشحن لهذه السكة الحديدية تتراوح بين 8 و10 ملايين طن، فيما تبلغ سعة الركاب فيها 12 مليون شخص توفّر تنشيطًا للسياحة الدينية وخطًّا مباشرًا للزوار من وإلى مراقد الشيعة الموجودة في العراق وصولًا للمراقد في سوريا.
إضافة إلى السلع المصدرة من إيران إلى العراق وسوريا وبالعكس، وتسهيل التجارة في آسيا الوسطى ثم إلى الصين من خلال إعادة ربط إيران بطريق الحرير، رغم ما قد تسبّبه عملية الربط السككي من إعدام ميناء الفاو العراقي وتضرّر الاقتصاد العراقي، واقتصار الفائدة على إيران التي ترى في المشروع نافذة لها على أوروبا.
في الصدد ذاته، يمكّن المشروع التركي الآن أيضًا من استبعاد مشروع خط سكة حديد إسرائيلي تمّ طرحه عام 2018، يربط الأراضي الفلسطينية المحتلة بدول الخليج العربي عبر الأردن، ما يعني إلغاء فكرة إدماج “إسرائيل” إقليميًا، واستفادتها وتحكمها الاقتصادي بدول المنطقة، إضافة إلى أضرار المشروع الكبيرة على الأمن القومي العربي والإسلامي، حسب حديث خبراء لوكالة الأناضول التركية.
في حديثه لـ”نون بوست”، يرى المحلل السياسي التركي، علي أسمر، أن مشروع إعادة ترميم سكة حديد الحجاز وربطها بدمشق يحمل أهمية كبيرة في هذا التوقيت بالذات، حيث يمكن أن يسهم في تعزيز الروابط الاقتصادية والجيوسياسية بين تركيا والدول المجاورة.
كما أن المشروع لا يقتصر فقط على كونه وسيلة نقل، بل يحمل أبعادًا تاريخية ودينية نظرًا لدوره السابق في ربط العالم الإسلامي بالأماكن المقدسة، وهو ما قد يعزّز التعاون الإقليمي ويعيد إحياء الروابط التاريخية بين الشعوب.
على الجانب الاقتصادي، يضيف المحلل أسمر أن هذا المشروع يمكن أن يكون حلًا مهمًا لتجاوز مشكلات النقل البري الناتجة عن الظروف السياسية والأمنية في المنطقة، كما أنه يعكس رغبة تركيا في توسيع نفوذها وتعزيز وجودها في سوريا من خلال مشروعات طويلة الأمد تساهم في إعادة الإعمار.
وبالنسبة لتأثير المشروع على التحالفات الإقليمية، فيمكن أن يؤدي إلى تغييرات كبيرة في موازين القوى ويُعيد رسم المشهد الجيوسياسي في المنطقة لصالح تركيا، فحسب المحلل أسمر، إذا نجحت تركيا في تنفيذه، فقد تعزز شراكاتها مع الدول المجاورة وتقدم نفسها كبديل إقليمي قوي في مواجهة مشروعات سكك المتوسط، التي تدعمها أطراف أخرى كاليونان و”إسرائيل” بهذا الشكل.
عوائق محتملة
لا يقتصر مشروع سكة حديد الحجاز على كونه مشروعًا للنقل فقط، بل يحمل في طياته أبعادًا استراتيجية قد تؤثر على التوازنات الإقليمية والتحالفات السياسية، لكنه يواجه في الوقت نفسه تحديات كبيرة ومحاولات إفشال من الدول المحيطة.
وتتمثل العوائق – حسب حديث أسمر – في الوضع الأمني غير المستقر في سوريا، والذي قد يهدد سلامة مسار السكة الحديدية بالإضافة إلى التكلفة العالية التي قد تشكل تحديًا، خاصة إذا لم تُوفر لها مصادر تمويل كافية، سواء من أطراف إقليمية أو دولية، عدا عن أنه لا يمكن تجاهل المعارضة التي قد تصدر من بعض الدول التي ترى في هذا المشروع محاولة لزيادة النفوذ التركي في المنطقة.
بالمقابل يستبعد الباحث خليفة أن يكون هذا المشروع منافسًا للمشروعات الأخرى، إذ إنه مرتبط بالذاكرة التركية وإرثها في الدول العربية وليس التسابق على الوصول إلى دول الخليج العربي، حيث إن تركيا تربطها علاقات وتبادل تجاري كبير مع معظم دول الخليج.
مضيفًا أن المشروع يقدم خدمة مشتركة لكل الدول التي يمر منها، فتركيا كانت تصدر بضائعها إلى ميناء حيفا ثم بالطرق البرية إلى الأردن، مع ملاحظة إنهاء حلم “إسرائيل” بمشروع السكك الذي كانت تنوي إنشائه بميزانية تقدّر بنحو مليار و200 مليون دولار.
يبقى إعادة تفعيل مشروع الخط الحديدي الحجازي مرهونًا بالظروف السياسية التي تمر بالدولة الجديدة الناشئة بعد سقوط نظام الأسد، ومدى تهيئة الظروف الأمنية والاقتصادية اللازمة، لا سيما في ظل التدهور المالي الذي تعيشه الدولة السورية.