ربما كانت قضية المختفين قسريًا على مدار 13 عامًا، واحدة من أبرز الملفات الإنسانية والحقوقية في الثورة السورية، والتي أخذت حيزًا كبيرًا من الجهد والعمل والبحث المستمر، لكنها اليوم باتت مهمة جسيمة بعد سقوط النظام في 8 ديسمبر/كانون الأول، وفتح السجون على مختلف أنواعها لإخراج المحتجزين داخلها.
ومع سقوط النظام السوري، ازدحمت الشوارع أمام السجون بأهالي المفقودين والمعتقلين، حاملين وجوه أحبائهم في صور مهترئة، وقلوبهم مثقلة بالانتظار، وعيونهم تفيض بالترقب.
كانت الخطوات تروي قصصًا أليمة، بينما الحناجر تتمتم بأسماء غابت طويلًا، أما المشاعر، انقسمت بين فرحٍ بالإفراج عن المعتقلين وزوال الطاغية، وخيبة أمل وحزن شديد لآلاف العائلات التي كانت تأمل في إيجاد ذويها على قيد الحياة.
وعلى مدار أيام احتشد الأهالي داخل ومحيط سجن صيدنايا، الملقب “بالمسلخ البشري” أو “الثقب الأسود”، آملين أن تكشف الزنازين المظلمة والسراديب المخفية عن بقايا حياة لأحبائهم المفقودين، لكن الكثيرون عادوا بخيبة مريرة، بلا أي أثر لمن فقدوا، ولا حتى قبر يطفئون فيه نيران حزنهم بالبكاء.
خبر وفاة أهون من سراب الانتظار
في قلب دمشق، حيث تسكن الذكريات على جدران الأزمنة، تحولت ساحة المرجة إلى محطة أمل ووجهة لعائلات تبحث عن أحبائها المفقودين، أولئك الذين ربما خرجوا من ظلمات السجون ليتيهوا بين أزقة الأحياء، وأروقة المشافي، أو حتى الحدائق، إما لفقدانهم الذاكرة وعدم تذكرهم لأسمائهم أو عناوينهم، أو لانقطاع التواصل مع ذويهم، أو بسبب تدهور حالتهم الصحية.
تارة ترى أبًا يحمل صورة ابنه المعتقل ويبحث عنه في الشوارع، وتارةً ترى أمًا جالسة على قارعة الطريق تتأمل وجوه المارة، كأنها تبحث في ملامحهم عن بقايا وجهٍ لطالما حلمت برؤيته مجددًا.
مع بدء سيطرة المعارضة السورية على حلب وبعدها حماة وحمص وتقدّمها ضمن عملية “ردع العدوان”، كانت آية، تنتظر معرفة مصير أبيها المغيب في سجون النظام منذ عام 2013، دون أي أنباء عنه أو عن مصيره.
تقضي آية معظم أيامها مؤخرًا في البحث عبر مواقع التواصل الاجتماعي عمّا قد يقودها لمعرفة مصير أبيها، سواء في سجن صيدنايا أو المشافي، كما بحثت بين صور الجثامين والمعتقلين فاقدي الذاكرة، وصفحات المفقودين، لكن دون جدوى.
اعتقل والد آية، مروان سعدو، على حاجز البصة في ريف اللاذقية، دون أن تعرف العائلة التهمة الموجهة إليه أو السبب الذي قاد إلى اعتقاله. ورغم محاولات العائلة المستمرة بالبحث عنه، ودفع مبالغ كبيرة لأي جهة قد تزرع الأمل في قلوبهم لمقابلته، لم يتمكنوا من معرفة أي شيء يطمئنهم حتى اللحظة.
في عام 2015، أكدت لهم مصادر موثوقة أنه موجود في سجن “صيدنايا”، وفي عام 2022، وكلّت العائلة محاميًا، ليخبرهم لاحقًا أنه في صيدنايا قسم (السجن الأحمر)، لكنهم لا يعرفون مدى صحة هذه المعلومات.
ظل الأمل يرافق آية وعائلتها بأن والدها ما زال على قيد الحياة محبوسًا في هذا السجن الوحشي، فلم يأتهم خبر يؤكد وفاته.
تقول آية لـ”نون بوست”، إنها لم تكن يومًا ممن يتابعون الأخبار، لكن منذ بدء عملية “ردع العدوان” وتحرير حلب، تغيّر كل شيء، وبدأت تسمع عبارات مثل “متابعين حتى نصل إلى الشام، كان الأمل الذي ظننته قد مات يسري في عروقي من جديد”.
وتضيف: “عشت أيامًا لا تفارقني فيها شاشة الهاتف، ولا التلفاز كنت أبحث في كل صورة، أُعيد تشغيل كل مقطع فيديو مئات المرات، أترقب اللحظة التي أسمع فيها اسم أبي أو أراه بين الوجوه، ومع كل خطوة جديدة في تحرير السجون، كان الأمل بوجود أبي بين الوجوه يتفاقم أكثر، تخيلتهم وهم يتقدمون نحو صيدنايا، إلى ذلك المكان الذي لطالما بدا لي كجحيمٍ لا نهاية له”.
وتابعت “حين بدأت أخبار تحرير حمص تتوالى، شعرت أن الزمن توقف، لم أكن قادرة على فعل شيء، كأن حياتي كلها تجمدت في تلك اللحظة، انتظار مرير، بدا لي كل يوم كأنه عام، والساعات تمضي بثقل لا يطاق. كنت أطرح أسئلة لا تنتهي على زوجي، أسئلة لا أجد لها إجابات تهدئ قلقي، هل من يقومون بعملية “ردع العدوان” عددهم كبير؟ كم عددهم؟ هل من المعقول أن يتمكنوا من الوصول لدمشق؟”.
“كان قلبي معلقًا بين الأمل والخوف، بين انتظار النهاية التي ربما تحمل معها معجزة، ورهبة أن ينتهي كل شيء دون أن أجد ضالتي. أراقب الأخبار كمن يبحث عن قطرة ماء وسط صحراء شاسعة، لكن الوقت كان يخدعني، يطيل انتظاري، ويثقل أيامي بوهمٍ من أمل لم أكن أعرف إن كان سيأتي”.
خرجوا، ولكن أبي…
تقول آية: “لم أتخيل أبدًا أن تلك اللحظة التي انتظرتها بأمل كبير ستتحول إلى أكثر لحظات حياتي إيلامًا، السجناء خرجوا، ولكن أبي لم يكن بينهم، لم يكن موجودًا، لم أر وجهه الذي يسكن قلبي بين الحشود! كان الألم يتصاعد في صدري أكثر، ومع كل مقطع مصور كان يعرض ولا أرى فيه وجه أبي وأشاهد وجوه المعتقلين المنهكة، وأرى أدوات التعذيب وطرق إخفاء المعتقلين والتخلص من جثثهم أفقد أملي”.
“بدأت أبحث في كل ما يُنشر وأرسل صورته إلى الجروبات، وأبحث بين أسماء الذين أعدموا ميدانيًا أو تحت التعذيب أو بسبب الأمراض، حاولت العثور على أي أثر، حتى أدركت أنه لا أحد من الذين اعتقلوا بين 2011 و2015 قد نجا، وتمت تصفيتهم جميعًا بطريقة ما”.
أسئلة راودت آية خلال الأيام الماضية “كيف قتل؟ على يد من؟ هل بمرض؟ هل عذبوه كثيرًا؟ هل يعقل أنهم اقتلعوا عينيه الخضراوين؟ حرقوه؟ ولا دوبوه بالأسيد؟ من سيخرج هذه الأسئلة من رأسي؟ من يعطيني إجابة عنها، في النهاية الشيء الوحيد الذي أستطيع فعله هو أن أدعو أنه لم يُعذب كثيرًا، وأن يكون قد رحل شهيدًا”.
تؤكد آية أن “الحقيقة كانت أقسى من أن تُحتمل. ما أستطيع فعله الآن، هو تعميم اسمه على المختصين في هذا الموضوع، علّنا نتمكن من العثور على جثته، أو حتى عظمة واحدة منه، لنتمكن من دفنه بشكل يليق به”.
حتى لحظة نشر هذا التقرير، تقول آية إنها لم تعثر على أي دليل يثبت وفاته، وثيقة أو اسم أنه كان موجودًا في هذا السجن أو في السجون أخرى، أو أي من الأفرع، “كأنو مافي هيك شخص مرق بالهدنيا وكأنو الأرض انشقت وبلعته”، بحسب ما قالته لـ”نون بوست”.
جهود مستمرة
حسب بيان للشبكة السورية لحقوق الإنسان فإن عدد المُفرج عنهم من السجون يصل إلى نحو 24.200 شخص من أصل 136.614 شخصاً ما يعني أن هناك ما لا يقل عن 112.414 شخصاً لا يزالون مختفين قسراً على يد نظام الأسد، على الرغم من الإفراج عن آلاف المعتقلين في الأسابيع الأخيرة.
مسؤولة التواصل في “الشبكة السورية” نور الخطيب، قالت لـ”نون بوست”، إن الجهود مستمرة في العمل بشكل مركز على قضية المختفين قسريًا ومسار العدالة والمحاسبة وحفظ الأدلة والوثائق، وهناك بعض المنظمات الحقوقية داخل سوريا، ومن بينها “الشبكة”، تعمل في عدة جوانب حقوقية الآن.
وأكدت الخطيب ضرورة العمل على المقابر الجماعية من قبل جهات دولية مختصة، لعدم توافر الخبرات محليًا ولخصوصية التعامل مع هذه المقابر، وهناك عدة جهات دولية أبدت اهتمامًا بملف المقابر الجماعية في سوريا.
وحاليًا، ما يتم العمل عليه هو تحديد مواقع المقابر، والتوعية بعدم الاقتراب منها لمنع تخريب الأدلة، لحين قدوم الفرق المختصة التي ستقوم بفتح المقابر ونقل الرفات، وجمع الأدلة الجنائية مثل عينات الحمض النووي من الرفات البشري لتحديد هويات الضحايا، بحسب الخطيب.
كما يقوم فريق “الشبكة” الميداني حاليًا بعملية حفظ للوثائق في العديد من الأماكن ليُسلمها فيما بعد للسلطات الانتقالية، أو يبقيها في مكانها بشكل آمن، مشيرة إلى أن العمل على هذا الملف مستمر ويتطور تبعًا للتحديات والمستجدات على الأرض، والأمل هو تحقيق تقدم ملموس خلال السنوات القادمة.
من جهته، قال المحامي المختص بالقانون الجنائي الدولي، المعتصم الكيلاني، لـ”نون بوست”، إنه حاليًا هناك حالة فوضى عارمة غير خلاقة تمثلت في استيلاء البعض على الوثائق دون الحاجة إليها، “أشخاص وأفراد لا يعملون بالتوثيق ولا نعرف كيف سيتم التعامل معها”.
ويرى الكيلاني أن المعتقلات ومقرات السجون كانت مسارح جرائم كان لا بد من التعامل معها بطريقة أكثر أمانًا، مؤكدًا أن السلطات تتحمل مسؤولية حماية مسارح الجرائم والحفاظ على الأدلة، “لأن ما حدث يعتبر طمسًا للأدلة”.
كما أن منظمات المجتمع المدني الحقوقية تقوم بجمع تلك الأدلة، لكن لا بد من وجود فريق تقصي حقائق وطني، يكون مزيجًا من فريق حكومي وممثلين عن منظمات المجتمع المدني الحقوقية، وهذه العملية، كمؤشر زمني، تحتاج إلى وقت، ويعتقد أنه لكشف الحقيقة، نحتاج على الأقل إلى عامين لعمل تلك اللجنة، بسبب كثرة الانتهاكات وتعددها، وكثرة أماكن انتشارها، بحسب ما قاله الكيلاني لـ”نون بوست”.
وأوضح الكيلاني أن منظمة “آفاد” التركية دخلت إلى سوريا منذ أيام، وهناك جهود من فريق الدفاع المدني السوري، لكن هذا لا يكفي، فالبحث عن المقابر الجماعية واستخراج الرفات والتعرف على الجثث يحتاج إلى الكثير من الأدوات الجنائية والتقنية المرتبطة بالطب الشرعي، “ونحن في سوريا لا نملك وليس لدينا تلك الخبرات، وبحاجة للاستعانة بفرق دولية وأممية للمساعدة”.
إلى جانب أن موضوع التعرف على الضحايا هو حق لعائلاتهم، وكل مقبرة جماعية تحتاج عمليات بحث واستخراج بدقة وعناية وما يزيد على عام على الأقل، وفقًا لتجارب دول أخرى.
وأضاف “لا يجب أن يبقى الملف عالقًا، ملف المفقودين والعدالة للضحايا وذويهم هو أساس وخط أحمر، لا يحق لأي سلطة أو دولة أو اتفاق على الإطلاق، أن يعلقه أو يتجاهله، هذا حق للضحايا وذويهم وهذه أولوية ودور الآلية الدولية في جمع الأدلة والتوثيقات عن انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا وتقديمها إلى الأجهزة القضائية”.
بدورها، دعت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، في بيان صدر عنها بتاريخ 26 ديسمبر/كانون الأول، الحكومة السورية الجديدة إلى إصدار دعوة رسمية للجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP) للعمل بشكل عاجل في سوريا، مع التشديد على ضرورة منح قضية المفقودين الأولوية القصوى في المرحلة المقبلة.
وأشار بيان الشبكة إلى أهمية الاستفادة من خبرات اللجنة الدولية لشؤون المفقودين، التي تتمتع بسجل حافل في معالجة قضايا المفقودين والتعامل مع المقابر الجماعية في سياقات نزاع معقدة.
بالإضافة إلى ضرورة تعزيز التعاون المستمر مع المنظمات الدولية المعنية بملف المفقودين مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ولجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة بشأن سوريا منذ عام 2011، والمؤسسة المستقلة للأمم المتحدة المعنية بالمفقودين في سوريا.
آلاف المفقودين
لا تزال أعداد كبيرة من المعتقلين قسريًا لم يعثر عليهم، ولا تزال آلاف العائلات تقلب صورًا باهتة وتهيم بين قوائم الأسماء علّها تعثر على خبر ينهي عذاب الانتظار.
بحسب ما قالته مسؤولة التواصل في “الشبكة السورية” نور الخطيب، فإن الانتظار دون معرفة مصير الأحبة يعد عذابًا نفسيًا شديدًا، وكثير من العائلات تعيش في حالة من القلق الدائم، تتأرجح بين الأمل واليأس، وشعور الخذلان من قبل المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية، والأمل أن تحصل جميع العائلات على إجابات مفصلة تكشف مصير أحبتهم بشكل رسمي.
وما تأمله العائلات أو تنتظره هو الحصول على أي معلومة عن أحبائهم، والتوثيق الرسمي لحالات الاختفاء، وتحقيق العدالة ومعاقبة المسؤولين.
“نحن على تواصل مستمر مع الآلاف من عائلات المختفين قسريًا، ونجمع المعلومات التي يمكن أن تساهم في التحقيقات المستقبلية”، بحسب الخطيب.
وفيما يتعلق بالإعدامات، وثقت “منظمة العفو الدولية” في تقريرها المعنون بـ”المسلخ البشري”، نشرته في فبراير/شباط 2017، عمليات إعدام جماعي نفذها النظام الأسد المخلوع بحق 13 ألف معتقل في سجن “صيدنايا”، بطرق مختلفة وسرية تامة.
وأوضحت المنظمة أن الإعدامات، جرت بين عامي 2011 و2015، وجرت تقريبًا أسبوعيًا أو مرتين في الأسبوع، اقتيدت خلالها مجموعات تضم أحيانًا من 20 إلى 50 شخصًا تقريبًا، إلى خارج زنزاناتهم، وشنقوا حتى الموت.
وبحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، قتل في سوريا أكثر من 231 ألف شخص منذ عام 2011، ويعتبر النظام السوري مسؤولًا عن مقتل أكثر من 86% منهم، و157 ألف شخص في عداد المختفين قسرًيا، وعملت الشبكة منذ عام 2011 على توثيق حالات الاعتقال التعسفي التي تحول معظمها إلى حالات إخفاء قسري، عبر فريق متخصص يعمل بشكل يومي على بناء قاعدة بيانات دقيقة تعتمد على منهجية توثيق علمية، مستندة إلى شهادات الناجين وأقوال ذوي الضحايا، إلى جانب وثائق وأدلة أخرى.