في شارع السيوفية المتفرع من الصليبة بمنطقة الخليفة بالقاهرة القديمة يقع واحد من أقدم المعالم التي عرفتها مصر في عصر المماليك، هذا المعلم الذي كان شاهدًا على حقبة تاريخية من أكثر الحقب أهمية في تاريخ المحروسة، إنه قصر الأمير طاز، أحد الأمراء البارزين في عصر دولة المماليك البحرية.
ارتبط ظهور سيف الدين طاز بن قطغاج كأحد أبرز الأمراء في هذا الوقت بفترة حكم عماد الدين إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون (1343 – 1345م) إلى أن أصبح في عهد أخيه الصالح زين الدين حاجي أحد الأمراء ممن بيدهم الحل والعقد في الدولة المصرية آنذاك، ثم زادت وجاهته خلال فترتي حكم الناصر حسن بن الناصر محمد الأولى من (748هـ/1347م) إلى (752هـ/1351م) والثانية من (755هـ/1354م) إلى (762هـ/1361) وما لبث أن جعله دوادار دولته ثم ولاه نيابة حلب.
ورغم مكانة القصر التاريخية فإنه وقع أسير موجات متتالية من الإهمال من كل أنظمة الحكم التي مرت على الدولة المصرية على مدار مئات العقود، الأمر الذي أنهى به الحال إلى مجرد ساحة لعرض الأنشطة الفنية والموسيقية بعدما كان مملكة الثقافة والحضارة وقبلة المريدين في الدولة المملوكية.
مكانة تاريخية
يتمتع القصر بمكانة تاريخية كبيرة، بدءًا باختيار موقعه المميز الذي لم يكن بالطبع وليد الصدفة، إذ تم اختيار واحد من أهم شوارع مصر في هذا الوقت، وقد بني القصر على أنقاض بيوت اشتراها الأمير طاز من أهلها أو أخذها عنوة، فيما أشرف الأمير منجك على عمارة القصر بنفسه وفق ما ذهبت بعض المصادر.
تمتع القصر في ظل ما يشهده من موقع مميز بالعديد من الخصائص التي لم تتوافر لغيره من المعالم الأخرى، فقد أهله ذلك لمراقبة الحياة السياسية بمصر والمشاركة في أحداثها، فهو الأول من نوعه الذي نزل السلطان من مقر حكمه لافتتاحه، وقد كانت سابقة لم تحدث من قبل.
كما شهد القصر العديد من الأحداث التاريخية المهمة في تلك الفترة، لا سيما تلك التي توالت لإزاحة المماليك وتولية السلاطين أبناء الناصر محمد بن قلاوون، هذا بخلاف الفتنة التي كانت بين المماليك السلطانية ومماليك الأمير الكبير جارقطلوا، على رأسها التي وقعت عام (896هـ/1489م).
مع مرور الوقت لم يتبق من هذه المباني جميعها سوى الواجهتين الرئيسية المطلة على شارع السيوفية والخلفية المطلة على حارة الشيخ خليل وهي التي بدأ منها الانهيار والمقعد الذي تم تجديده في عهد علي أغا دار السعادة
تلك الفتنة التي تعود إلى ضرب المماليك الجلبان بعض مماليك الأمير جارقطلوا الذي دافع عن نفسه، ما أسفر عن شج رأس أحد المماليك السلطانية فتجمعوا على المملوك الذي هرب إلى دار أستاذه (قصر طاز) واحتمى به وتجمع المماليك وترددوا على باب طاز أكثر من مرة وسار الخوف في كل مكان بشارع السويفية من وقع الفتنة.
حينها عم الخوف والقلق دروب وشوارع المنطقة بالكامل، لا سيما بعد تجمع المماليك أسفل القلعة واتفقوا على قتل جارقطلوا ومماليكه، إلا أن الأخير احتمى بالقصر الذي كان عصيًا على هجمات الجلبان، الأمر الذي فسره المؤخرون فيما بعد أنها دليل واضح على مناعة قصر طاز وقوته رغم شراسة الهجوم.
القصر تحول فيما بعد إلى قبلة لوجهاء مصر المعزولين عن الحكم، من الباشوات وكبار رجال الدولة، وكان مقرًا لاستضافتهم بعد انتهاء ولايتهم، ففي عام (122هـ/1709م) نزل باشا مصر الوزير خليل بالقصر، كما نزل به أيضًا ولي باشا المتولي لباشوية مصر عام (123هـ/ 1713م).
القصر من الداخل
لوحة معمارية
يعد القصر أحد أكبر القصور مساحة في مصر، إذ تبلغ مساحته قرابة 8 آلاف متر مربع، ويأخذ شكل الفناء الكبير المحاط بأربع جهات رئيسية، يتخلله حديقة كبيرة وجناح الحرملك والمقعد أو المبنى الرئيسي المخصص للاستقبال والإسطبل، بخلاف بعد الملاحق التابعة الأخرى.
المدخل الرئيسي للقصر كتلة متماسكة تبدأ بممر مستطيل له باب خلفي، في نهايته قبو على جانبيه مدخلان يفتح كل منهما على فناء مستطيل هو صحن القصر وهذا المدخل الكامل يطل على شارع السيوفية، إضافة إلى مدخل فرعي آخر يطل على حارة الشيخ خليل وصفته الكتابات والوثائق القديمة بأنه باب سر القصر.
ويوجد كذلك قاعة سفلية للقصر جدرانها مغطاة بطبقة من الجص الذي يناسب الحجارة التي بنيت بها القاعة في الأصل، أما الجزء الخاص بالحرملك فهو يطل على الفناء أو الحديقة بمجموعة من الشبابيك المصنوعة من الخشب البغدادلي التي تعد تحفة فنية فريدة وتعلوها ثلاثة شبابيك مستديرة وهي التي تعرف بالقمريات وبالقصر إيوانان أحدهما في الجهة الشمالية والآخر في الجهة الجنوبية والإيوان الشمالي مربع يغطيه سقف ذو زخارف هندسية ونباتية كما أن به شريطًا كتابيًا.
استقر الحال بأحد أهم المعالم الأثرية التي كانت شاهدة على تاريخ مصر المملوكي إلى مسرح مؤجر لعرض الأعمال الفنية وإجراء المسابقات وتعليم الأناشيد
أما صالة الاستقبال أو كما تسمى بـ”المقعد” فهي عبارة عن مستويين يربط بينهما سلم وهو في كل من مستوييه عبارة عن مساحة مستطيلة تطل على الفناء بما يشبه التراس القائم على ثلاثة أعمدة من الخشب الخرط ويوجد أسفل السقف إزار خشبي يحتوي على كتابات نسخية للآيات الأولى من سورة الفتح وملحق بهذا المقعد ثلاث قاعات مليئة بالزخارف الهندسية.
ومع مرور الوقت لم يتبق من هذه المباني جميعها سوى الواجهتين الرئيسية المطلة على شارع السيوفية والخلفية المطلة على حارة الشيخ خليل وهي التي بدأ منها الانهيار والمقعد الذي تم تجديده في عهد علي أغا دار السعادة صاحب السبيل والكتاب الملحقين بالقصر وجزء صغير من قاعات الحرملك فضلاً عن القاعات المستحدثة التي استخدمت كمخازن أو قاعات دراسية في عصور لاحقة.
بعض الأنشطة الترويجية داخل القصر
تاريخ من التشويه
في الحقبة الخديوية وبعد مرور ما يقرب من 500 عام على تدشين القصر حولته الحكومة آنذاك إلى مدرسة للبنات بإيعاز من علي باشا مبارك أحد رواد التنوير في هذا الوقت، لكن الأمور سرعان ما تبدلت، فلم يمض وقت طويل على هذا التحول حتى أخلت وزارة التربية والتعليم القصر وحولته إلى مخزن للكتب الدراسية والعربات التي تم تكهينها.
تعرض القصر لتلفيات كبيرة خلال زلزال 1992 إلا أن أحدًا لم يحرك ساكنًا لإنقاذه، وفي مارس 2002 انهار الجدار الخلفي المطل على إحدى الحارات السكنية المتهالكة، ما زاد من صعوبة الأمر، إلا أن العديد من الأجهزة والكيانات المعنية بترميم الآثار سارعت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وبالفعل بدأت عمليات الترميم تحت رعاية وزارة الثقافة في محاولة لاستعادة القصر عافيته مرة أخرى بعدما داخل غرف الإنعاش بصورة رسمية، وبعد سنوات طويلة من العمل المتأرجح بين الاستمرار والتوقف، بسبب مسائل مالية وإدارية وفنية، بدأ القصر يتعافى بصورة نسبية، هذا بخلاف العديد من الاكتشافات الأثرية التي صاحبت عملية الترميم.
وحاليًّا تحول القصر إلى ساحة للأنشطة الفنية، حيث تقام فيه العديد من الحفلات الموسيقية فضلاً عن ورش العمل للأطفال كالرسم والغناء والنحت وبعض الندوات واللقاءات السياسية بعد ثورة 25 يناير، كما تم تدشين مدرسة بداخلة لتعليم فن الإنشاد الديني.
وهكذا استقر الحال بأحد أهم المعالم الأثرية التي كانت شاهدة على تاريخ مصر المملوكي إلى مسرح مؤجر لعرض الأعمال الفنية وإجراء المسابقات وتعليم الأناشيد، في جريمة جديدة تضاف إلى سجل طويل من التغول على المعالم الأثرية في مصر المحروسة.