تحول حيّا الشيخ مقصود والأشرفية وأحياء مجاورة تقع تحت سيطرة ميليشيا “قسد” إلى بؤرة موت تبتلع التائهين من أهالي مدينة حلب وريفها جراء عمليات الخطف والقنص والإعدام الميداني التي تطال المدنيين العائدين إلى منازلهم والعسكريين الجوالين ضمن إدارة العمليات العسكرية.
ورغم سيطرة إدارة العمليات العسكرية على مدينة حلب في إطار عملية “ردع العدوان” التي أطاحت بنظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول، فإن حيي الشيخ مقصود والأشرفية وعددًا من الأحياء المحيطة التي ترصدها ناريًا عبر القناصة أو تصلها عبر شبكة الأنفاق لا تزال تحت سيطرة ميليشيا “قسد”، ما يهدد أمن العائلات العائدة واستقرارها في منازلها.
خطف وقنص وإعدام ميداني
تكررت عمليات القنص والإعدام الميداني للمدنيين العائدين إلى منازلهم والعسكريين التابعين لإدارة العمليات العسكرية في أثناء مرورهم قرب الأحياء السكنية التي تسيطر عليها ميليشيا “قسد” في الشيخ مقصود والأشرفية.
حيث قتل الشاب محمود عباس، وأسر كل من محمد عباس وبهاء عباس، من مدينة مارع، بعد دخولهم حي الشيخ مقصود بالخطأ عصر السبت 28 ديسمبر/كانون الأول، فيما قتل كل من قصي حراج وأحمد عثمان من مدينة تل رفعت، وهما عسكريان ضمن إدارة العمليات العسكرية، في أثناء مرورهما في شارع الزهور باتجاه حي الأشرفية الواقع تحت سيطرة ميليشيا “قسد”، بعدما تاها في الطريق، ليلة السبت 27 ديسمبر/كانون الأول الجاري.
بينما فُقد الاتصال مع الشابين وليد عدنان رحموني وبشار ياسر رحموني من أبناء مدينة أعزاز، عندما كانا يستقلان سيارة سانتفيه (CM)، في مدينة حلب الجمعة 27 ديسمبر/كانون الأول، حيث نشر ذويهما رقمًا للتواصل معهم، إلا أن الأهالي يرجحون اعتقالهما من ميليشيا “قسد” في الأحياء التي تسيطر عليها.
وفي 18 ديسمبر/كانون الأول الجاري، قتل الشاب محمد فرج الذي ينحدر من مدينة مارع شمال حلب، كما قتل الشاب مصطفى أوسو الذي ينحدر من بلدة حيان، في 13 ديسمبر/كانون الأول، قنصًا في أثناء المرور قرب دوار الليرمون الواقع على أوتوستراد حلب-غازي عنتاب ويحاذي حي بني زيد الواقع تحت سيطرة “قسد”، شمال غربي مدينة حلب.
وأظهرت صور جوية نشرها ناشطون خلال الأسبوع الأول من الشهر الجاري عددًا من الجثامين المتفحمة لمدنيين وعسكريين مارين على الطريق الواصل بين دوار الليرمون ودوار الشيحان، دون القدرة على سحب الجثث من قبل الدفاع المدني والهلال الأحمر السوري.
وفي وقت مبكر من سيطرة إدارة العمليات العسكرية على حلب، نفذت “قسد” عمليات خطف لمدنيين وناشطين، في أحياء الهلك وبعيدين، وقامت بإعدامهم ميدانيًا، حسب مشاهد مصورة بثها القتلة عرف من بينهم الناشطان قاسم ومحمد مدلج، وابن عمهما حسن مدلج.
وأكد مصدر محلي من سكان مدينة حلب لـ”نون بوست”، أن الميليشيات اعتقلت عددًا من المدنيين العائدين إلى منازلهم في حي الهلك وبعيدين شرقي الشيخ مقصود نتيجة اعتقادهم أن الأحياء آمنة، دون ورود أي معلومات عن مصيرهم، مضيفًا أن أحد سكان حي الهلك طالب باستعادة منزله من شخص يقيم فيه، لكنه لم يستطيع الحصول عليه، بسبب تهديده من قبل “قسد” ما اضطره إلى مغادرة الحي دون القدرة على دخول منزله.
عزل المدينة عن الريف
تزداد مخاوف الأهالي مع استمرار استهداف القناصة بشكل متكرر للمارين على الطرقات الرئيسية الواصلة من منطقة دوار الجندول مرورًا بدوار الميدان والشيحان، وصولًا إلى دوار الليرمون، كما تمنع آلاف العائلات من العودة أو تفقد منازلها في الهلك وبستان الباشا، والشيخ خضر والشيخ طه.
تسببت عمليات الاستهداف في عزل الريف عن المدينة، نتيجة قطع الطرقات الرئيسية الواصلة بين منطقتي أعزاز، عفرين ومدن مارع، صوران، تل رفعت، حيث يخشى الأهالي من المرور عبر الطرقات التي تكررت فيها عمليات الخطف والقنص.
يضطر عبد السلام الأحمد، سائق سرفيس من مدينة أعزاز إلى السير في طرقات طويلة، ما يزيد مدة الرحلة، ويضاعف تكاليف إصلاح الآلية بسبب الطرقات الوعرة، حيث يسير من مدينة أعزاز على أستراد حلب-غازي عنتاب، وصولًا إلى مدينة عندان، حريتان، كفر حمرة ومنها يتوجه في طرقات فرعية وصولًا إلى بلدة معارة الأرتيق، ومنها إلى بلدة المنصورة وصولًا إلى حي حلب الجديدة.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “الطريق خطر للغاية ولا يمكننا عبوره، لذلك نضطر إلى سلك طرقات وعرة بهدف الحفاظ على حياتنا”، مضيفًا “عمليات القنص مستمرة، كل يوم نسمع عن مقتل شخص في أثناء عبوره من دوار الليرمون باتجاه دوار الشيحان”.
من جانبه، يضطر جمال العلي، وهو من أهالي مدينة مارع، إلى الذهاب من مدينته باتجاه حلب، من الطريق الشرقي مرورًا بمنطقة الشيخ نجار، مجتازًا مسافة أطول بسبب رصد ميليشيا “قسد” لدوار الجندول الواقع بين حي الشيخ مقصود والهلك شمال مدينة حلب.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “الطريق من مارع حتى مدرسة المشاة آمن نسبيًا، لكن نضطر إلى التوجه عبر طريق الشيخ نجار (الطريق الشرقي) حيث تطول المسافة، لأننا ندخل من الأحياء الشرقية البعيدة عن مركز المدينة”.
وأضاف “الطريق الأساسي كان يمر من مدرسة المشاة نحو المسلمية، المنطقة الحرة، السجن المركزي، منطقة شقيف الصناعية وصولًا إلى دوار الجندول، لكن يصعب المرور عليه حاليًا بسبب رصد المناطق بالقناصة وإمكان الميليشيات تنفيذ عمليات خطف ضمن الأحياء المهجورة”.
ويحاول الأهالي تأمين حركات التنقل بين الريف والمدينة بهدف الحفاظ على حياتهم لأن معظم القرى والبلدات والأحياء المحيطة بمدينة حلب تكاد تكون مدمرة بالكامل، وخالية من السكان، وقد تحوي فلولًا من عناصر النظام السابق وميليشيا “قسد” التي تربطها شبكة أنفاق مع حي الشيخ مقصود.
اتخاذ المدنيين دروعًا بشرية
بعد سيطرة إدارة العمليات العسكرية على مدينة حلب في 30 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، استغلت ميليشيا “قسد”، انسحاب قوات النظام السابق من مواقعها العسكرية، متقدمةً إلى عدد من الأحياء الشرقية وصولًا إلى مطار حلب الدولي، ومعامل الدفاع في السفيرة، فضلًا عن وصل مناطق سيطرتها مع تل رفعت شمال حلب وصولًا إلى منطقة منبج في ريف حلب الشرقي.
بينما أطلقت فصائل الجيش الوطني عملية “فجر الحرية” في الأول من ديسمبر/كانون الأول الجاري، استطاعت من خلالها قطع طريق الإمداد بين مناطق سيطرتها في ريف حلب الشمالي ومناطق سيطرتها في منبج، ما دفعها إلى الانسحاب بالتوازي مع العمليات العسكرية لفصائل “ردع العدوان” التي استهدفت المواقع التي سيطرت عليها “قسد” بعد انسحاب النظام.
لكن بعد حصارها وطردها من تل رفعت عقدت “قسد” اتفاقًا مع فصائل الجيش الوطني وإدارة العمليات العسكرية يقضي بسحب المقاتلين العسكريين وعائلاتهم من قرى سد الشهباء، حربل، أحرص، فافين، أم حوش، في ريف حلب، وحيي الشيخ مقصود والأشرفية إلى مناطق شرق الفرات.
وساهم الجيش الوطني في عمليات خروج المقاتلين وعائلاتهم من المنطقة عبر الشيخ نجار وصولًا إلى مدينة منبج، ومنها عبر جسر قرقوزاق نحو الرقة، إلا أن مقاتلين في حيي الشيخ مقصود والأشرفية رفضوا الخروج، إذ تؤكد شهادات الأهالي وجود حواجز عسكرية لـ”قسد” داخلهما.
وتتمركز قوات “قسد” في أحياء الشيخ مقصود، الأشرفية، بني زيد، شمال غربي مدينة حلب، وتنفذ عمليات الخطف في أحياء الهلك، بعيدين وبستان الباشا، الشيخ خضر، الشيخ طه، الميدان، الخالدية، السبيل، فضلًا عن عمليات قنص، محيط دوار الجندول، دوار الشيحان، دوار الليرمون.
يقول م. جعفر، أحد سكان حي الأشرفية، لـ”نون بوست”: “إن “قسد” تمنع العائلات من الخروج من مناطق سيطرتها بالكامل، وإنما تسمح بمرورهم كأفراد عبر حواجزها لقضاء احتياجاتهم اليومية من الأسواق خلال ساعات النهار”.
ويضيف، أن معظم سكان حيي الشيخ مقصود والأشرفية يعيشون في منازلهم ولا يستطيعون الخروج إلا لقضاء احتياجاتهم، وفي حال قرر أحدهم مغادرة الحي فإن الميليشيات تمنعهم لأنها تتخذهم كدروع بشرية، مشيرًا، إلى أن نسبة قليلة من السكان غادروا الأحياء خلال الاتفاق مطلع الشهر الجاري، مؤكدًا أن معظمهم اضطر للبقاء بهدف الحفاظ على ممتلكاته وأرزاقه.
“قسد” في مدينة حلب
يقع حي الشيخ مقصود على مرتفع يشرف على معظم أحياء المدينة المنبسطة بمساحة تقدر بـ4 آلاف متر مربع، ويعد من أكبر أحياء مدينة حلب، بينما يحده من الغرب حيي الأشرفية وبني زيد بينما من الشرق نهر قويق، وبعيدين، الهلك، بستان الباشا، الشيخ خضر.
ويسكن حيي الشيخ مقصود والأشرفية نحو 200 ألف شخص غالبيتهم من المكون الكردي، فضلًا عن وجود عائلات عربية، قدموا من أرياف محافظة حلب في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وغالبيتهم من العاملين في المعامل والمنشآت الصناعية والموظفين الحكوميين.
ويعرف عن الحيين أنهما من الأحياء الشعبية توسعت غالبيتها بشكل عشوائي مع استمرار عمليات النزوح والهجرة السكانية للأرياف بحثًا عن العمل، لتتحول الأحياء إلى مركز يأوي آلاف العائلات من خلفيات قومية وعرقية متنوعة، وسط إهمال خدماتي وأمني من النظام السابق.
ومع اندلاع الثورة السورية فرضت “وحدات حماية الشعب” سيطرتها على حيي الشيخ مقصود والأشرفية بعد دخول قوات المعارضة السورية إلى مدينة حلب عام 2012 حتى عام 2015 مع انسحاب قوات النظام السابق إلى الأحياء الغربية.
لكن في ديسمبر/كانون الأول 2016، شن النظام السابق وحلفاؤه عملية عسكرية واسعة بدعم جوي روسي وبري إيراني، تسبب في حصار المعارضة ضمن الأحياء الشرقية، بعدما ساندت ميليشيات “قسد” النظام من خلال قطع طريق الكاستليو الذي كان يربط مناطق سيطرة المعارضة مع ريف حلب الشمالي، ما أفضى إلى تهجير السكان.
توازيًا مع عملية النظام العسكرية توسعت سيطرة ميليشيا “قسد” من أحياء الشيخ مقصود والأشرفية إلى بني زيد في الغرب وأحياء بعيدين والهلك وبستان الباشا في الشرق، بعد انسحاب قوات المعارضة السورية، لكنّها اضطرت إلى تسليمها للنظام السابق في فبراير/شباط 2018 مقابل تقديم الدعم العسكري لقواتها ضد فصائل المعارضة والجيش التركي في عملية غصن الزيتون بمنطقة عفرين.
وبقيت ميليشيا “قسد” مسيطرة على أحياء الشيخ مقصود والأشرفية وبني زيد مقابل أحياء تخضع لسيطرة النظام السابق في مدينتي القامشلي والحسكة شمال شرقي سوريا، لكن مع سقوط النظام وخسارتها مناطق استراتيجية مثل منبج وتل رفعت في ريف حلب الشمالي والشرقي بقيت الأحياء آخر معاقلها غرب الفرات.
وإلى الآن لم تصل الأطراف إلى اتفاق واضح يحدد مصير “قسد” في مدينة حلب، بينما تشهد منطقة سد تشرين الواقعة على ضفاف الفرات اشتباكات متواصلة بين فصائل الجيش الوطني ضمن عملية “فجر الحرية” من جهة وميليشيا “قسد” من جهة أخرى، رغم الهدنة التي رعتها واشنطن وأنقرة، بينما يغيب دور إدارة العمليات العسكرية المنضوية في عملية “ردع العدوان”.
ويطالب أهالي مدينة حلب بإيجاد حل يحقق الأمن والاستقرار، لأنه من غير الطبيعي أن تبقى عمليات القنص والاغتيال والاختطاف مستمرة بحق المدنيين دون وجود رادع حقيقي تفرضه إدارة العمليات العسكرية على “قسد” لإنهاء وجود ميليشياتها ضمن أحياء المدينة وتأمين عودة آمنة للسكان.