لم يدم رفع اسم مصر من قائمة الحالات الفردية، المعروفة بـ”القائمة السوداء” للدول التي تنتهك اتفاقيات العمل الدولية والحقوق والحريات النقابية أكثر من عام إلا وأعادت منظمة العمل الدولية إدراجها مرة أخرى للمرة الخامسة خلال السنوات الـ15 الأخيرة، لتصبح واحدة من أكثر الدول إدراجًا على تلك القائمة.
وكانت المنظمة قد رفعت اسم مصر من القائمة في مايو/أيار 2018، بسبب إعداد قانون النقابات العمالية وإجراء انتخابات عمالية بعد 12 عامًا دون القيام بهذا الاستحقاق، وهي المرة الثانية التي يرفع فيها اسمها من القائمة، إذ كانت المرة الأولى في أعقاب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، لكنها عادت إلى القائمة من جديد طوال السنوات الماضية.
يذكر أن القاهرة أُدرجت 4 مرات قبل ذلك: الأولى عام 2008 بسبب إغلاق دار الخدمات النقابية، والثانية في 2010 بسبب تعهد الحكومة وقتها بتغيير قانون النقابات وهو ما لم يحدث، والثالثة كانت في 2013 وقت حكم جماعة الإخوان للسبب ذاته وإصرار الحكومة على قانون النقابات الحاليّ الذي يخالف الاتفاقيات التي وقعت مصر عليها، والرابعة في مايو 2017 بسبب خنق الحريات النقابية والتأخر في إصدار قانون النقابات.
تعديلات غير كافية
رغم التعديلات التي أجرتها الحكومة المصرية على القانون رقم 213 لسنة 2017، بشأن إصدار قانون المنظمات النقابية العمالية وحماية حق التنظيم النقابي في الـ22 من مايو/أيار الماضي، فمن الواضح أنها لم تلق القبول الكامل لدى منظمة العمل التي فسرت تلك التعديلات بأنها تأتي وفق خطة حكومية مكررة، لتستبق المؤتمر السنوي لها في يونيو/حزيران من كل عام، خشية التعرض لانتقادات حادة.
وكان النظام المصري قد أرسل قبل مشاركته في مؤتمر العمل الدولي الذي عقد في في العاصمة السويسرية جنيف، مؤخرًا، وفدًا إلى المنظمة مكونًا من 55 عضوًا، يتألف من 21 عضوًا بالحكومة و10 من أصحاب الأعمال، وما يزيد على 25 قياديًا نقابيًا من اتحاد العمال الرسمي والاتحاد العالمي للنقابات، لتوضيح التعديلات التي أجريت على القانون.
وعلى رأس تلك التعديلات السماح للعاملين بأي منشأة تكوين لجنة نقابية لهذه المنشأة بما لا يقل عن 50 عاملًا منضمًا لها، كما أعطى الحق للعاملين في المنشآت التي يقل عدد العمال فيها عن 50 عاملًا، والعاملين من ذوي المهن والحرف، بتكوين لجنة نقابية مهنية عمالية على مستوى المدينة أو المحافظة لا يقل عدد أعضائها عن 50 عاملًا، وذلك بالاشتراك مع غيرهم من العاملين المشتغلين في مجموعات مهنية أو حرفية أو صناعات مماثلة أو مرتبطة ببعضها أو مشتركة في إنتاج واحد، على أن تعتبر المهن المتممة والمكملة لبعض الصناعات، داخلة ضمن هذه الصناعة، وفقًا للمعايير الدولية المطبقة في هذا الشأن.
التعديلات أجازت كذلك إنشاء النقابة العامة من عدد لا يقل عن 10 لجان نقابية تضم في عضويتها 15 ألف عامل على الأقل، وعلى أن يكون إنشاء الاتحاد النقابي العمالي من عدد لا يقل عن 7 نقابات عامة تضم في عضويتها 150 ألف عامل على الأقل.
يذكر أن المنظمة في تقريرها النهائي عن قانون المنظمات النقابية والمشاريع المتعلقة بالشأن العمالي وموقف الحريات النقابية في مصر، الصادر في فبراير/شباط 2018 أبدت عددًا من الملاحظات تركزت على الحريات النقابية والتمييز بين النقابات المستقلة والاتحاد العام لنقابات عمال مصر، فضلًا عن التحفظ على مواد بقانون التنظيمات النقابية، وضرورة الالتزام بالاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها مصر وتوافق مشاريع القوانين مع تلك الاتفاقيات.
أوضاع مأساوية يعيشها العمال في مصر خلال السنوات الأخيرة
قانون النقابات والشكاوى أبرز الأسباب
إعادة المنظمة إدراج مصر على القائمة السوداء يعود لسببين، وفق تصريحات أدلى بها مدير دار الخدمات النقابية والعمالية كمال عباس، لـ”مدى مصر” الأول: عدم تعديلها لقانون النقابات العمالية الجديد (213 لسنة 2017، رغم ملاحظات المنظمة عليه، ومطالبتها بتخفيض عدد الأعضاء المطلوب توافرهم لتأسيس منظمة نقابية، وإلغاء الأحكام السالبة للحرية من القانون، وهو ما حاولت الحكومة التعامل معه قبل سفر وفد القوى العاملة لحضور المؤتمر السنوي للمنظمة بتقديم مشروع للبرلمان لتعديل بعض أحكام القانون، وافقت عليها لجنة القوى العاملة بالبرلمان، بعد يوم من بدء مؤتمر المنظمة، ما لم يسمح برفع اسم مصر من القائمة.
أما السبب الثاني فيتمثل في الشكاوى التي أرسلتها 29 منظمة نقابية لمنظمة العمل ضد وزارة القوى العاملة لتعنتها في توفيق أوضاعهم وتأسيس نقاباتهم، فيما اعتبر عباس أن استمرار مصر في القائمة أمر طبيعي “لأن القانون فيه مشاكل، وكمان الحكومة لا تطبقه”.
رغم وضع مصر على القائمة السوداء، فإنها ما زالت تؤكد حرصها على توافق تشريعاتها لمعايير العمل الدولية، وأنها على استعداد لإدخال أي تعديل توصِي به لجنة الخبراء بلجنة معايير العمل الدولي
وفي تقريره الرابع الذي يغطي التحركات الاحتجاجية في مصر خلال الأشهر الماضية كشف مركز هردو لدعم التعبير الرقمي (مدني) تصدر الاحتجاجات العمالية قائمة الفعاليات الاحتجاجية التي شهدها الشارع المصري، ولم تختلف كثيرًا عن السنوات السابقة.
التقرير يأتي في إطار رصد عمليات الاحتجاجات كونها أحد أهم المؤشرات على الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها المجتمع، حيث رصد ما يقرب من 25 تحركًا احتجاجيًا في فبراير الماضي فقط، وهو نفس العدد تقريبًا الذي تم رصده لشهر يناير، إلا أن النقطة الملفتة للنظر في تقرير هذا الشهر هو تصدر الاحتجاجات العمالية للقائمة، الأمر الذي دفع البعض لقراءته بشكل مختلف خاصة بعد تراجع معدلات الاحتجاجات في الآونة الأخيرة.
القاهرة ترد
وفي أول رد فعل رسمي من الحكومة المصرية على إدراجها على القائمة السوداء للمنظمة شدد وزير القوى العاملة في الحكومة محمد سعفان أن الدولة المصرية حريصة كل الحرص على الارتقاء بمناخ العمل المصري، وأنها تنفذ كل ما تعِد به لتحقيق إضافة وأثر إيجابي من خلال التعاون المشترك مع منظمة العمل الدولية، معربًا عن استعداد الحكومة المصرية للتعاون التام المنظمة لتتوافق قوانينها مع الاتفاقيات الدولية التي صدقت عليها.
وأضاف الوزير في كلمته على هامش المؤتمر السنوي للمنظمة في جنيف “الحكومة المصرية ممثلة في وزارة القوى العاملة، أنجزت 3 قوانين عمالية، منها إصدار قانوني التنظيمات النقابية العمالية وحماية حق التنظيم، وانتخابات مجالس إدارة شركات القطاع العام والأعمال العام، ومشروع قانون العمل الجديد المعروض حاليًّا على البرلمان”.
وأشار إلى أنه رغم وضع مصر على القائمة السوداء، فإنها ما زالت تؤكد حرصها على توافق تشريعاتها لمعايير العمل الدولية، وأنها على استعداد لإدخال أي تعديل توصِي به لجنة الخبراء بلجنة معايير العمل الدولية، وذلك بإجراء حوار مجتمعي خلال الفترة القادمة مع منظمات أصحاب الأعمال وممثلي العمال، لتؤكد للعالم كله حرص مصر على امتثالها لمعايير العمل الدولية.
وزير القوى العاملة محمد سعفان
أوضاع مأساوية
رغم أنهم الفصيل الأكبر في تكوين النسيح الوطني المصري، إذ يتجاوز عددهم 28.9 مليون عامل بحسب آخر إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإنهم في الوقت ذاته أكثر الفئات تعرضًا للانتهاكات والقهر في ظل هذا المناخ غير الملائم.
السنوات الخمسة الأخيرة واجه العمال في مصر أوضاعًا ربما تكون الأسوأ في تاريخهم بأكمله وذلك لسببين، الأول: تراجع المستوى المعيشي بصورة غير مسبوقة لا سيما في السنوات الثلاثة الأخيرة، إذ تجاوز معدل التضخم 32% في سابقة لم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية، فضلًا عن الارتفاع الجنوني للأسعار الذي التهم معه أي زيادة متوقعة في الرواتب والدخول.
هذا علاوة على موجة غلق الشركات والمصانع التي خلفت وراءها آلاف الأسر على رصيف البطالة، إذ أغلق خلال تلك الفترة أكثر من 8000 مصنع متعثر وإهدار استثمارات تقدر بنحو 35 مليار جنيه (ملياري دولار)، مما تسبب في تشريد نحو مليوني أسرة بعد فقدانهم مصدر الدخل الوحيد لديهم.
نجح عمال مصر في التسعة أشهر الأولى من العام المنقضي 2018 في تنفيذ 299 احتجاجًا، بمتوسط 33 احتجاجًا في الشهر، فيما وصلت في بعض الأشهر إلى 62 احتجاجًا كما في نوفمبر
فيما يعود السبب الثاني إلى الأوضاع المتدنية للحريات النقابية التي تعاني من الكبت وتضييق الخناق بصورة ملفتة للنظر، وهو ما عزاه البعض إلى رغبة النظام الحاليّ في استنساخ آليات نظام مبارك ورجاله في التعامل مع النقابات، حيث دعم القيادات الفاسدة وملاحقة المتطلعين للتغيير والتطور، فضلًا عن تحميل العمال مسؤولية أي فشل للسياسات المالية والاقتصادية للدولة.
في تصريح له في مايو 2017 وصف المنسق العام لدار الخدمات النقابية والعمالية المصرية الوضع العمالي في بلاده قائلاً: “نحن في دولة استبدادية تتعامل مع الحركة العمالية والاحتجاجات بعنف مبالغ فيه”، ناعتًا المشهد العمالي الحاليّ بـ”العبثي”، مطالبًا بضرورة التحرك لإنقاذ العمال من هذا الوضع غير المسبوق.
عباس في حواره مع جريدة “الشروق” المصرية لفت إلى ما سماه “تواطؤ” الحكومة ممثلة في الاتحاد العام لنقابات العمال والمعين من الدولة، ضد العمال والشعب المصري بصورة عامة، وذلك من خلال تسهيل بيع القطاع العام وخصخصة الشركات، والتلاعب بمصير العمال من أجل مكاسب شخصية، منوهًا أن هناك العديد من الشكاوى المقدمة ضد قيادات في الاتحاد والحكومة ولم يتم تحريكها حتى الآن في مشهد وصفه بـ”الغريب”.
جدير بالذكر أنه رغم التضييق الممارس ضد الحريات العمالية في مصر، فإن زخم الاحتجاجات لم يتراجع طويلاً، فوفق تقرير لمؤسسة مؤشر الديمقراطية التابع للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان فقد نجح عمال مصر في التسعة أشهر الأولى من العام المنقضي 2018 في تنفيذ 299 احتجاجًا، بمتوسط 33 احتجاجًا في الشهر، فيما وصلت في بعض الأشهر إلى 62 احتجاجًا كما في نوفمبر الذي يعد الأكثر سخونة تلاه أكتوبر بـ60 احتجاجًا.