من رحم مدينة وهران الباهية بأزقتها الشعبية ذات الطابع الأندلسي، ومن عمق المجتمع الجزائري البسيط، ولد مسلسل “أولاد الحلال” الذي لاقى روجًا لافتًا وأثار تفاعلاً منقطع النظير على منصات التواصل الاجتماعي، حيث فاقت مشاهدته على موقع يوتيوب وحده أكثر من 50 مليون مشاهدة منذ بداية بثه في شهر رمضان، ليسجل اسمه بحروف من ذهب في تاريخ الدراما الجزائرية، ويبث فيها روحًا جديدة، بعدما كانت تتخبط في مستنقع التقليد الأعمى والتكرار الممل الذي دفع بالمتلقي للنفور نحو أعمال أجنبية، بعيدة كل البعد عن واقع المجتمع الجزائري، وهو ما أدى بالكثير من المتابعين والنقاد للتساؤل عن مستقبل الدراما الجزائرية بعد مسلسل أولاد الحلال وما إن كانت ستشهد ولادة جديدة ونقلة جديرة بأن تكون المرآة العاكسة لحياة الجزائري بكل ما تحمل من تناقضات؟
محاكة الواقع المعاش
يلامس سيناريو مسلسل أولاد الحلال الذي كتب بأنامل تونسية للكاتبة رفيقة بوجدي وعولج بعقلية جزائرية من طرف المخرج عبد القادر جريو، الواقع الذي تعيشه العائلات الجزائرية بشكل يومي في الأحياء النائية، حيث تدور جل أحداثه في حي الدرب العتيق بمدينة وهران (غرب الجزائر العاصمة)، المعروف بقسوة الحياة فيه حيث يلوذ سكانه بين الفينة والأخرى إلى أكواخ قصديرية تحميهم من غضب الطبيعة، وتضطر الأمهات لبيع أغراض بالية على طول الأرصفة لسد رمق أبنائهن.
في هذا الحي الذي نعته مخرج أولاد الحلال نصر الدين السهيلي بالإستوديو الطبيعي تدور قصة مرزاق وزينو، شابان يبحثان عن أصولهما التي افتقداها مع وفاة أمهما في صغرهما. هذه الرحلة الشاقة التي سيحملها بطل المسلسل مرزاق – الولد الأكبر – على عاتقه، التي تتخللها يوميات نهب وتعاطٍ للمشروبات الكحولية، تؤدي بالأخوين لاكتشاف سبب مقتل أمهما من والدهما، بعد تشكيكه في سيرتها، ليستمر الأخوان في رحلة البحث عن بقية أفراد العائلة، لإثبات شرفهما وشرف أمهما التي قتلت غدرًا.
في مقابل هذه القصة التي يقوم على أساسها المسلسل، تظهر قصص أخرى موازية لا تقل شأنًا عن قضية التشكيك والخيانة الزوجية، تنقل مآسي العائلات الجزائرية التي تسكن تلك الأحياء العشوائية، حيث نرى قضية السحر والشعوذة التي أصبحت تشغل بطريقة عجيبة، شريحة كبيرة من هذا المجتمع، من خلال قصة مليكة وخالد.
من جهة أخرى، تظهر قضية التعنيف في الحياة الزوجية التي تتجلى في حياة توفيق وزوجته التي يعنفها ليلاً ونهارًا لأسباب تافهة، إضافة لقضية النساء الأرامل وعمالة الأطفال التي طغت على هذا العمل بشكل واضح.
أولاد الحلال، في جوانبه المتعددة، وبعيدًا الحياة العاصمية المبتذلة والقصور الفاخرة التي لا يعرفها الجزائري إلا في منامه، لاماس الواقع كما هو، بحلوه ومره، كما تطرق للقضايا المسكوت عنها في المجتمع الجزائري
الخروج عن المألوف
ربما ما ميز هذا العمل عن غيره من الأعمال الدرامية، تنصله من النمطية التى غلبت على الدراما الجزائرية في السنوات الماضية، فأولاد الحلال، في جوانبه المتعددة، وبعيدًا الحياة العاصمية المبتذلة والقصور الفاخرة التي لا يعرفها الجزائري إلا في منامه، نقل الواقع كما هو، بحلوه ومره، كما تطرق للقضايا المسكوت عنها في المجتمع الجزائري، بما في ذلك قضية المرأة التي تعتبر من القضايا الجوهرية التي يجب أن يلتفت إليها، خاصة أن الجزائر تشهد بعد حراك 22 من فبراير الشعبي، تغيرات مهمة واكتساب للحريات على جميع الأصعدة، ينبغي أن تشمل مثل هذه القضية المفصلية في مستقبل الشعوب. فحقوق المرأة وكرامتها التي يجب استرجاعها، لا تقل شأنًا عن الحقوق السياسية التي سلبت من هذا الشعب.
من جهة أخرى، نقل هذا العمل، حياة الجزائري بكل ما تحمل من تناقضات، فما حياة الأخوين “مرزاق وزينو” إلا عينة من التناقض التي تعيشها الذهنية الجزائرية في مواجهة المقدسات الدينية، فحياة أولاد الحلال قاسية ومليئة بالممنوعات الدينية والقانونية، من شرب للخمر ونهب لرجال الأعمال واعتداءات، غير أنها تبدو شرعية إلى حد ما، لأنها تستند في المقابل إلى مبادئ إنسانية من دفاع عن المظلومين ونهي عن المنكر وإحقاق للحق في أحياء يأكل القوي فيها الضعيف، كل هذه الخصال قد يفتقدها الكثير من أدعياء التدين والالتزام.
من دون شك، أن هذا العمل الدرامي الجاد البسيط في طرحه وميزانيته، ورغم ما شابه من نقائص، نجح في تخليد صورة المجتمع الجزائري، في حقيقته المعاشة، بلهجته المحلية الأصيلة، وبأحيائه الشعبية العريقة التي يسكن.
هذا النجاح – الذي يكاد يلاقي الإجماع – من شأنه أن يغير معالم الدراما الجزائرية ويعيدها – إن صح التعبير – إلى أمجاد الماضي، بشكل يواكب التغيرات التي يعرفها هذا المجتمع، في حين يبقى أكبر سؤال يؤرق المنتج والمشاهد الجزائري على حد سواء: هل سيكون لهذا العمل الدرامي القدرة الكافية لفك أسر الدراما الجزائرية من سجن رمضان؟