لا بد من الإشارة إلى أن الدور الإيراني قد فرض نفسه على الساحة العراقية، منذ اللحظات الأولى للاحتلال الأمريكي في عام 2003، حتى أصبح من غير الممكن الحديث عن التطورات السياسية والأمنية وغيرها في هذا البلد دون ذكر التأثير الإيراني فيها. فتنامي الدور الإيراني في العراق لم يتأت من قوّة إيران، وإنما نتاج لمتغيرات داخلية وإقليمية ودولية مهدت الطريق لهذا الدور، وهو دور مؤثر في مجريات الأحداث في الساحة العراقية، وهو سلبي في أكثر أبعاده.
وليس أدل على ذلك من تصريح مستشار الرئيس الإيراني لشؤون القوميات والأقليات الدينية علي يونسي، في منتدى الهوية الإيراني، حينما قال إن : “إيران اليوم أصبحت إمبراطورية، كما كانت عبر التاريخ، وعاصمتها بغداد حالياً، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما الماضي. إن جغرافية إيران والعراق غير قابلة للتجزئة، وثقافتنا غير قابلة للتفكك، لذا إما أن نقاتل معاً أو نتحد”. ومن هنا يتضح لنا حجم الأهمية التي أولتها الإستراتيجية الإقليمية الإيرانية للعراق.
اتضح الدور السياسي الإيراني في العراق من خلال الصور الآتية:
تمكين أحزاب الإسلام السياسي الشيعي
قامت إستراتيجية إيران السياسية على توحيد الأحزاب السياسية الشيعية في العراق. ولتفعيل النفوذ الإيراني في هذا الجانب، مارست إيران دوراً سياسياً مؤثراً في التفاعلات السياسية العراقية بعد الاحتلال، سواء من خلال سفاراتها أو جنرالاتها، ففي الانتخابات البرلمانية التي جرت بين عامي “2005-2010″، إلى جانب الانتخابات المحلية التي جرت عام 2018، سعت إيران وبكل جهدها إلى دعم مجموعة معيّنة من المرشحين المقربين لديها، وحتى فيما يتعلق بالأزمات السياسية التي رافقت تشكيل الحكومات المتعاقبة منذ العام 2003، لم تدخر إيران جهداً في الحفاظ على وحدة الخط السياسي الذي تبنته والمتمثل “بالتحالف الوطني العراقي”، فلطاما مثلت إيران الخط الفاصل بين الخلافات “الشيعية الشيعية”، وتحديداً بين المجلس الأعلى الإسلامي العراقي والتيار الصدري، أو بين حزب الدعوة والتيار الصدري.
وعلى الرغم من كل المحاولات التي بذلتها بعض كتل التحالف للدخول في الانتخابات البرلمانية بقوائم مستقلة، أصرت إيران على منع ذلك بحجة الحفاظ على وحدة الصف السياسي “الشيعي”، فبعد الخلافات حول النتائج التي أفرزتها انتخابات عام 2010، بعد فوز القائمة العراقية بزعامة أياد علاوي بأكثرية المقاعد البرلمانية، دفعت إيران بكل ثقلها السياسي والعسكري لمنعه من تبوّؤ منصب رئيس الوزراء، ونجحت في ذلك، من خلال حصول رئيس الوزراء السابق نوري المالكي على المنصب، ولعب رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني دوراً كبيراً في هذا المجال.
إن النفوذ الإيراني في العراق لم يتوقف عند مجرد لعب دور الشاهد على التوازنات السياسية والطائفية في العراق الجديد، وإنما تعداه كي يمارس دوراً مؤثراً في صياغة هذه التوازنات
وعلى الرغم من تعدّد تسميات الحركات والفصائل الدينية أو المسلحة في العراق بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، فإن بعض تلك الحركات والفصائل كانت معروفة قبل الاحتلال الأمريكي. في المقدمة منها منظمة بدر، التي كانت الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية (المجلس الأعلى الإسلامي فيما بعد)، بينما أُسست فصائل مسلحة بعد الإحتلال الأمريكي، كان في المقدمة منها جيش المهدي التابع للتيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر.
وفي غضون السنوات الأولى للإحتلال الأمريكي، وما ترتّب عليه من ظهور فصائل مسلحة تحت عناوين المقاومة؛ “سنية أو شيعية”، فإن كلًا من بدر وجيش المهدي، كانتا تتسيدان المشهد، لا سيما في المحافظات والمناطق الجنوبية، قبل أن تجري عمليات فصل وإنشقاق “بدر” بزعامة هادي العامري عن المجلس الأعلى الإسلامي بزعامة عمار الحكيم، و”عصائب أهل الحق” بزعامة قيس الخزعلي عن “جيش المهدي”. وعلى الرغم من أن بعض الحركات والفصائل الشيعية المسلحة، التي جرى التعامل معها كميليشيات ودمجها وفق قانون الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر “قانون رقم 91 لسنة 2004″، كان لها تاريخ سياسي في المعارضة العراقية، فإن حركات وفصائل أخرى تمكنت بعد سقوط النظام العراقي السابق عام 2003، من شق طريقها بسهولة مستفيدة من تحولات كثيرة في المشهد السياسي والمجتمعي العراقي، وبالتالي، نشأت حركات وفصائل أخرى على هامش الفصائل الرئيسة.
وعلى هامش “المجلس الأعلى الإسلامي” الذي أسس في إيران عام 1982، تشكلت حركات أخرى مثل منظمة “15 شعبان”، وحركة “حزب الله” و”النخب الإسلامية” وحركة “بقية الله” وحركة “ثأر الله”. وفي السياق نفسه، فإن بعض الحركات والأحزاب الأخرى التي ليس لديها أجنحة عسكرية مثل حزب الدعوة الإسلامية، لكنه انشق أيضاً إلى عدة أحزاب تحمل الإسم نفسه، فبالإضافة إلى حزب الدعوة الذي يتزعمه نوري المالكي، هناك أيضاً حزب الدعوة الإسلامية -خط إبراهيم الجعفري، وحزب الدعوة الإسلامية – تنظيم العراق، وثمة منظمة العمل الإسلامي التابعة لمحمد تقي المدرسي “وهو مرجع شيعي”، فضلاً عن حركات أخرى إتخذت من “الإنتفاضة الشيعية” عام 1991، التي سميت “الإنتفاضة الشعبانية”، غطاءً لها مثل حركة الإنتفاضة الشعبانية، وحركة الإنتفاضة الديمقراطية، والحركة الوطنية لثوار الإنتفاضة. وغيرها من الأحزاب والتنظيمات السياسية المرتبطة بالسياسات الإيرانية في العراق.
دورٌ تعدى الشاهد
إن النفوذ الإيراني في العراق لم يتوقف عند مجرد لعب دور الشاهد على التوازنات السياسية والطائفية في العراق الجديد، وإنما تعداه كي يمارس دوراً مؤثراً في صياغة هذه التوازنات بشكل يضمن لطهران البقاء على طاولة التأثير في الشأن العراقي الداخلي، إذ نجحت حتى الآن في توظيف الورقة العراقية في إدارة شؤونها الإقليمية والدولية، مما جعل الكثير من القوى الإقليمية تعبّر عن قلقها إزاء تزايد النفوذ السياسي الإيراني في العراق، ولم يكن غريباً أن تضطر الولايات المتحدة إلى القبول بالحوار مع إيران على نحو يسهّل مهام القوات الأمريكية في العراق أثناء فترة الاحتلال.
إن إيران سعت لخلق نظام فدرالي ضعيف في العراق يهيمن عليه حلفاؤها، وهم “المجلس الأعلى الإسلامي العراقي” وميليشياته السابقة “منظمة بدر” و”حزب الدعوة الإسلامي” وكذلك “الصدريين”. ومن ناحية أخرى سعت للتأثير في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في العراق من الفترة 2005 وحتى العام 2014. ومن ناحية ثالثة دعمت تولي حيدر العبادي على الرغم من تفضيلها المالكي كما ذكرنا سابقاً لرئاسة الحكومة العراقية الجديدة، والذي بدوره اختار زيارة إيران كأول محطة له. كما أشاد بدور إيران في دعم بلاده عسكرياً في كلمته في مؤتمر دافوس في يناير 2015 عندما قال “أنه ليس مستعداً لتخريب العلاقة مع إيران”، وأن “إيران وقفت مع العراق في صراعه الوجودي”، وكشف أنه أبلغ الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أن الجانب الأمريكي تردّد في حماية بغداد عندما تعرضت للتهديد، لكن الجانب الإيراني لم يتردد، وكما أنه لم يتردد حتى مع الكرد عندما تعرضت أربيل للخطر”.
لا بد من القول إن إيران سعت وبكل جهودها إلى فرض سيطرتها على الطبقة السياسية العراقية و”الشيعية” تحديداً في مرحلة ما بعد الإحتلال الأمريكي للعراق، من أجل ربط السياسة العراقية بالسياسة الإيرانية، والتأثير على مجمل التفاعلات السياسية العراقية الداخلية، وتوجيهها بالاتجاه الذي يخدم الاستراتيجية الإيرانية في العراق والمنطقة.
التأثير على القرار السياسي العراقي
من المعروف أن سياسة وسلوك الدولة خارجياً ناتج محصلة جملة من المتغيرات والثوابـت الداخليـة والخارجيـة، والعـراق كدولـة تمتـد جـذور تجربتهـا السياسـية المؤسسـاتية إلـى ما يقـارب القـرن، ولهـا دور فاعـل فـي محيطهـا الإقليمي والـدولي، غيـر أن تغيير النظام السياسي بعد عـام 2003، أفـرز حقـائق ومتغيـرات تختلـف بشـكل قـاطع مــع مـا ســبق مــن فلســفة وأهــداف سياســية لنظــام الحكــم فــي العــراق علــى المســتويين الإقليمي والـدولي، وذلـك بتـأثير عـاملين جديـدين لهمـا قـدرة التغييـر الكبيـر لمسـار إتخـاذ القرار السياسي ولعب الأدوار الخارجيـة، وأقصـد هنـا تغييـر فلسـفة وعقائـد صـانع القـرار ودور القوى العظمى ودول الجوار وتأثيرهما على منهج اتخاذ القـرار السياسـي والسـلوك الخارجي للدولة العراقية، بحيث يؤدي حتميـاً إلـى تغييـر كبيـر فـي أهـداف وأدوات وأدوار العــراق مســتقبلاً، لقــد تغيــر النظــام السياســي وتبعــاً لــذلك تغيــرت آليــة إدارة الســلطات الــثلاث، وتنوعــت فلســفات القيــادات السياســية، وتــداخلت أدوارهــا، وهيمنــت علــى إدارة مؤسســـات الدولـــة مفـــاهيم المحاصصـــة والمـــذاهب الدينيـــة والعرقيـــة، أكثـــر مـــن مفـــاهيم الأحزاب السياسية الفكرية. هذا كله إلى جانب التدخلات الإقليمية وتحديداً الإيرانية، والتي جعلت من مفهوم القرار السياسي العراقي مسألة تحتاج إلى توقف كبير عندها.
إن النفوذ الأقوى في العراق هو للقرار الإيراني ولا كلام فوق رغبات إيران داخل العراق، ولم يشكل النفوذ الأمريكي شيئاً مقابل الرغبة الإيرانية،
فالقرار السياسي والموقف العراقي من القضايا المصيرية في المنطقة وعلى رأسها الأزمة السورية، والعلاقات مع طهران وواشنطن، فضلاً عن المشاكل المتعلقة بموضوع المياه وترسيم الحدود، دفعت الكثير من المهتمين بالشان العراقي إلى التأكيد على أن القرار العراقي محكوم وفق صراع دولي وإقليمي على العراق وفي العراق، ويستند هؤلاء المحللون إلى جملة مؤشرات بل مؤكدات موضوعية على الأرض، وفيما تتسارع زيارات المسؤولين العراقيين وبأعلى المستويات إلى إيران إثر أي خلاف سياسي بين فرقاء العملية السياسية، يؤشر هؤلاء المحللون على هذه الملاحظة الحسية المتكررة ليعززوا من تحليلهم القاضي بتبعية القرار السياسي العراقي وعدم استقلاليته.
إن النفوذ الأقوى في العراق هو للقرار الإيراني ولا كلام فوق رغبات إيران داخل العراق، ولم يشكل النفوذ الأمريكي شيئاً مقابل الرغبة الإيرانية، بسبب امتلاك إيران للأدوات الداخلية التي تساعدها بالفعل المسلح والصوت الأعلى، على العكس من أمريكا تماماً فإنها لا تمتلك أدوات داخلية مثل قوة مسلحة وصوت عراقي عالٍ يساندها، كل ما تمتلكه أمريكا داخل العراق هو التأثير السياسي الذي يتناغم مع الرغبة الإيرانية، بسبب القوة المسلحة التي تساند إيران داخل أرض العراق، كما هو معروف على مر العصور والتاريخ أن القوة الفعلية لمن يمتلك السلاح، وليس لمن يمتلك بعض التأثير السياسي المبني على قوة افتراضية لا وجود لها على أرض الواقع، والعراق ضمن الإستراتيجية الإيرانية الحديثة هو الحديقة الأمامية لها. وأثبتت طهران ذلك من خلال إثباتها للعالم أنها هي الوحيدة القادرة على لعب أدوار مهمة لا يستطيع أحد أن يلعبها على أرض العراق، بدليل أن أمريكا تفاوضت من إيران بشأن المخطوفين الأمريكان الثلاثة الذين أفرج عنهم في بغداد بداية العام 2016.
توظيف أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في خدمة السياسات الإيرانية
منذ الأيام الأولى للاحتلال اعترفت إيران بمجلس الحكم الإنتقالي، وزار وزير خارجيتها كمال خرازي العراق، والتقى بأعضاء مجلس الحكم، كما التقى بأغلب سياسيي العراق الجدد، كما صرح رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام السابق هاشمي رفسنجاني في 16 أبريل 2003:” إننا باعتبارنا دولة شيعية، نساعد الشيعة في كل مكان، حتى لو كان حزباً أو قلة برلمانية”، فقد أضحى من ساعدتهم واحتضنتهم إيران على رأس السلطة الجديدة في العراق خاصة “المجلس الأعلى وحزب الدعوة”، فخلال تولي السيد عبد العزيز الحكيم رئاسته الدورية لمجلس الحكم، وفي أثناء زيارته لمدينة النجف في الأول ديسمبر 2003، صرح قائلاً: “إن على العراق أن يدفع لإيران تعويضات عما تكبدته من خسائر عندما غزا صدام تلك البلاد”، وفي أثناء مقابلة أجراها الصحفي المصري محمد الأنور مع السيد عبد العزيز الحكيم عقب الاحتلال الأمريكي، وسؤاله عن علاقته بإيران، رد قائلاً:” نحن كنا في إيران بعد أن أغلقت الأبواب في وجوهنا، ولم تكن هناك أية دولة عربية أو إسلامية، على إستعداد لاستقبالنا”.
على نحو يشـبه سـاحات أخرى…”، وتكمن قوة إيران بقدر كبير في القدرة على إنكار نشاط من تستعملهم.
التأثير الإيراني في الأحزاب
إن إيران تؤثر في الأحزاب السياسية الشيعية العراقية، ولكن ارتباط هذه الأحزاب وحتى بعض الشخصيات السياسية غير المرتبطة بالأحزاب تأتي على درجات، فهناك من ارتبط بالمؤسسات الإيرانية من بوابة السياسة وآخرون من البوابة الأمنية، وهناك من ارتبط من بوابة المذهب، وهذا ما ينطبق على مسألة الدعم الإيراني المقدم، فهناك جهات ومؤسسات مختلفة في إيران تدعم هذا الحزب أو ذاك، فهناك دعم من المؤسسة العسكرية، وآخر من وزارة الخارجية، وهناك دعم من المؤسسة الدينية “المرشد الأعلى”، وكل مؤسسة تدعم جهة من أجل مصالحها، مع وجود جهات عقلانية تدعم شخصيات عراقية لأغراض إقامة الحوار والوقوف بوجه العنف، وجهات تؤسس لعلاقة من أجل إقامة خطوط دفاعية لإيران داخل العراق، كما أن الدعم الذي تقدمه هذه المؤسسات للأحزاب والقوى الشيعية العراقية، يتوقف على الظروف والوقت وطبيعية ما هو مطلوب من كل حزب، مع إختلاف درجة الدعم، وهذا ما يفسر بناء إيران لعلاقات وروابط مع قوى وتيارات جديدة على الساحة السياسية العراقية، خاصة الجماعات والتيارات المناوئة للإحتلال الأمريكي، مع الاحتفاظ بعلاقاتها وتأييد حلفائها في السلطة.
إن مصالـح إيـران، ولا سـيما الرغبـة في الإفضاء الـى هيمنة سياسية شـيعية علـى العراق، قد مسـت حتى الآن، وإن لم يكـن ذلك على نحو مباشـر مصالـح الولايـات المتحـدة، التـي أرادت أن تدفع دوماً الدولة إلى طراز ديمقراطية تمثيلية، وقد سـاعدت على ذلك حقيقـة أن نحـو “60” في المائة من سـكان العراق هم من الشـيعة، وتبذل إيران كل جهد لتوحيد الأحزاب الشـيعية في العراق، إذ حـذر الأمريكيون دوماً من تدخل إيران في السـاحة السياسية الداخلية في العـراق: قائلين “إنهم يسـتطيعون تغييـر نتائج الإنتخابات بواسـطة ألغـام وأعمال قتل وإغتيال لمرشـحين مهمين، ويسـتطيعون فعل ذلـك على نحو ينسـب إلى جهـات أخرى، وعلى نحو يشـبه سـاحات أخرى…”، وتكمن قوة إيران بقدر كبير في القدرة على إنكار نشاط من تستعملهم.
كان التدخل الإيراني، وخاصة بعد الاحتلال عام 2003، أحد أسباب الخلافات الإيرانية مع الدول العربية، لأن هذا التدخل إرتبط بممارسات دعمت موقع الشيعة وتغليبها على باقي المكونات، بحيث تحول العراق بعد سقوط نظامه إلى ساحة لإيران مارست من خلالها المواجهة مع الولايات المتحدة، وعملت بقوة على دعم قيام نظام موال لها، من خلال شبكة علاقات وتحالفات معقدة واسعة، بحيث لا تستعيد بأي شكل من الأشكال تجربة النظام السابق.
ويكفي أن نذكر أن العراق وقع مع إيران أكثر من مائة وسبعين إتفاقية في المجالات كافة، لندرك ما بلغته العلاقة بين البلدين، وكان واضحاً أن إيران إعتمدت على العامل المذهبي والديني في تعزيز نفوذها في العراق، إذ تحظى الأحزاب السياسية الشيعية بدعم هائل سياسياً ومالياً ولوجستياً من إيران، في مقابل “هيمنة النفوذ الإيراني” على قرار هذه الحركات، ووضع العراق في سياق حسابات إيران الإستراتيجية في التعامل مع الولايات المتحدة والقوى الإقليمية الأخرى.
كما أن “المؤسسات السياسية أو الدينية في إيران تقدم دعماً مالياً ودينياً لقوى شيعية في العديد من الدول العربية والإسلامية، في حين تتعامل هذه القوى مع إيران بصفتها حاضنة قم، ومركز التشيع في العالم اليوم. لكن هذا الدعم، وإن بدأ ظاهرياً من منطلقات مذهبية ودينية، إلا أنه يهدف بالأساس إلى تحقيق مصالح سياسية وإستراتيجية لإيران، خاصة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار أن العراق كان دوماً أحد مصادر التهديد الأمني والإستراتيجي لإيران قبل سقوط نظام صدام حسين، بل إنه كان منافساً إقليمياً وإستراتيجياً لإيران.
فالعراق يمثل أهمية إستراتيجية وسياسية وإقتصادية لإيران، فموقعه الجيوسياسي والحساس من جسم الأمة العربية ودوره في خلق التوازن الإقليمي، دفع إيران إلى تعزيز نفوذها وتواجدها فيه، كي تحيده، باعتباره قوة للأمن القومي العربي، بمعنى آخر فإن إيران إستهدفت من وراء نفوذها الراهن في العراق، إخراج العراق من الناحية الإستراتيجية والتعريف التقليدي من كونه قوة لتحقيق التعادل مع القوى الإقليمية إلى قوة مساندة لإيران، وهكذا إستطاعت إيران أن تحقق نفوذاً سياسياً واسعاً في العراق، من خلال عمل الأحزاب الشيعية القريبة منها، بحيث باتت هي الطرف الأقوى الذي ترغب الولايات المتحدة في الحوار معه بشأن مستقبل العراق، ومستقبل قواتها وجنودها فيه، كما ساهم الغياب العربي عن المعادلة العراقية والإعتماد الكلي على خطط واشنطن لمستقبل العراق ولمواجهة إيران، لمثل هذا التزايد في نفوذ إيران، بحيث باتت دول الجوار العربي الأكثر تأثيراً في ما يجري في العراق.
ربط السياسة الخارجية العراقية بالسياسة الإيرانية.
منــذ تاســيس الدولــة العراقيـــة فــي العقــد الثــاني مــن القــرن العشــرين، واجهــت سياســـة العــراق الخارجيـة مشـكلات رافقتهـا طـوال مسـيرتها وحتـى الوقـت الـراهن، بينمـا كانـت هنـاك مشـكلات مرحليــة إرتبطت بظروف داخلية معينة أو بيئة دولية متغيرة، وكــان المظهـــر العـــام للسياســـة الخارجيـــة العراقيـــة هـــو إنعـــدام التـــوازن، بســـبب الإنقلابـــات والتبـدلات والحـروب الكثيـرة، وتعـرض العـراق للإحـتلال البريطـاني فـي مطلـع القـرن الماضـي، والإحـتلال الأمريكي مع مطلع القرن الإخير.
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وإضافة لما تم تذكره، من قيود حددت السياسة الخارجية العراقية، برز العامل الإيراني هو الآخر كمتغير رئيس حدد من فاعلية العراق الخارجية، ويبرز تأثير الدور الإيراني من خلال نفوذه داخل الأحزاب والمؤسسات المختصة بصنع السياسة الخارجية العراقية، إذ دفعت الولايات المتحدة الأمريكية بإيران بعد احتلال العراق إلى بناء نفوذ قوي لها على الأراضي العراقية، بهدف إنجاح “مشروع الشرق الأوسط الجديد”، وقد تم إختيار إيران لهذه المهمة لعدة أسباب أبرزها، سعي إيران إلى تصدير ثورتها، وبسيطرتها على العراق يتسنى لها ذلك، كون العراق السابق إستطاع أن يوقف المد الثوري الإيراني، وهو أكثر الدول خبرةً في التعامل مع ايران، فضلًا عن تمتع إيران بعلاقات وطيدة مع السياسيين الشيعة في العراق، فقد قامت إيران في ثمانينات القرن الماضي بتشكيل أحزاب عراقية شيعية مضمونة الولاء، فضلًا عن قوتها الناعمة المتمثلة في المجالات: الإقتصادية والدينية والإعلامية.
وفي مجال السياسة الخارجية، استغلت إيران العراق لتدعيم مواقفها الخارجة عن الأعراف والقوانين الدولية، فاستغلته في تدعيم المظاهرات الشيعية في البحرين، وكذلك في دعم النظام السوري، إذ عملت على تطويع المقاتلين الشيعة وإرسالهم إلى سوريا بدعوة الدفاع عن المقدسات، بالإضافة إلى العمل على ضم العراق إلى التحالف الرباعي الذي يضم “إيران، روسيا، وسوريا” للقضاء على الثورة السورية، ولمواجهة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية والذي يضم دولاً عربية على رأسها السعودية، كما أنها دفعته لإستعداء تركيا في فترات متباينة، وهي بذلك عزلت العراق عن محيطه العربي والإقليمي، وجعلت منه دولة مارقة.
إن تصاعد النفوذ الإيراني في العراق ما بعد الإحتلال الأمريكي، كان قد إنعكس على طبيعة الأداء السياسي الخارجي العراقي، الذي لم يستطيع الذهاب بعيداً عن إيران
أضف إلى ذلك، بلغ تأثير النفوذ الإيراني على الدور الخارجي العراقي، خصوصاً بتلك التي تتعلق بالسلوك التصويتي للعراق في اجتماعات مجلس الجامعة العربية وتحديداً في المسائل التي لها علاقة بإيران، إذ قرر مجلس وزراء الخارجية العرب في 11 مارس 2016 اعتبار “حزب الله” منظمة إرهابية. وجاء هذا القرار بعد أسبوع من تأييد وزراء الداخلية العرب لقرار مماثل صدر عن مجلس التعاون الخليجي، وجاء القرار العربي مصحوباً بتحفظ عراقي لبناني، وملاحظة جزائرية، فيما شهدت جلسة المجلس الوزاري العربي إنسحاب وفد العربية السعودية إعتراضاً على كلمة وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري، وهو ماتكرر في مؤتمر قمة مكة الأخيرة.
ما ينبغي الإشارة إليه مما تقدم هو أن تصاعد النفوذ الإيراني في العراق في مرحلة ما بعد الإحتلال الأمريكي، كان قد إنعكس بدوره على طبيعة الأداء السياسي الخارجي العراقي، الذي لم يستطع بدوره الذهاب بعيداً عن إيران في العديد من القضايا الإقليمية والدولية، ولعل مواقف العراق الخارجية في قضية البحرين أو اليمن أو التحالف العربي بقيادة العربية السعودية، هي خير دليل على ذلك.
رعاية العملية السياسية وفرض الطابع الأبوي عليها
لعبت إيران أوقات الأزمات السياسية والصراعات الحزبية دور الوسيط السياسي، لا سيما في حالة ظهور إنشقاقات بين الأحزاب والحركات السياسية، وكذلك فيما بين الفصائل والميليشيات المسلحة، وقد كان لإيران دور مباشر في إقناع التيار الصدري بالانتقال من المقاومة المسلحة إلى المقاومة السلمية، والدخول والإشتراك في العملية السياسية، ودأبت إيران دوماً على إبقاء الأحزاب والتيارات الشيعية في تكتل واحد، يضمن حصصاً لجميع هذه القوى في مؤسسات الدولة، كي لا تحدث مواجهات سياسية تهدد بفرط عقد المنجزات التي حققتها إيران في الإنتخابات المختلفة، وعلى صعيد آخر، إستخدمت إيران وكلاءها من المسلحين الشيعة لإذكاء التوترات الطائفية والتحريض على العنف السياسي، لكي تتقدم حينها دبلوماسياً لحل هذه الصراعات، مما يضمن لها دوراً فاعلاً ومؤثراً في تطورات العملية السياسية العراقية المتأزمة.
وعلى دلك يتضح لنا إن ثمة مصلحة حقيقية لإيران بلعب دور مهم ومؤثر في الساحة السياسية العراقية، ذلك إن دولة بحجم إيران وطموحاتها الإقليمية لا يمكن إن تقف مكتوفة الأيدي إزاء ما يحصل في العراق، وهنا يمكن القول إن الإستراتيجية الإيرانية في العراق تنبع بشكل أو بأخر من طبيعة المصالح الإيرانية في هذا البلد، والمتمثلة في الحيلولة دون ظهور عراق قوي قد يشكل تهديداً سياسياً وعسكرياً وأيديولوجياً لها، على هذا إنطلقت إيران لتنفيذ إستراتيجيتها السياسية في العراق من خلال:
التشجيع على الديمقراطية كوسيلة لإنتاج الحكم الشيعي، وتعد إيران نفسها حامية للمصالح الشيعية في العراق، وهي باعتبارها كذلك، ينظر إليها من قبل الشيعة في العراق بنظرة تنطوي على الإمتنان والحذر في آن معاً.
عملت على تكوين شبكة واسعة من الفاعلين العراقيين المتنوعين والموالين لها، مستفيدة في ذلك من علاقاتها الحميمة والمقربة من بعض القيادات السياسية الشيعية الحاكمة في العراق .
سعت إيران إلى إعتماد مبدأ يقوم على أساس الترويج لإيجاد درجة من “الفوضى سهلة الإنقياد”، للإنخراط أكثر في الشأن العراقي.
ويقول الباحثان الأمريكيان جوزيف فلتر وبريان فيشمان في دراسة أعداها لـ”مركز محاربة الإرهاب” في “ويست بوينت” في الولايات المتحدة الأمريكية، نشرت في أكتوبر 2008: “إن لإيران نمطين أساسيين لممارسة النفوذ، يتركز النمط الأول وهو الأكثر أهمية، في برمجة النفوذ السياسي من خلال تفعيل العلاقات التاريخية الوثيقة مع العديد من المنظمات الشيعية في العراق: “المجلس الأعلى، منظمة بدر، وحزب الدعوة”، أما النمط الثاني، فهو أن إيران تستعمل الحرس الثوري الإيراني وقوة القدس في تقديم المساعدات بشكل تدريب القوى شبه العسكرية والأسلحة والتجهيزات إلى مختلف المجموعات المسلحة العراقية. التي تعمل ضمن مسمى الحشد الشعبي.
تعاملت إيران مع العراق كغنيمة حرب بعد إحتلاله، وقامت بفرض وصايتها على العملية السياسية،
ولا نكاد نرى دليلاً على مدى التوغل الإيراني في العراق أوضح من إضطرار الولايات المتحدة للتباحث معها حول مستقبل العراق، وذلك في ظل الصدام القوي بين واشنطن وطهران، بسبب برنامج طهران النووي آنذاك، فيما يظهر على أنه اعتراف ضمني من الولايات المتحدة بعدم قدرتها على تحييد إيران في الشأن العراقي، وتلقفت إيران تلك التطورات الناتجة عن الأخطاء الأمريكية في نقل السلطة، ودعمت حكومات المحاصصة الطائفية، وسارعت بالاعتراف بها وتوطيد العلاقات معها، وهو ما أعطى لطهران موطئ قدم في العراق في كل الحكومات التالية تقريباً، إذ عملت على ترسيخ القاعدة التي بدأتها الولايات المتحدة بـ”تعزيز النهج الطائفي في إقتسام السلطة”.
وإستكملت تنفيذ إستراتيجيتها في العراق، من خلال محاولة التحكم في “العملية الإنتخابية العراقية”، عن طريق حلفائها العراقيين أنفسهم، ولم تسلم الشؤون الخارجية للعراق من التدخلات الإيرانية، شأنها في ذلك شأن التدخلات في الشؤون الداخلية، إذ أعترضت إيران على الإتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة، المتعلقة بتحديد وضع القوات الأمريكية وإنسحابها من العراق، ولهذا إضطر رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي للذهاب إلى طهران، في محاولة لطمأنة نظام طهران، والتعهد بأن ينص الاتفاق النهائي على منع الولايات المتحدة من مهاجمة إيران إنطلاقاً من الأراضي العراقية، وأستفادت إيران مرة أخرى من أخطاء واشنطن بسيطرة تنظيم داعش على مساحات واسعة من العراق، إذ تلاقت مرة أخرى المصالح الأمريكية والإيرانية من أجل القضاء على التنظيم، إذ قدمت إيران دعماً كبيراً للحكومة العراقية في معاركها مع التنظيم، بحيث سيطرة هي على الأرض، في حين سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على الجو، فيما يبدوا أنه تقاسم للأدوار في العراق، وما اعتراف وزير الدفاع العراقي السابق خالد العبيدي، بالدعم الكبير الذي تلقاه العراق من إيران إلا دليلاً على ذلك، وعلى هذا الأساس تغاضت واشنطن عن الدور الإيراني غير المسبوق في العراق الذي وصل لمرتبة “الإحتلال”.
تحويل العراق إلى مرتكز رئيس في إستراتيجيتها الإقليمية
تنطلق استراتيجية إيران الإقليمية في رؤيتها للعلاقات الدولية من منطلق مصالحها الحيوية، ويبدو أن الصراع بين الإصلاحيين والمحافظين ليس له إنعكاس ظاهر على جوهرها وأهدافها، وإنما على آليات وإستراتيجيات تحقيقها، لأن قضية المصالح الوطنية الإيرانية تبقى محل إجماع وطني، وقد لا يكون الدور الذي تلعبه إيران اليوم في المنطقة فقط وليداً لسياستها الخارجية الراهنة، وإنما يعود لوجود عوامل أخرى ساعدت على بلورة وإنضاج وتصاعد هذا الدور، فإيران لم تخرج في سعيها لتحقيق أهدافها الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، عن أهدافها وسياساتها طوال سنوات الحرب الباردة، وقبل استيلاء الثورة الخمينية على الحكم.
وإنطلاقاً من هذه الرؤية تعاملت إيران مع العراق كغنيمة حرب بعد إحتلاله، وقامت بفرض وصايتها على العملية السياسية، وحافظت على نظام المحاصصة، الذي أرست قواعده واشنطن ولندن أثناء تشكيلهما لمجلس الحكم الانتقالي، الذي أدار العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، ومن خلال نظام إنتخابي بالغ التعقيدات، مكّن الموالين لها من الوصول إلى السلطة والإستئثار بها، ووضع اليد على المال العام والثروات، وتسخير الدولة لخدمة فئات حزبية وطائفية “سنية وشيعية”، وتعاملت إيران مع القضايا الوطنية العراقية من منظور المصلحة الإيرانية، ليس آخرها تسخير التطورات الأمنية العراقية في خدمة إستراتيجيتها الأمنية في الشرق الأوسط. فالدور الإيراني في سوريا واليمن والبحرين، يجد مرتكزه الرئيس في العراق، على إعتبار أن كل عمليات الدعم اللوجستي والمعنوي الذي تتلقاه إيران في هذه الساحات يأتي من العراق، فهناك العديد من المعسكرات المنتشرة بمختلف المدن العراقية التي تقوم بتدريب وتأهيل الآف المتطوعين للقتال في اليمن والبحرين وسوريا، فضلاً عن عمليات الإستشارة التي تقدمها القيادات العسكرية الإيرانية والمليشياوية العراقية لهذه الجماعات المقاتلة، ولعل الإتفاق الأخير الذي حصل بين الحوثيين وبعض قادة المليشيات المسلحة بالحشد الشعبي في ديسمبر 2016، بتقديم الدعم والإستشارة العسكرية للحوثيين خير مثال على ذلك.