لعل أبرز الشخصيات التي برعت في مجالي العلوم والفنون خلال ازدهار الإمبراطورية العثمانية، هو الرسام والمؤرخ وراسم المنمنمات والجغرافي وعالم الرياضيات مطرقجي نصوح، أحد عباقرة القرن الـ16 الذي يشبهه الأتراك دائمًا بفنان عصر النهضة الأوروبية ليوناردو دافنشي.
هو ابن عبد الله قرة جوز الذي ولد حسب أغلب المصادر عام 1481، ويعود أصله إلى بلدة “فيسيكو” في ولاية البوسنة التابعة للإمبراطورية العثمانية آنذاك، وبحسب الباحثة التركية رقية أرجين، فإنه تلقى تعليمه في مدرسة القصر العثماني المعروفة بـ”أندرون”.
وإلى جانب براعته في فنون الكتابة والترجمة التي جعلته كاتبًا في قلم الديوان الكبير، برع أيضًا في فنون الفروسية، وأطلق عليه مطرقجي لمهارته في لعبة المطراق العثمانية الشهيرة، وهي المبارزة بدروع مغلفة بالجلد، يستخدمها الفرسان في التدريبات العسكرية.
ووفق بعض المؤرخين فإن مطرقجي نصوح هو الذي أوجد هذه اللعبة، حيث ذكر جلال زاده مصطفى في كتابه “طبقات الممالك ودرجات المسالك”، أنه كان من أبرز الذين لعبوا هذه اللعبة في المراسم التي أقامها السلطان سليمان القانوني، في حفل ختان أبنائه الأمراء مصطفى ومحمد وسليم، كما صمم في نفس هذه المراسم حصونًا متحركة على شكل أبراج، وقلده السلطان وسام كبير المحاربين.
حظي مطرقجي نصوح بمكانة رفيعة في الإمبراطورية العثمانية، حيث عاصر اثنين من أبرز سلاطين الإمبراطورية وهما: السلطان سليم الأول وولده السلطان سليمان القانوني، وأرّخ لهما، وقد رافق السلطان القانوني في العديد من رحلاته وفتوحاته، وسجل ذلك في عدة كتب مليئة بالصور والخرائط والنصوص المهمة التي تتضمن تفاصيل عديدة من عهد الإمبراطورية العثمانية في أزهى عصورها.
رسم مطرقجي صورة حية لتحرك الجيش العثماني منذ أن خرج من أوسكدار حتى وصل إلى تبريز ومنها إلى بغداد، كما صوّر استقبال علماء وأعيان بغداد للسلطان القانوني
تمزج هذه الكتب بين ما بات يُعرف بأدب الرحلات وتسجيل وقائع الفتوحات العسكرية، فمثلاً في كتابه “بيان سفر منازل العراقين للسلطان سليمان خان”، الذي ترجمه العراقي صبحي ناظم توفيق بعنوان “رحلة مطراقي زاده”، وصف مطرقجي نصوح وقائع حملة السلطان سليمان لضم بغداد وتبريز التي سيطر عليها شاه إيران طهسامب بن إسماعيل الصفوي.
رسم مطرقجي صورة حية لتحرك الجيش العثماني منذ أن خرج من أوسكدار حتى وصل إلى تبريز ومنها إلى بغداد، كما صوّر استقبال علماء وأعيان بغداد للسلطان القانوني، وإلى جانب وصفه الدقيق للطرقات التي سلكها الجيش العثماني التي تربط مدن الشرق المركزية آنذاك، وإثباته للمسافات بينها بالفرسخ، فإنه صور أيضًا بشكل دقيق الطبيعة والقرى وأنواع الحيوانات، وأشكال المنازل والحصون والممرات الجبلية والأدوات المستخدمة في الحرب، ويقدم الكتاب صورة طوبغرافية لأوجه الحياة في ذلك العصر، لذلك يعد وثيقة مهمة على عدة مستويات.
وقد ذكر الباحث حسان قاسم في بحثه المعنون بـ”مآذن بغداد: شواخص للهوية العمرانية” أن أقدم رسم توثيقي يصف بعض معالم بغداد فهي المنمنمة التي رسمها مطرقجي نصوح الذي رافق السلطان سليمان القانوني في أثناء زيارته لبغداد عام 1534، التي يظهر خلالها بوضوح هيمنة القباب والمآذن.
وفي كتابها المعنون بـ”التصاوير العلمية في المخطوطات العثمانية”، ذكرت الباحثة هيام قشطة المختصة في المخطوطات العلمية العثمانية المصوّرة أن “مطرقجي نصوح في كتابه “بيان سفر منازل العراقين للسلطان سليمان”، المحفوظ بمكتبة إسطنبول، اتبع في رسومه أسلوبًا جمع بين طريقة التعبير الموضوعي كما هي في الخرائط، وبريق المنمنمات في الزخرفة، وذلك عند وصفه للمعسكرات والمواقع الحربية والمدن التي اجتازها السلطان، كما أنه صور لنا لقطات لدور السكنى والحصون والمزارع والأنهار والجسور والجبال، وجاءت صور هذا المخطوط خالية من العنصر البشري وإن اشتملت أحيانًا على صور لحيوانات وسفن، وللحق فإن ألوان هذا الفنان جاءت زاخرة بالحياة، وهي على جانب كبير من الأهمية، حيث تعد وثائق للأماكن الواردة بها لا سيما بعد اندثار بعضها الآن”.
يذكر الباحث داوود إركان في بحثه عن مطرقجي نصوح، أنه شارك أيضًا في حملة الأسطول العثماني بقيادة خير الدين بربروس على ميناء نيس الفرنسي
وفي هذا السياق، كتب مطرقجي نصوح أيضًا عدة كتب أخرى مثل “فتح نامه قرة بغدان” عن فتح بلاد البغدان وهي ما صارت تعرف اليوم بجمهورية مولدوفا وفتح بلغراد، وصور مطرقجي نصوح كل ما صار في هذه الفتوحات، منذ انطلاق الجيش العثماني مرورًا بتفاصيل الحرب حتى العودة إلى القسطنطينية.
ويذكر الباحث داوود إركان في بحثه عن مطرقجي نصوح، أنه شارك أيضًا في حملة الأسطول العثماني بقيادة خير الدين بربروس على ميناء نيس الفرنسي، في أثناء التحالف العثماني الفرنسي بعد أن طلب الملك فرانسوا مساعدة السلطان سليمان القانوني في حربه ضد ملك إسبانيا، وأن مطرقجي نصوح سجل العديد من الكتابات والرسوم عن هذه الرحلة وتفاصيل الحرب البحرية.
ولمطرقجي نصوح كتاب أيضًا في فنون الفروسية واستخدام الأسلحة، بعنوان “تحفة الغزاة” وأرفقه بالعديد من الرسوم التوضيحية للسيوف والأسهم والأقواس، بالإضافة إلى تكتيكات المعارك من أجل إرشاد المحاربين، كما تناول أيضًا طرق استخدام السلطان سليمان ووزيره الأعظم إبراهيم باشا للأسلحة.
تم إدراج مطرقجي نصوح على قائمة اليونسكو كأحد أهم الشخصيات التي ساهمت في إثراء الحضارة العالمية، ومنذ عام 2008 اعتبرت وزارة الشباب والرياضة التركية، “المطراق” لعبة قومية وتنظم الوزارة دورات لتعليمها
وذكر الباحث حسين غازي يوردايدن في كتابه عن مطرقجي نصوح، أنه برع في علوم الرياضيات أيضًا، حيث وضع في هذا الحقل كتابًا بعنوان “جمال الكتاب وكمال الحساب” وألفه للسلطان سليم الأول، وتناول فيه العمليات الحسابية والأرقام الهندية والجذور، كما ألف بعد ذلك كتابًا آخر هو نسخة موسعة عن كتابه الأول، وتوجد نسخة من الكتاب في مكتبة جامعة إسطنبول.
وبحسب الباحث نفسه فإن السلطان سليمان طلب من مطرقجي نصوح بحكم معرفته بالعديد من اللغات أن يترجم كتاب “تاريخ الطبري”، وترجمه بالفعل مع إضافة تاريخ الدولة العثمانية حتى عهد القانوني، وسماه “مجمع التواريخ”، ويختلف الباحثون بشأن كتاب “سليمان نامه” الذي يتضمن وقائع السلطان القانوني، فبعضهم ذهب إلى أنه أحد الفصول التي أضافها مطرقجي لترجمة تاريخ الطبري، والبعض الآخر يرى أن مطرقجي ألفه بشكل مستقل.
وأخيرا فإنه يلاحظ أن مطرقجي نصوح على كثرة الرسوم التي وضعها في كتبه عن الفتوحات والرحلات، إلا أنه تجنّب رسم البشر، ومن الوارد أن ذلك يعود لأسباب دينية، رحل مطرقجي نصوح عام 1564 تاركًا العديد من الآثار التي ما زالت تشغل الباحثين حتى الآن، وتُقام المعارض الآن بشكل مستمر في تركيا والعديد من الدول الأخرى لرسومه ومنمنماته.
كما تم إدراج مطرقجي نصوح على قائمة اليونسكو كأحد أهم الشخصيات التي ساهمت في إثراء الحضارة العالمية، ومنذ عام 2008 اعتبرت وزارة الشباب والرياضة التركية، “المطراق” لعبة قومية، وتنظم الوزارة دورات لتعليمها.