قبل أيام معدودة، رفضت قوى إعلان الحرية والتغيير في السودان دعوة المجلس العسكري إلى الحوار، مؤكدةً موقفها في مواصلة التظاهر والعصيان المدني، لا سيما بعد تدخل قوات الأمن السودانية بعنف لفض الاعتصام وترويع المواطنين في الشارع وقتل عدد منهم، وردًا على ذلك، شدد المعتصمون على متطلباتهم بهدف تحقيق “انتقال ديمقراطي”، بعد إطاحة الجيش بالرئيس عمر البشير في 11 من أبريل/نيسان.
ونتيجة لذلك، شُلت الحركة العامة في الأسواق والطرق والمنافذ الرئيسية، بما فيها الرحلات الجوية الداخلية والخارجية، وأعلن تجمع المهنيين الإضراب السياسي المفتوح في مراكز العمل الحكومية والخاصة، والتمسك بمبادئ التظاهر السلمي بشكل كامل، وذلك استكمالًا للانتفاضة الشعبية التي شهدتها البلاد منذ نهاية العام الماضي، أملًا في تغيير الأوضاع السياسية والاقتصادية المتدهورة التي قادتها حكومة البشير.
حراك سلمي وجماعي ضد القمع والعنف
يُنسب مصطلح “العصيان المدني” إلى الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي هنري دافيد ثورو الذي عارض السياسية الأمريكية مثل رفضه دفع ضريبة مخصصة لتمويل الحرب ضد المكسيك عام 1849، حين قال في كتابه الشهير “العصيان المدني”: “لو رفض ألف دفع ضرائبهم، فلن يكون هذا عملًا دمويًا خلافًا للدفع الذي سيمكّن الحكومة من مواصلة الحروب وإراقة الدم البريء، ها قد أصبحت الثورة السلمية ممكنة، وإن سألني جابي الضرائب ماذا أفعل؟ فسأقول له: استقل. وعندما يرفض المواطن الطاعة ويستقيل الموظف فإن الثورة تكون قد نجحت”.
شوارع الخرطوم خالية مع بدء العصيان المدني
إذ يُعرف هذا الأسلوب بأنه خرق متعمد وعلني وواعٍ للقوانين، رفضًا لتشريعات السلطة غير العادلة وأوامرها الظالمة التي تنتهك حقوق المواطنين وتخدم مصالحها في المقابل، يتم اتباعه وتنفيذه بشكل عام وسلمي وبقناعة كاملة، من أجل إحداث تغيير أو تعديل في سياسة الحكومة وتياراتها، وعادةً ما يتم الإضراب عن العمل أو الامتناع عن دفع الضرائب والرسوم الجمركية وغيرها من الالتزامات القانونية والمالية كوسيلة للتعبير عن العصيان والسخط الشعبي العام.
وكانت من أبرزها، حملات غاندي من أجل استقلال الهند عن الإمبراطورية البريطانية، وجنوب إفريقيا في مقاومة الفصل العنصري، والحركات المدنية التي قادها الزعيم الأمريكي مارتن لوثر، احتجاجًا على القوانين العنصرية للولايات الجنوبية في أمريكا، إضافة إلى إضراب 491 ألف شخص في فيتنام عن العمل في الموانئ والمصانع والمزارع تحديًا للاحتلال الأمريكي عام 1964.
السودان ليس التجربة الوحيدة في العالم العربي
أما فيما يتعلق بالمنطقة العربية، فلقد أثبتت هذه الحركة نجاحها مرتين، المرة الأولى في مصر حين اندلعت أول ثورة قومية عام 1919 ضد الاحتلال البريطاني الذي فرض الأحكام العرفية والتجنيد القسري على المصريين ورفض إطلاق سراح الزعيم المصري سعد زغلول، ما أثار سخط الشعب المصري بشكل أكبر ودفعه نحو اعتماد العصيان المدني والإضراب العام عن العمل والحركة وتسديد الالتزامات المادية، وأخيرًا، انتهى هذا العصيان بنجاح الثورة المصرية وإرغام بريطانيا على الإفراج عن سعد زغلول وإلغاء الأحكام العرفية وتوقيع معاهدة 1936 التي نصت على الاستقلال.
السودان أول دولة عربية تطيح بالحكم العسكري بقيادة الجنرال إبراهيم عبود، عام 1964 من خلال استخدام أداة العصيان المدني
يضاف إلى ذلك التجربة اليمنية، عندما اندلعت ثورة الشباب اليمنية عام 2011 وأعلن الثوار العصيان المدني الشامل، ما أدى إلى توقف الحياة العامة بشكل شبه كامل في 18 مدينة وبلدة يمنية، حيث توقفت حركة المواصلات وأغلقت المحال التجارية والمدارس والمؤسسات الحكومية وامتنع الشعب اليمني عن تسديد فواتير الكهرباء والمياه والضرائب، ضمن سلسلة الإجراءات التي اتخذتها المعارضة رفضًا لنظام الرئيس علي عبد الله صالح الذي حكم البلاد لأكثر من 33 عامًا.
ثورة أكتوبر في السودان عام 1964
أما السودان الذي يعيش هذه المرحلة في الوقت الحاليّ، لم تكن هذه المرة تجربته الأولى، فلقد فرضه على السلطات 4 مرات، وكان أول دولة عربية تطيح بالحكم العسكري بقيادة الجنرال إبراهيم عبود، عام 1964 من خلال استخدام أداة العصيان المدني في أثناء ثورة أكتوبر، كما أنه أطاح عام 1985 بالرئيس السوداني الراحل جعفر نميري، بهبة شعبية واسعة أنهت 16 عامًا من حكمه، وفي كلا النموذجين كان سلاحه الوحيد العصيان المدني الشامل بالتعاون مع اتحادات الطلبة ونقابات العمال والمؤسسات التعليمية والموظفين الحكوميين.
تكررت التجربة عام 2016، حين أعلن الأطباء وأصحاب الصيدليات إضرابهم عن العمل بسبب سوء ظروف عملهم، إلى جانب إعلان الحكومة ارتفاع أسعار الأدوية وإلغاء الدعم الحكومي للمحروقات، ما شجع الأوساط العامة الأخرى على الإضراب عن العمل والتعليم والقيام بنشاطات الحياة الاجتماعية اليومية، ما جعل العصيان المدني أكثر اتساعًا وشمولًا وتأثيرًا.
بالمحصلة، شهدت العديد من البلدان العربية مثل ليبيا والعراق وسوريا وفلسطين على ولادة هذه الحركات المتمردة والرافضة لأجندة وسياسات الأنظمة الظالمة، وتعددت أهداف ودوافع كل منها، ولكنها في الوقت نفسه حافظت على مبدأ المقاومة السلمية والدفاع عن حقوق الإنسان من الانتهاكات والإجراءات القمعية.
من جهة أخرى، يعتقد البعض أن العصيان المدني ارتبط دومًا بالثورات والهبات الشعبية، إلا أن الأحداث التاريخية تنفي جزء من هذا الاعتقاد، فعلى الرغم من أن الكثير من حركات وتجارب العصيان المدني ولدت من رحم الانتفاضات إلا أنها في حالات أخرى نتجت عن معارضة فردية أو جماعية محددة مثل إضراب سائقي الحافلات العامة أو عمال النظافة وغيرهم من موظفي الدولة والمراكز الخاصة الذين يحاولون من خلال هذا العصيان استرداد حقوقهم المنتهكة، بعيدًا عن الانتفاضات الشعبية الواسعة.