تلقت فرنسا انتكاسة دبلوماسية جديدة من آخر حلفائها في منطقة الساحل الأفريقي، فقد التحقت تشاد بمن سبقوها في فكّ الارتباط التعاوني مع باريس، وألغت اتفاقيات التعاون الأمني والدفاعي معها، في حين يبدو أن فصلًا جديدًا قد بدأ بين فرنسا والسنغال التي طالب رئيسها بإغلاق قواعدها العسكرية في بلاده.
هذه التحولات الكبيرة في علاقة باريس بدول القارة الأفريقية التي كانت إلى وقت قريب أبرز حلفائها، تجعلنا نطرح أكثر من سؤال فيما يتعلق بدلالات تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا، وكيفية تغيُّر الحال بعد إرث طويل من الوصاية والاستعمار، دون أن ننسى السؤال الأبرز: من المستفيد من تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا؟
ماذا بقيَ لفرنسا؟
خلال الأسابيع القليلة المقبلة، لن يكون هناك أي وجود عسكري فرنسي في داكار عاصمة السنغال، كما سيختفي العلم الفرنسي من معسكر كوسي في نجامينا عاصمة تشاد، بعد أن اختار الشريكان التاريخيان لفرنسا قطع الروابط العسكرية معها، لينتهي بذلك وجود عسكري يعود إلى حقبة الاستعمار.
وسبق أن سحبت فرنسا قواتها من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، عقب الانقلابات العسكرية التي شهدتها هذه الدول الثلاثة وصعود قيادات عسكرية مناوئة للوجود الفرنسي في دولهم، رغم أنهم كانوا الأقرب إلى باريس في المنطقة.
ومن المرتقب أن تضطر فرنسا قريبًا إلى سحب قواتها المتبقية من الغابون، نتيجة توتر علاقاتها مع الحاكمين الجدد للبلاد، ففي أغسطس/ آب 2023 أطاح كبار قادة الجيش في الغابون بنظام حكم علي بونغو الحليف الأبرز لباريس في غرب أفريقيا.
فضلًا عن ذلك، تعتزم باريس الاحتفاظ بنحو 100 جندي في ساحل العاج، مقارنة بـ 600 جندي حاليًا، في ظل تنامي مشاعر الكراهية ضد الوجود العسكري الفرنسي في هذا البلد الأفريقي، وسعي قادته إلى التحرر من نفوذ المستعمر القديم.
كما فقدت فرنسا نفوذها الكبير في شمال أفريقيا، ففي تونس مثلًا لم تعد فرنسا ذلك الشريك الاستراتيجي المرغوب فيه بقوة، خاصة بعد الأحداث التي عرفتها البلاد صيف سنة 2021، وسيطرة الرئيس قيس سعيّد على مقاليد السلطة هناك.
الشيء نفسه في الجزائر، أو لنقل إنه أشد وضوحًا هناك، إذ تراجعت العلاقات بين البلدين، ووصل الأمر إلى اتهام السلطات الجزائرية لأجهزة الاستخبارات الفرنسية بالمشاركة المباشرة، والضلوع في مخططات تهدف إلى زعزعة استقرار البلاد.
حتى المغرب الذي أكدت باريس مؤخرًا أحقيته في الصحراء الغربية، لم يعد ذلك الحليف المقرّب بالنسبة إلى باريس، فقد أصبح منافسًا بارزًا في المنطقة، خاصة بعد تحسُّن علاقاته مع الجارة إسبانيا، وفتح أبوابه أمام الإسرائيليين والأمريكيين.
الوجود العسكري الظاهر سيبقى فقط في جيبوتي، إذ تحتفظ فرنسا إلى الآن بآخر قواعدها العسكرية في هذا البلد الواقع في القرن الأفريقي، وهي قاعدة استراتيجية موجهة نحو منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، وتنشر باريس فيها 1500 جندي بشكل دائم لخدمة القاعدة البحرية والجوية.
وقبل أسبوع أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال لقاء مع نظيره الجيبوتي إسماعيل عمر غيله، على أهمية الوجود العسكري لبلاده في الدولة الصغيرة، لكن هذا الوجود غير مضمون هو الآخر في ظل تنامي التنافس الإقليمي هناك.
ماذا يعني طيّ المزيد من المساحات الأفريقية أمام فرنسا؟
خسرت فرنسا في السنوات الأخيرة قواعدها العسكرية وجنودها في القارة الأفريقية، وهو ما يعني تراجع نفوذها العسكري في هذه القارة التي استعمرت جزءًا كبيرًا منها طيلة عقود كثيرة.
هذا الأمر انعكس على النفوذ الاقتصادي لباريس في القارة السمراء، فالعسكري كان يحمي الاقتصادي، وإذا تراجع العسكري سيتراجع الاقتصادي أيضًا، ولاحظنا في السنوات الأخيرة وقف العديد من الشركات الفرنسية عملها في أفريقيا.
لم تعد الشركات الفرنسية صاحبة الامتياز الأكبر في القارة الأفريقية، إذ فقدت هذا الامتياز لصالح دول أخرى، ففي تونس مثلًا كانت شركات السيارات الفرنسية هي المسيطرة على السوق، لكن اليوم نرى الشركات الصينية واليابانية والكورية، الشيء نفسه في الملابس وباقي المجالات.
تكرر الأمر في المغرب والجزائر كذلك، إذ لم تعد الشركات الفرنسية العامل الأبرز في اقتصاد الدولتين، حيث تركت مكانها لوافدين جدد خاصة من آسيا ومنطقة الخليج العربي، ما انعكس سلبًا على الاقتصاد الوطني الفرنسي.
وتعمل دول الساحل حاليًا على مراجعة تعاملاتها الاقتصادية مع فرنسا، ما سيكون انعكاسًا كبيرًا على باريس، خاصة أن تلك المنطقة تعتبر المزود الرئيسي لفرنسا بالطاقة واليورانيوم والمعادن، حيث تضخّ النيجر ومالي وتشاد 25% من احتياجات المفاعلات النووية التي تعتمدها فرنسا للتزود بالكهرباء.
مخاوف فرنسا تصل السنغال أيضًا، إذ يرتقب أن يراجع حكّام دكار الجدد اتفاقيات الطاقة مع باريس، ففي أغسطس/ آب الماضي أكد رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو، أن بلاده شكّلت لجنة من خبراء في القطاع القانوني والضريبي والطاقة، لمراجعة عقود النفط والغاز، والعمل على إعادة توازنها بما يخدم المصلحة الوطنية، وسبق الرئيس باسيرو ديوماي فاي بتأكيد هذا الأمر.
فضلًا عن ذلك، تسيطر فرنسا على جزء كبير من مناجم الذهب في أفريقيا، ومناجم الفوسفات واليورانيوم أيضًا، فضلًا عن المعادن التي تعتبر أساسًا في تطوير الرقاقات الإلكترونية التي تعتمدها جميع التكنولوجيات.
المسألة الأهم التي تخشاها فرنسا، إنهاء الدول الأفريقية في غرب القارة ووسطها التعامل بعملة الفرنك الأفريقي، وإذا تمّ هذا الأمر وهو غير مستبعد في ظل التطورات التي تشهدها القارة، سيمثّل ضربة قوية لفرنسا ليس في أفريقيا فقط بل في العالم أجمع.
ومنذ خروجها من أفريقيا واستقلال الدول التي تستعمرها، فرضت فرنسا على 14 دولة أفريقية التعامل بـ”الفرنك الأفريقي”، الذي تتحكم باريس في طباعته وتحدد قيمة تداوله وقوته الشرائية، وينقسم الفرنك المتداول إلى صنفَين: فرنك وسط أفريقيا، وفرنك غرب أفريقيا.
نتيجة احتفاظها بالاحتياطات الوطنية لهذه الدول، تحقق الخزانة الفرنسية ما يعادل 500 مليار دولار من الأرباح والعوائد السنوية، والمهم الإشارة إلى أن الدول الأفريقية المعنية لا تمتلك حق الوصول إلا لـ 15% من احتياطاتها المالية المودعة سنويًا، وفي حال احتاجت أكثر من ذلك لها أن تقترض أموال إضافية من الخزانة الفرنسية.
كيف تغيّر الحال بعد الوصاية؟
تراجُع النفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية كان نتيجة أسباب عديدة، منها تدخلها السافر في القرار السيادي للدول الأفريقية، فرغم خروجها العسكري الرسمي من القارة خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إلا أن فرنسا حافظت على نفوذها السياسي في المنطقة.
طيلة الفترة التي تلت استقلال الدول الأفريقية من الاستعمار الفرنسي، لم تقبل باريس أن تستقل هذه الدول سياسيًا وبقيت متحكمة بها، فأغلب الرؤساء والوزراء تابعين مباشرة لقصر الإليزيه، يتلقون الأوامر من هناك وينفّذونها وفق أهواء باريس.
حتى الدول التي سعى قادتها للاستقلال الفعلي وفكّ الارتباط عن باريس، عرفت اضطرابات وفوضى كبيرة مدبّرة من قبل فرنسا، ففي النيجر مثلًا سبق أن طالب رئيسها الأسبق حماني ديوري، بزيادة حصة الدولة من عائدات اليورانيوم التي تستخرجها الشركات الفرنسية من بلاده، إلا أن باريس دبّرت ضده انقلابًا عسكريًا في أبريل/ نيسان 1974 قاده الجنرال سيني كونتشي.
تكرر الأمر نفسه سنة 2010، حيث أطاحت باريس بالرئيس ممادو طانجا، نتيجة مطالبته بإعادة التفاوض مع أريفا بشأن اليورانيوم، وفتح الاستثمار أمام الشركات الأجنبية، ومنح عدة تراخيص لشركات صينية وهندية وكندية.
هذا التدخل الكبير في القرار السيادي للأفارقة ولّد داخلهم نقمة كبيرة تجاه فرنسا، وزادت هذه النقمة في ظل التقارير الكثيرة التي تتحدث عن نهب فرنسي متواصل للثروات الأفريقية من نفط وغاز ومعادن ثمينة وغيرها.
أغلب الدول الأفريقية غنية بالثروات، إلا أن شعوبها فقيرة، وذلك نتيجة نهب فرنسا لثرواتها منذ عقود طويلة، وتحكُّم باريس في عملتها وقيمتها، فأموال 14 دولة أفريقية مودعة لدى البنك المركزي الفرنسي ولا يملكون حق التصرف فيها.
من أسباب تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا أيضًا فشل المهمة التي قالت باريس إنها جاءت من أجلها، فحكّام هذا البلد الأوروبي قالوا إن مهمتهم محاربة الإرهاب ونشر السلم والسلام في القارة والقضاء على الفوضى، إلا أن ما حصل هو العكس تمامًا، إذ زادت الفوضى وانتشرت الجريمة المنظمة في عدة مناطق من القارة.
كل هذه الأسباب جعلت الشعوب الأفريقية تنقم على باريس وتطالب بانتهاء الوجود الفرنسي فوق أراضي القارة السمراء بكل سماته، سواء كان عسكريًا أو اقتصاديًا أو سياسيًا، وهو ما يفّسر المظاهرات الحاشدة التي خرجت في مناطق كثيرة تهتف ضد باريس.
من المستفيد؟
تراجع قدرة فرنسا على الفعل والتغيير السياسي في القارة الأفريقية، قابله تمدُّد دول أخرى في القارة، حيث عاينا في السنوات الأخيرة تمدُّد الدب الروسي في مناطق كثيرة من القارة، ووصل به الأمر إلى الإشراف على انقلابات عسكرية للإطاحة برؤساء محسوبين على باريس.
أحسنت موسكو استثمار التراجع الفرنسي في أفريقيا، أو لعلّها كانت أحد أسبابه، ومدّت نفوذها في عدة مناطق، وأرسلت جنودها والمرتزقة العاملين معها للسيطرة على القرار السيادي في تلك الدول والاستحواذ على خيراتها، كما حصل في ليبيا والنجير ومالي والتشاد وأفريقيا الوسطى.
وتأمل روسيا في مواصلة التمدد في أفريقيا، إلا أنها تفتقد إلى الجانب المالي، ما يجعل خطواتها ثقيلة، خاصة في ظل وجود منافسين جدّيين هناك، وأبرزهم التنين الصيني الذي طوّر علاقاته مع أغلب دول القارة السمراء خلال العقد الأخير.
منحت الصين القروض الميسّرة واستثمرت في المشاريع الكبرى في أفريقيا لضمان الحصول على امتيازات مهمة في القارة، فسيطرت على أغلب طرق التجارة ومصادر إنتاج الطاقة والمعادن التي تعدّ ضرورية لمواصلة تطور اقتصادها.
كما خسرت فرنسا مكانتها الأفريقية لصالح إيطاليا التي ما فتئت تتهم باريس بالوقوف وراء تفقير الشعوب الأفريقية ونهب ثرواتها، ويشهد النفوذ الإيطالي تمددًا خاصة في شمال أفريقيا، وهو ما يفسر تركيز رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني على دول الشمال والزيارات المتكررة لها.
فضلًا عن هذه الدول، أحسنت دول أخرى استثمار التراجع الفرنسي في أفريقيا، ومنها تركيا والمغرب ودول الخليج العربي (قطر الإمارات السعودية) فضلًا عن الهند، حيث ارتفعت استثمارات هذه الدول في القارة السمراء ووقّعت اتفاقيات اقتصادية كبيرة هناك.
بدورها تحاول الولايات المتحدة الأمريكية العودة بقوة إلى القارة الأفريقية واستعادة مكانتها هناك، وذلك عبر السيطرة على المعابر التجارية ومصادر إنتاج الطاقة، ومؤخرًا أعلنت واشنطن تقديم 560 مليون دولار لتوسيع معبر لوبيتو الذي يعتبر من أهم المعابر في القارة.
ناضلت الشعوب الأفريقية كثيرًا للتخلص من النفوذ الفرنسي فوق أراضيها، وهو ما بدأ يحصل بالفعل، لكن في الوقت نفسه فتح قادة الأفارقة الأبواب لدول أخرى لتحلَّ محل باريس، أي أنه لم يحصل شيء، فالنهب والتحكم بالقرار السيادي متواصلان، ما يقتضي على الشعوب أن تتحرك وتحمل المشعل بنفسها بعيدًا عن الدول الراغبة في ثرواتها.