تدخل شركة هواوي الصينية معركة جديدة في إطار حرب الدفاع عن الهوية التي تخوضها منذ قرار جوجل منعها من استخدام نظام تشغيلها الخاص من أندرويد التزامًا منها بقرار الحظر الأمريكي على الشركات الصينية، تلك الحرب التي أخذت أبعادًا كثيرة، تجاوزت في كثير منها أبعادها الاقتصادية.
الشركة وفي سياق إستراتيجية تمديد النفوذ والبحث عن بدائل في ظل التضييق الشديد الممارس عليها أمريكيًا وأوروبيًا بزعم تهديدها للأمن القومي عبر توظيف إمكاناتها للتجسس لصالح جهات سيادية صينية نجحت في إبرام صفقة جديدة تؤهلها لغزو السوق الروسية.
الصفقة التي وقعتها الشركة مؤخرًا، عشية منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدولي، مع شركة “إم تي سي” (واحدة من كبرى مشغلات الهاتف الخلوي الروسية) بشأن تطوير تقنية “5 جي” في روسيا، أثارت حالة من القلق لدى الأمريكان وفق ما ذهبت إليه بعض الصحف الأمريكية التي علقت على الصفقة بأن “هواوي ستسمح لروسيا بتجاوز أمريكا”.
فتح أسواق جديدة
بهذه الصفقة تنجح الشركة الصينية في اقتحام السوق الروسية، الأمر الذي يعد إنجازًا يحسب لخطة التمدد التي اعتمدتها هواوي منذ عدة سنوات، وذلك رغم الضغوط التي تتعرض لها، التي في حقيقتها لم تكن وليدة اليوم، بل منذ أن فرضت الشركة نفسها كواحدة من أقوى الكيانات الدولية المتخصصة في الاتصالات الخلوية.
وفي المقابل، أعلنت الشركة الروسية أنها تخطط للاستثمار في شبكات الاتصالات من الجيل الخامس بأكثر من 20 مليار روبل (نحو 307 ملايين دولار) في خمس سنوات، فيما تنص الاتفاقية على اختبار هذه التكنولوجيا في الأشهر المقبلة، ومن المقرر إطلاق الشبكة عام 2022.
بُعد سياسي آخر ذهب إليه بعض الخبراء في تفسير هذا الاتفاق بين الشركتين، قائلين إنه دليلٌ على الثقة المتبادلة العالية بين بكين وموسكو، وبداية خيط نحو مزيد من التعاون في شتى المجالات، خاصة في ظل رغبة الدولتين في إعادة رسم خريطة التحالفات الاقتصادية ردًا على سياسة الحمائية الأمريكية والعنصرية التي تتبعها تجاه الكيانات الاقتصادية التي تنافس وجودها.
نجحت هواوي عبر تقنية شبكة الجيل الخامس في توسيع رقعة نفوذها
فشل القيود الأمريكية
سعت الولايات المتحدة خلال الآونة الأخيرة إلى إقناع حلفائها بأن الشركة الصينية تمثل تهديدًا أمنيًا قويًا، كما منعت الشركات الأمريكية من استخدام معدات الشركة متهمة إياها بالتجسس وجمع البيانات السرية في بلدان مختلفة من العالم، الأمر الذي كان سببًا رئيسيًا في انهيار مسار التفاوض بشأن اتفاقية التجارة الجديدة بين البلدين.
واستجابة لتلك الضغوط رفضت كبرى شركات تكنولوجيا المعلومات داخل الولايات المتحدة على رأسها “جوجل” و”مايكروسوفت” و”إنتل” والعديد من الشركات الأخرى، توفير البرمجيات والتكنولوجيا والمعدات لشركة “هواوي”، في محاولة لإخراجها من سوق الاتصالات الأوروبية.
التهديد الأول الذي يمثله التعاون الصيني الروسي في شبكات الجيل الخامس يتلخص في ضرب القيادة والريادة الأمريكية في مقتل
الضغوط الأمريكية تجاوزت حدودها الجغرافية، إذ هددت واشنطن بعض القوى الأوروبية في مقدمتها لندن وبرلين بتقليل تبادل المعلومات الاستخباراتية معها إذا سمحت للصينيين بتقديم أنظمة اتصالات من الجيل الخامس، وهو ما كان له أثر سيء على مستقبل هواوي أوروبيًا.
وبدلاً من أن تؤتي تلك القيود ثمارها إما بتراجع الشركة عن مخططات التوسع أو إجبار حكومة بكين على الانصياع للضغوط الأمريكية، إذ بالرد جاء على عكس ما كان يتوقعه الأمريكان، حيث اتخذت السلطات الصينية إجراءات مماثلة بشأن شركة “آبل” الأمريكية هذا بخلاف تبني هواوي إستراتيجية توسعية جديدة تهدف إلى فتح منافذ لها في مناطق ربما كانت عصية عليها في وقت من الأوقات.. الأمر الذي أثار حالة من الرعب لدى الغرب.
لماذا تقلق واشنطن؟
حالة من القلق خيمت على الأوساط المعنية بالتكنولوجيا داخل الولايات المتحدة على وجه التحديد وفي الغرب بصفة عامة مع إعلان تلك الصفقة لما يترتب عليها من إعادة رسم لخريطة الكيانات التكنولوجية في العالم وتغيير مراكز القوى في هذا المجال الذي ظل لعقود حكرًا على واشنطن وحلفائها.
التهديد الأول الذي يمثله التعاون الصيني الروسي في شبكات الجيل الخامس يتلخص في ضرب القيادة والريادة الأمريكية في مقتل، فإنشاء تقنيات المستقبل للهواتف المحمولة خارج الحدود الأمريكية وبتقنية تفوق في كثير منها الموجودة داخل الولايات بلا شك سيهدد المكانة الأمريكية.
“سيكون الإنترنت تحت قيادة الصين، والإنترنت غير الصيني تحت قيادة أمريكا”.. المدير التنفيذي السابق لشركة “جوجل” إريك شميدت
ولطالما اعترفت الإدارة الأمريكية عدة مرات أن الشركة الصينية تشكل تهديدًا لقيادتها الدولية في هذا المجال، خاصة أن هواوي تحتل المرتبة الثالثة في التصنيف العالمي لمصنعي الهواتف الذكية بعد شركتي “سامسونغ” و”آبل”، هذا إضافة إلى احتمالية تقدمها في الترتيب خلال السنوات القادمة بفضل ما تتبناه من إستراتيجيات تسرع من نموها.
العديد من وسائل الإعلام الأمريكية ذهبت إلى أن الصفقة المبرمة مؤخرًا بين روسيا والصين ستعزز من هذه المخاوف، كما ستسمح للبلدين بالمضي قدمًا في تقنيات الإنترنت، فيما حذرت من أن “حظر الشركة سيؤدي إلى إبطاء إدخال شبكات الجيل الخامس في البلاد، وبالتالي تواجه أمريكا مشكلة التخلف التكنولوجي عن الصين، والآن، حتى روسيا، التي لا تنتمي عادة إلى القادة في مجال التقنيات المتقدمة، يمكنها المضي قدمًا”.
مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق لرئيس الولايات المتحدة جيمس جون، كان قد أعلن في فبراير الماضي، تخلف بلاده عن الصين في شبكات الجيل الخامس، وأن القيادة في هذا الاتجاه أمر حاسم، مؤكدًا أن الإنترنت فائق السرعة من الجيل الخامس سيحدث ثورة في الاقتصاد الرقمي.
القيود الأمريكية على هواوي أجهضت المفاوضات التجارية بين واشنطن وبكين
تخوف آخر فرض نفسه جراء الصفقة المثيرة للقلق أمريكيًا، يتمثل في أن التعاون بين “هواوي” الصينية و”إم تي سي” الروسية، سيؤدي إلى ظهور تقسيم بالشبكة العنكبوتية العالمية إلى عدة شبكات وطنية، ووفق ما أشارت إليه “سي إن إن” فإن هناك عددًا من الدول تتمرد على مبدأ الإنترنت المفتوح بقيادة الصين، لافتة أن “الحكومات تحرس بحزم حدود شبكات الإنترنت الخاصة بها، مما يجبر المنافسين الأجانب على تخزين البيانات محليًا وإتاحة الوصول إليها من وكالات الأمن الداخلي”.
المدير التنفيذي السابق لشركة جوجل إريك شميدت، في تصريحات له العام الماضي عن ظاهرة انقسام الإنترنت ومستقبلها خلال المرحلة المقبلة قال: “سيكون الإنترنت تحت قيادة الصين، والإنترنت غير الصيني تحت قيادة أمريكا”، وهي ذات المخاوف التي تعززت مع اقتحام هواوي للسوق الروسية.
شميدت كشف قلقه الشديد إزاء روسيا والصين فيما يتعلق بالسباق على الذكاء الاصطناعي، وأشار إلى خطر طموحاتهم التجارية والعسكرية، قائلاً إن زمام المبادرة في مجال الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعدهم في نهاية المطاف على غزو العالم، وأن القادة في الصين وروسيا أدركوا قيمة الذكاء الاصطناعي لخدمة طموحاتهم التجارية وتطلعاتهم العسكرية.
وفي المجمل نجحت هواوي في كسب العديد من المعارك في حربها مع الولايات المتحدة، ولعل المعركة الأشرس كانت البحث عن نظام تشغيل خاص بها بعد قرار جوجل، وهو ما بدأت الشركة بالفعل في المضي قدمًا فيه، حيث ذكر موقع الشركة أن نظام التشغيل الجديد الذي يسمى هونغ مينغ سيكون متوافرًا في أقرب وقت، ورجحت مصادر أن يكون النظام الجديد جاهزًا في خريف العام الحاليّ، الأمر الذي ربما يضع الشركة على قمة سوق الهواتف الذكية خلال سنوات قليلة قادمة.