ترجمة وتحرير نون بوست
يسلّط الاعتذار العلني، الذي أدلى به أحد العلماء السلفيين، الضوء على نسخة “الإسلام المعتدل” التي يعتمدها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلى جانب استبدال الدين بالقومية المفرطة كمصدر لشرعيته.
في الواقع، يزعم عائض القرني، وهو أحد علماء الدين الأكثر شعبية في المملكة، أنه يتحدث باسم حركة الصحوة السعوديّة، إذ انشق عن الدعوة السابقة من أجل الإصلاح السياسي التي أطلقتها الجماعة المرتبطة بالإخوان المسلمين. وعوضا عن ذلك، أيّد بشدة فكرة الأمير محمد بن سلمان المتمثّلة في جعل الإسلام خاليا من التطرف.
في هذا الصدد، قال القرني، وهو يرتدي غطاء رأس أحمر وأبيض: “أود أن أعتذر للمجتمع السعودي عن التطرف، وانتهاك حرمة القرآن والسنّة، فضلا عن انتهاك قيم التسامح في الإسلام، والاعتدال والرحمة التي يدعو إليهما هذا الدين. وأنا أؤيد اليوم الإسلام المعتدل والمنفتح على العالم، الذي دعا إليه ولي العهد محمد بن سلمان”.
علاوة على ذلك، قدّم الاعتذارُ الذي أدلى به القرني أكثر من مجرد إعلان لدعمه للزعيم السعودي، إذ كان بمثابة المبرر الأيديولوجي لجهود الأمير محمد بن سلمان التي نجحت جزئيا في ضمان خضوع دول المنطقة لحكوماتٍ من اختياره، ورفض إدانة الاعتداءات على الإسلام مثل ما حصل في المقاطعة الإسلاميّة الواقعة شمالي غرب الصين، وحملة القمع داخل البلاد التي حكمت على بعض زملائه السابقين بالإعدام.
في الحقيقة، لم يكن القرني من بين العلماء المسلمين الذين احتجز معظمهم في حملة القمع في أيلول/سبتمبر سنة 2017، ولكن بعض الواعظين المصلحين الأكثر شعبية في المملكة مثل سلمان العودة وعوض القرني يعدّون من بين المعتقلين الذين يواجهون على الأغلب عقوبة الإعدام. وتشمل التهم الموجهة لهما، إلى جانب المؤلف والمذيع علي العمري، إثارة الفتنة العامة وتحريض الناس ضدّ الحاكم وحشد الدعم الشعبي لصالح المعارضين المسجونين فضلا عن ارتباطهم المزعوم بالإخوان وقطر. بالإضافة إلى ذلك، يقاطع التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات قطر اقتصاديًا ودبلوماسيًا منذ السنتين الماضيتين.
لم يقدّم القرني أي مساعدة لأي من زملائه السابقين من خلال التأكيد على حقيقة أن قطر كانت تموّل العلماء السعوديين. وفي هذا الصدد، قال القرني: “بالطبع يحصل الناس على المال، ويذهب السعوديون إلى قطر”
يُعتبر العمري سفير الأمم المتحدة السابق للنوايا الحسنة للشباب والإنسانية، وعضوا في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي أسسه الباحث، يوسف القرضاوي، والذي يتخذ من قطر مقراً له، ويُعتقد أن له تأثير روحي كبير بين صفوف جماعة الإخوان المسلمين. وقد برز تأييد القرني لولي العهد والتقارير التي تفيد باحتمال إعدام اثنين من زملائه، في ظلّ تركيز هيومن رايتس ووتش على مصير الشاب البالغ من العمر 18 سنة، مرتجى قريريص، الذي قد يواجه بدوره عقوبة الإعدام.
قُبض على قريريص عندما كان يبلغ 13 سنة لمشاركته، قبل ثلاث سنوات أي عندما كان يبلغ من العمر 10 سنوات، في احتجاج على الدراجات سنة 2011 في شرقيّ السعودية. ووجهت إلى قريريص تهمة الانتماء إلى جماعة إرهابية، والمساعدة في صنع الزجاجات الحارقة، وإطلاق النار على قوات الأمن والمشاركة في مظاهرة في جنازة شقيقه، الذي يزعم أنه قُتل في مظاهرة عنيفة.
في المقابل، لم يقدّم القرني أي مساعدة لأي من زملائه السابقين من خلال التأكيد على حقيقة أن قطر كانت تموّل العلماء السعوديين. وفي هذا الصدد، قال القرني: “بالطبع يحصل الناس على المال، ويذهب السعوديون إلى قطر”، رافضًا تحديد اسم الشخص الذي كان يشير إليه. من جهة أخرى، أكّد ما جاء في الكتاب الذي نُشر مؤخّرا في فرنسا بعنوان “أوراق قطر”، والذي يُزعم أنه يستند إلى وثائق لم تنشر إلى غاية اليوم، أن الدولة الخليجية تموّل العديد من المساجد والأفراد المرتبطين بالإخوان في أوروبا.
في شأن ذي صلة، يعيد مسلسل العاصوف (رياح التغيير) إعادة كتابة التاريخ من خلال أعين أسرة سعودية، ويلقي باللوم على حركة الصحوة بشأن بعض الأحداث التي شهدتها المنطقة، بما في ذلك الثورة الإيرانية سنة 1979، واحتلال المسلحين للمسجد الحرام في مكة خلال نفس السنة واغتيال الرئيس المصري أنور السادات سنة 1981 بسبب توقيعه معاهدة سلام مع إسرائيل.
من خلال وضع الخطوط الحمراء، سعى القرني إلى تقديم تبرير ديني لسياسات الأمير محمد، حيث، كان مفهوم ولي العهد عن الإسلام المعتدل، الذي يتضمن الطاعة المطلقة للحاكم، بمثابة خط أحمر
تماشيا مع تأكيد الأمير محمد بأن المملكة العربية السعودية كانت قد اعتنقت شكلا أكثر اعتدالا من الإسلام قبل الأحداث التي جدت سنة 1979، يشير مسلسل العاصوف إلى أن سياسة حركة الصحوة المحافظة والمتشددة التي عززتها عداوتها تجاه الغرب ومواقفها المناهضة للنساء، أثّرت على جيل كامل من السعوديين.
بالإضافة إلى الاعتذار الذي قدمه القرني ورسالة العاصوف، تراجع عادل الكلباني، الإمام السابق للمسجد الحرام وعضو المؤسسة الدينية المحافظة في المملكة والذي عرف بصراحته وتمتلاكه لحساب على تويتر يضم سبعة ملايين متابع، عن تصريحاته السابقة التي أيدت فرض قيود صارمة على حقوق المرأة واستنكرت وصف الشيعة بالمرتدين. فضلا عن ذلك، ندد الكلباني بالفصل بين الجنسين في المساجد ووصفه بأنه “نوع من الإرهاب” في تحدٍ لما تصنّفه المملكة بالمحظور، بحجة أنه في عهد النبي محمد صلى كان الرجال والنساء يصلون جماعة.
في هذا السياق، صرح الكلباني قائلا: “لسوء الحظ أصبحنا في الوقت الراهن نشعر بالريبة حتى عندما نكون داخل أروقة المسجد، حيث يبدو الأمر يبدو كما لو كانت النساء متواجدات داخل حصون ومعزولات تمامًا عن الرجال، ولا يرونهم أو يسمعونهم إلا من خلال الميكروفونات أو السماعات”.
من خلال وضع الخطوط الحمراء، سعى القرني إلى تقديم تبرير ديني لسياسات الأمير محمد، حيث، كان مفهوم ولي العهد عن الإسلام المعتدل، الذي يتضمن الطاعة المطلقة للحاكم، بمثابة خط أحمر. وفي هذا الصدد، صرح الكلباني قائلا: “لقد تعهدت بالولاء وأقسمت بالقرآن والسنة. كما ذهبت في ليلة السابع والعشرين من أيار/مايو إلى مكة وتعهدت بالولاء لمحمد بن سلمان. وفي حال أعلنت الولاء، فإنك ستتعهد بالالتزام به في كل الأحوال… وأنا أعلن من هذا المنبر أنني أحد سيوف الدولة”.
من جهة أخرى، وتأكيدا على استهداف إيران للمملكة العربية السعودية، بدا تعريف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والإخواني القرني للسعودية على أنها خط أحمر، يتعرض مع مبادئ الصحوة واعتناق السعودية في الماضي لمفهوم الأمة في الإسلام بصفتها المجتمع العالمي للمؤمنين.
مفهوم الأمير محمد عن الإسلام المعتدل مثّل شكلا من أشكال الإسلام السياسي المحافظ الذي يهدف إلى تعزيز نظامه الاستبدادي بدلا من الإصلاح الديني.
على حد تعبير الباحث السعودي، ريحان إسماعيل، كان القرني يرفض فكرة الأمة باعتبار أنها “تقوض أولوية الدولة القومية”. وكان القرني يحاول توفير غطاء ديني لتأييد الأمير محمد للحملة التي تشنها الصين على المسلمين الذي، الأمر الذي بدا جليّا خلال زيارته لبكين في بداية سنة 2019، بالإضافة إلى دعمه الواضح للخطة الأمريكية لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني التي يرجح انحيازها لصالح إسرائيل وإنكارها لتطلعات الفلسطينيين.
من جهته، أشاد وزير الدولة للشؤون الخارجية في الإمارات العربية المتحدة، أنور قرقاش، بالاعتذار الذي قدمه القرني ووصفه بالخطوة المهمة نظرا لأنهم “بصدد القطع مع مرحلة التطرف وتوظيف الدين لأغراض سياسية”. علاوة على ذلك، سلطت تعليقات قرقاش الضوء على الاختلافات في النهج الذي يتبعه كل من ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد ونظيره السعودي تجاه الإسلام. والجدير بالذكر أن الأمير الإماراتي كان مناهضا للإسلام السياسي مقارنة بنظيره السعودي، فقد كان الداعم للقوات المعادية للإسلاميين في الدولتين الخليجيتين وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وعلى الرغم من أن سياسته قد وصفت أنها تفصل بين حاضر وماضي المملكة العربية السعودية الذي شهد انتشار جماعات متطرفة اتهمها النقاد بالمساهمة في توليد أسباب العنف، إلا أن مفهوم الأمير محمد عن الإسلام المعتدل مثّل شكلا من أشكال الإسلام السياسي المحافظ الذي يهدف إلى تعزيز نظامه الاستبدادي بدلا من الإصلاح الديني.
في السياق نفسه، أكد الباحث السعودي المنشق، مضاوي الرشيد، أن قرار المملكة الذي تم على إثره انعقاد ثلاثة مؤتمرات على غرار قمة خليجية وعربية وإسلامية خلال شهر رمضان المبارك في مدينة مكة المكرمة “ليس سوى مثالا عن الإسلامويّة المطلقة”. وقال الرشيد إن هذه القمم كشفت “التناقض في دعوة السعودية الأخيرة لحظر وتجريم الإسلامويّة. والجدير بالذكر أن المؤتمرات الثلاثة لم تُعقد لمناقشة المسائل العقائدية، وإنما لطلب الدعم لملك المملكة العربية السعودية خلال الأزمات السياسية الخطيرة والمثيرة للجدل”
المصدر: مودرن ديبلوماسي