يطوي العام 2024 أيامه الأخيرة في سوريا التي شهدت على مر الأشهر الفائتة الكثير من الأحداث على المستوى الاجتماعي والأمني والاقتصادي، إلا أن الأحداث السياسية المتفجرة بشكل خاص عكست تغييرات جذرية ومحورية في حياة السوريين وترتيبات المشهد السوري المستقبلي، لا سيما مع ختام العام.
لم يكن هذا العام كأي عام مضى في تاريخ سوريا المعاصر، فبعد عقود طويلة من الاستبداد تحت نظام شمولي حكم البلاد بقبضة من حديد لأكثر من خمسين عامًا، شهد السوريون لحظة تاريخية حملت في طياتها الأمل والتغيير. نهاية هذا العام كانت نقطة تحول استثنائية، ليس فقط في مسار الأحداث السياسية، بل أيضًا في وجدان الشعب السوري الذي ظن، لسنوات طويلة، أن الأمل بات بعيد المنال.
في هذا التقرير يفرد “نون بوست” حصادًا مفصلًا عن الأحداث التي عصفت بالبلاد بمختلف المجالات.
افتتاحية العام بتهريب الكبتاغون
أوائل العام 2024 كانت مشكلة تهريب المخدرات من سوريا إلى الأردن في تصاعد كبير، خاصة مع تطور عمليات التهريب والتحول إلى تهريب الأسلحة أيضًا وصولًا إلى خوض اشتباكات حرب مفتوحة بين عصابات تهريب المخدرات والسلاح المدعومة إيرانيًا من الجهة السورية والجيش الأردني.
التطور الأبرز كان دخول الطيران الحربي الأردني على خط المواجهة حيث استهدف عدة مزارع وشخصيات مرتبطة بعمليات التهريب داخل الأراضي السورية جنوبًا في درعا والسويداء.
لكن ذروة التوتر بين الجارتين جاءت بعد بيان خارجية النظام المخلوع جراء استهداف إحدى الغارات الأردنية لمدنيين عزل بينهم نساء وأطفال وتضرر عدة مبان مجاورة، إذ حمّل البيان الأردن مسؤولية سقوط آلاف الأبرياء والتسبّب بمعاناة كبيرة للسوريين في مختلف مجالات الحياة وتدمير البنى التحتية في سوريا بعد دخول الأسلحة والإرهابيين منذ عام 2011 سوريا.
عزلة خارجية تطوق النظام المخلوع
مع الانكماش السياسي الذي مارسه النظام المخلوع ورفضه التقدم بالحل السياسي خطوة واحدة، عاش النظام على صفيح ساخن، إذ صوت مجلس النواب في الكونغرس الأمريكي، خلال الثلث الأول من العام على مشروعين.
في فبراير/شباط صوت على مشروع قانون “مناهضة التطبيع مع نظام الأسد” والذي يمنع اتخاذ أي إجراء رسمي للاعتراف أو تطبيع العلاقات مع أي حكومة سورية يقودها الأسد، ومعارضة أي خطوة مماثلة من الدول الأخرى، بما في ذلك عبر التطبيق الكامل للعقوبات لتشمل أنشطة وأشخاصًا وكيانات إضافيين.
وفي أبريل/نيسان صوّت على قانون مكافحة مخدرات “الكبتاغون 2″، الذي يدعو إلى فرض عقوبات على حكومة دمشق و”حزب الله” اللبناني وشبكاتهما، وجميع من ينشط أو ينخرط بالاتجار في المخدرات، ليكون القانون متممًا لقانون “الكبتاغون 1” الذي أقر أواخر 2022، والذي يدعو الحكومة الأمريكية لوضع استراتيجية عامة لتعطيل شبكات “الكبتاغون” المرتبطة بحكومة دمشق.
خطوة تشريع القانونين تبعها مباشرة وتحديدًا في يونيو/حزيران سابقة قانونية وُصفت بـ”التاريخية”، إذ صادق القضاء الفرنسي على مذكرة توقيف بحق رئيس النظام السوري المخلوع بشار الأسد، بعد إدانته بالتواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في الهجمات الكيماوية بسوريا.
وجاء هذا الحكم الذي استطاع إزالة حصانة الأسد الشخصية كمقدمة لإجراء محاكمة ضده في فرنسا، لا سيما أن المصادقة على مذكرة التوقيف تعدّ الأولى الصادرة عن محكمة أجنبية ضد رئيس دولة ما زال يمارس الحكم ضمن منصبه.
على النقيض من الخطوة الأمريكية والفرنسية كانت تركيا التي وصفها مراقبون بأنها تخلت عن فكرة “سوريا بدون الأسد”، ترسل برسائل إلى النظام المخلوع تبدي فيها رغبتها بالانفتاح معه وتحقيق السلام، بلغت ذروة تلك الرسائل بتصريح الرئيس التركي أردوغان في يونيو/حزيران، مبديًا استعداده للقاء الأسد، لينضم إلى رئيس حزب الشعب الجمهوري، المعارض الرئيسي في تركيا، أوزغور أوزال، إلا أن العقبة الأبرز كانت متمثلة بإصرار الأسد على انسحاب تركيا من الشمال السوري قبل البدء بأي حوار.
وقدمت تركيا خلال تلك الفترة خطوات عدة للتقدم في مسار التقارب مع النظام جاء في مقدمتها فتح معبر “أبو الزندين” بريف حلب، والذي قوبل برفض شعبي في مناطق ريف حلب واستنفار فصائل عسكرية تتبع للجيش الوطني على رأسها الجبهة الشامية المدرجة ضمن مرتبات الفيلق الثالث بالجيش الوطني المعارض، وما تبع ذلك من صدام سياسي بينها وبين رئيس الحكومة المؤقتة، عبد الرحمن مصطفى، تطور إلى تجميد الشامية تعاونها مع حكومة مصطفى وإحالته إلى القضاء وحجب الثقة عن حكومته.
اللاجئون السوريون بدول الجوار
حملت الأشهر الماضية حملات قمع ضد اللاجئين السوريين في العديد من البلدان، حيث وثقت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في أبريل/نيسان تصاعد “القمع” ضد اللاجئين السوريين في لبنان، بما في ذلك احتجازهم تعسفيًا وتعذيبهم وتنفيذ عمليات ترحيل غير قانونية بحق الآلاف، بينهم أطفال ومعارضون ومنشقون.
وزاد المسؤولون اللبنانيون دعواتهم إلى عودة اللاجئين، منذ مقتل المسؤول في حزب “القوات اللبنانية” باسكال سليمان، ما تسبب بتأجيج العنف ضد السوريين، وتعرضهم للضرب والمطالبة برحيلهم، إضافة إلى فرض حظر تجول تمييزي عليهم.
حملات التضييق على السوريين في لبنان كانت متزامنة مع قرار سلطات إقليم كردستان العراق وقف منح إقامات للسوريين الواصلين إليها، ضمن إجراءات شملت وقف إصدار تأشيرات دخول للسوريين.
تبع تلك الحملات بشهر واحد أحداثٌ أكثر مأساوية في تركيا تجاه اللاجئين أيضًا، إذ شهد شهر يوليو/تموز أحداث عنف لحقت باللاجئين السوريين في مدينة قيصري التركية، عبر الاعتداء الجماعي على بيوتهم ومتاجرهم وممتلكاتهم وإحراق سياراتهم في تسعة أحياء.
ورغم تصريحات الرئيس التركي الرافضة لأحداث قيصري والتهجم على السوريين، فقد طالت حملات ترحيل جماعي السوريين الذين تعرضوا لاعتداءات، رغم سلامة أوراقهم.
وسبق تلك الأحداث بشهر واحد تحرك 41 منظمة مجتمع مدني تركي، لمطالبة الحكومة حينها بتكثيف الترحيل بحجة أن السوريين سبب مباشر لتردي معيشة الأتراك وسرقة فرص العمل والموارد المحدودة وغلاء الأسعار، إضافة إلى مخاوفهم لما وصفوه بالتغيير الديمغرافي.
في ذات السياق، كان تقرير أوروبي قد كشف عن تلقي لبنان وتركيا والأردن ومصر خلال عامي 2023 و2024، أكثر من 4.6 مليار دولار على شكل منح، ونحو ملياري دولار على شكل قروض، ضمن مساعدات تتعلق باستضافة اللاجئين السوريين.
على الصعيد الإنساني والصحي
على الرغم من اعتماد غالبية سكان شمال غرب سوريا الذي كان يخضع لقوات المعارضة السورية، على المساعدات المقدمة من برنامج الأغذية العالمي، فإن المساعدات خُفّضت في يونيو/حزيران الفائت لنحو 2.5 مليون شخص بسبب أزمة نقص التمويل.
وخفضت تلك المساعدات بالتوازي مع صدور تقرير أممي أشار إلى أن أكثر من مليون طفل وطفلة لا يذهبون إلى المدارس في مناطق شمال غربي سوريا.
وحسب منظمة “أطباء بلا حدود”، فإن نقص التمويل أدى إلى تعليق ثلث المرافق الصحية أنشطتها كليًا أو جزئيًا، مع اعتبار أن الاستجابة للاحتياجات الإنسانية في سوريا لعام 2024 تتطلب ما يصل إلى 4.07 مليار دولار.
إلا أن مؤتمر بروكسل (ينظمه الاتحاد الأوروبي) الذي انعقد بعد يومين من تقرير المنظمة لم يستطع تحصيل سوى ملياري يورو، مع تمديد الاتحاد الأوروبي العقوبات على النظام السوري وأعوانه حتى 1 يونيو/حزيران 2025.
من جهتها كانت منظمة “الصحة العالمية”، حذرت أيضًا من أن النظام الصحي في شمال غربي سوريا قد “تعطل بشدة”، بعد 13 عامًا من الصراع والكوارث الطبيعية، بالتزامن مع وقف الدعم عن عشرات المنشآت الصحية، ما يعني أن 80% من إجمالي سكان شمال غربي سوريا، البالغ عددهم 5.1 مليون نسمة، يحتاجون إلى مساعدة صحية، كما أن الأمراض المعدية وغير المعدية لا تزال تهدد السكان في المنطقة، وتتسبب فيما يصل إلى 75% من الوفيات، حيث تفشت أمراض مثل الكوليرا والحصبة “التي كانت في السابق عرضية”.
في مخيم الركبان الصحراوي الواقع أقصى الجنوب السوري وبعد تجاهل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي للمناشدات العاجلة لإنقاذ النازحين المحاصرين فيه، توفي 5 أطفال وتم تسجيل إصابة أكثر من 500 طفل و100 مسن باليرقان، الأمر الذي دفع قاطني المخيم لتنفيذ اعتصام مفتوح ومظاهرات عند الساتر الترابي الذي يفصل بين الأردن وسوريا، بهدف الضغط وإطلاق خطة مستعجلة لإنقاذهم.
ولم تتوقف مأساة الأطفال في المخيم المحاصر، بل انتقلت إلى المناطق التي تعتبر أكثر آمنًا في الجولان المحتل، فقد سقط 12 طفلًا في ملعب كرة قدم ضحايا ضربة صاروخية قاتلة نفذها “حزب الله”، يوليو/تموز، في مجدل شمس ذات الأغلبية الدرزية.
شمال شرق سوريا والبادية
خلال العام الجاري اتجهت الأنظار في مناطق شمال شرق سوريا القابعة تحت سيطرة قوات “قسد “الكردية نحو خمسة أحداث كبرى دارت حولها الكثير من التحليلات والتصورات عن مستقبل المنطقة، وهي:
- استغلت “قسد” الانشغال الإقليمي وعزمت على إجراء انتخاب بلدية قبل تأجيلها أكثر من مرة، بعد أن قوبلت برفض شعبي من العشائر العربية هناك، وتهديد تركي شديد اللهجة، ومعارضة أمريكية.
- عزمت على تجديد واستبدال المناهج التعليمية العربية والكردية للمراحل الدراسية كافة بمناطق سيطرتها شمال شرقي سوريا، والذي قوبل أيضًا برفض واسع ومظاهرات ولا سيما في منبج بريف حلب.
- مؤخرًا وبالتزامن مع إسقاط النظام أعاقت “قسد” التوصل إلى إدارة انتقالية تشمل كل البلاد، لا سيما أنها بقيت هي الوحيدة حجر عثرة أمام توحيد الأراضي السورية بعد انتزاع مواقع مهمة منها كتل رفعت ومنبج وير حافر ودير الزور والتركيز حاليًا على عين العرب والرقة.
- شهدت مدينتا الحسكة والرقة يوم 11 ديسمبر/كانون الأول الجاري انتفاضة للعشائر العربية – التي تشكل أغلبية السكان في المحافظتين – وهو ما زاد من حالة الاحتقان الشعبي ضد التنظيم.
- في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى يونيو/حزيران 2024، تبنى تنظيم داعش الذي يتخذ من البادية السورية التي كانت منقسمة ما بين سيطرة قسد وميليشيات إيران، 153 هجومًا في العراق وسوريا وهو ضعف العدد الإجمالي للهجمات التي أعلن مسؤوليته عنها في عام 2023، ما يعني أن التنظيم يحاول إعادة تشكيل نفسه بعد عدة سنوات من انخفاض قدراته.
“الأسد” دوران بحلقة مفرغة
في ربيع العام الجاري عمد الأسد المخلوع إلى إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية عبر تغييرات كبيرة على مستوى الأجهزة الأمنية وفروع المخابرات، إذ دمج شعبة الاستخبارات العسكرية والمخابرات الجوية في جهاز أمن واحد تحت مسمى “مخابرات الجيش والقوات المسلحة”. بعد جملة من الإقالات والتعيينات طالت ضباطًا كبارًا، وسبقت هذه الخطوة تعيين سفيرين في دمشق لكل من السعودية والإمارات، في بادرة تتعلق بالمبادرة العربية والتطبيع.
أما أواخر شهر مايو/أيار فكان الحدث الأبرز اللافت الذي تعلق بأسرة رأس النظام المخلوع، إذ تمّ الإعلان عن إصابة زوجته أسماء الأسد بمرض سرطان الدم بعد ظهور أعراض وعلامات سريرية تبعتها سلسلة من الفحوصات، حيث تم تشخيص إصابتها بمرض الابيضاض النقوي الحاد (لوكيميا).
فيما أعلنت السفارة الإيرانية بعد يوم واحد – وكردٍّ على غياب الأسد عن العزاء في طهران – إقامة حفل تأبيني بوفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان ومرافقيهما، إثر حادث تحطم مروحية كانت تقلهم شمال غربي إيران.
ليتبعه مباشرة وفي نفس الشهر مشاركة الأسد في القمة العربية الـ33 التي استضافتها البحرين، وبقاؤه صامتًا دون أن يلقي أي كلمة، ثم لقاؤه المرشد الإيراني علي خامنئي في طهران والتي تعتبر آخر زيارة له إلى إيران قبل سقوطه.
إنهاء “حزب الله” وإيران في سوريا
منذ مطلع العام الحالي وما قبل لم تتوقف الاستهدافات الأمريكية لقادة إيرانيين، لا سيما في شمال شرق سوريا وتحديدًا في دير الزور والبوكمال الصندوق الأسود الإيراني في سوريا، وجاء ذلك بالتزامن مع وصول قاذفات أمريكية من طراز “بي-52 ستراتوفورتريس” من جناح القاذفات الخامس إلى منطقة مسؤولية القيادة المركزية الأمريكية في رغبة أمريكية توحي بتجاوز مسألة ردع إيران شمال شرق سوريا إلى الانخراط المباشر معها، وقطع طريق إمدادها لـ”حزب الله” القادم من العراق عبر دير الزور والبادية السورية.
أما الاستهدافات الإسرائيلية فقد كانت الأكبر من حيث تنوع وحجم الأهداف، إذ طالت إلى جانب قادة إيرانيين مراكز ومواقع إيرانية مهمة، إضافة إلى قادة يتبعون لـ”حزب الله” وحركة الجهاد الإسلامي، ومواقع تتبع لقوات النظام المخلوع.
في أبريل/نيسان كانت الغارة الإسرائيلية التي استهدفت مبنى القنصلية الإيرانية بدمشق وقتل فيها قائد فيلق القدس في لبنان وسوريا، العميد محمد رضا زاهدي إلى جانب قياديين آخرين كأول رد قاسٍ يمكن أن يستهدف مبنى سياسي ومدني.
ثم تواصلت سلسلة الاغتيالات بوتيرة أكثر ارتفاعًا على الأراضي السورية ولا سيما مع قتل قيادات الصف الأول لـ”حزب الله” في لبنان وعلى رأسهم زعيمه حسن نصر الله، إذ تبعه اغتيال شخصيات كثيرة أهمها: قائد الوحدة 4400 في “حزب الله” محمد جعفر قصير، المعروف بلقب الحاج فادي، وخليفته القائد الجديد علي حسن غريب، الملقب بأيمن أبو حسن في أكتوبر/تشرين الأول الفائت.
وأعلنت “إسرائيل” صراحة أنها مصرة على استهداف إمدادات أساسية من الأسلحة التي تصل إلى “حزب الله” من إيران، وكل بنية تحتية ترصد في سوريا التي تستخدم لإنتاج أو نقل وسائل قتالية لصالح الحزب.
أما استهدافات المواقع فقد شملت مطاري “حلب ودمشق” وطرق إمداد ومستودعات تخزين الأسلحة، لا سيما في أرياف دمشق والقصير والقلمون، لكن العملية الأدق كانت في سبتمبر/أيلول الفائت، حين شنَّ الجيش الإسرائيلي هجومًا وُصف بـ”غير العادي” على عدة مواقع استراتيجية في مصياف، والتي كانت أهم وأخطر القواعد العسكرية الإيرانية، لاحتوائها على مركز رئيسي لتطوير وتصنيع الأسلحة التقليدية كالبراميل المتفجرة، والأسلحة غير التقليدية كالأسلحة الجرثومية والكيمياوية وشمل الهجوم “إنزالًا جويًا” لقوات نخبة الاحتلال التي اشتبكت بشكل مباشر مع عناصر تابعة لإيران.
فيما كانت العملية الأضخم من نوعها على الأراضي السورية في تدمر بريف حمص، حيث قتل باستهداف إسرائيلي ما لا يقلّ عن 100 مسلح موالٍ لإيران ممّن يحملون الجنسية السورية والعراقية واللبنانية.
معركة “ردع العدوان”
صباح الأربعاء 27 نوفمبر/تشرين الثاني، شكّل حدثًا استثنائيًا في عمر الثورة السورية، فقد أعلنت الفصائل السورية شمال غرب سوريا عن انطلاق عملية عسكرية ضد مواقع قوات النظام والميليشيات الإيرانية تحت مسمى عملية “ردع العدوان”.
وفي ظل تلاقي المصالح بتقليص الوجود الإيراني و”حزب الله”، كانت الرؤية الأولية للمعركة تأمين وإنشاء حزام أمني شاسع لمناطق شمال غرب سوريا من الجهة الشرقية فقط وإبعاد خطر إيران والنظام و”حزب الله”، بعد أن كانت تتعرض المنطقة لخروقات وقف إطلاق النار من قبل قوات النظام المخلوع والمليشيات الإيرانية آنذاك، بلغت ذروتها في الأشهر الأخيرة بعد استخدام النظام والميليشيات المسيرات الانتحارية ضد مدنيين بأرياف إدلب وحلب الغربي.
وبالتوازي مع الزحف السريع ونجاح العملية ووصولها لقلب مدينة حلب، انطلقت بعد أسبوع منها عملية أخرى تحت مسمى “فجر الحرية” ضد ميليشيات “قسد” الكردية في مناطق نفوذها بتل رفعت ومنغ والشيخ عيسى وبعض أحياء حلب، الأمر الذي دفع “قسد” لإعلان الاستنفار العام في مناطق نفوذها وتسلّم العديد من مواقع النظام قبل انسحابه منها.
إلا أن 14 يومًا كانت كفيلة بتحرير محافظات حلب وإدلب وحماة وحمص والسويداء ودرعا وطرطوس واللاذقية ودير الزور منطقة الشامية وريف دمشق وصولًا للعاصمة دمشق، حيث تم الإعلان عن إسقاط النظام وهروب بشار الأسد إلى روسيا في 8 ديسمبر/كانون أول الجاري، وانتهاء حقبة مريرة من عمر الثورة السورية.
وكانت الأسلحة المستخدمة في العملية كمسيرات “شاهين” و”عقاب” وكتائب “صيادو الليل” هي العلامة الفارقة في العملية، إضافة إلى سرعة تهاوي مواقع قوات النظام وثكناته العسكرية وأهمها المطارات التي عطّلت قدرة النظام على استخدام طيرانه.
سجن صيدنايا جرح لا يندمل
كان سجن صيدنايا بريف دمشق المحطة الأولى التي توجهت إليها قوات المعارضة السورية، بالتوازي مع توجه كتائب أخرى لباقي الأفرع الأمنية والسجون، حيث قامت بتحرير المعتقلين داخله.
فيما وثقت وسائل الإعلام العالمية مشاهد مأساوية داخله، ظهر خروج الكثير من النساء مع أطفالهن وبعضهم لا يتجاوز عمره السنتين، إضافة إلى مقاطع انتشرت تظهر إخراج معتقلين فاقدي للذاكرة إثر التعذيب المتواصل، ومسنين ومدنيين من جنسيات أخرى.
من جهته، أعلن الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) انتهاء البحث عن معتقلين محتملين داخل سجن صيدنايا، ما يعني أن مصير عشرات الآلاف منهم لا يزال مجهولًا، وسط اعتقادٍ بأن بعضهم قد لقوا حتفهم في السجن، وهو ما أكدته أيضًا “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أنه وبعد فتح السجون ومراكز الاعتقال ومنها صيدنايا، وعدم وجود غالبية المختفين قسرًا المسجلين، فإن ذلك يعني أن غالبية المختفين قُتلوا، ما يرفعُ عدد القتلى المدنيين في سوريا إلى نحو 300 ألف.
توغل إسرائيلي وترتيب حكومي جديد
على الجبهة الجنوبية الغربية السورية وما إن سقط نظام الأسد حتى أعلنت “إسرائيل” بدء عمليات عسكرية تحت مسمّى “سهم باشان”، وُصفت بأنها “الأكبر والأشمل” منذ عقود في سوريا، وقد وصل التوغل الإسرائيلي مناطق استراتيجية كجبل الشيخ وقرى بريف القنيطرة ودرعا، ما يعني ضمّ منطقة الفصل بين الطرفين.
التوغل ترافق مع قصف إسرائيلي تركز على القدرات الجوية والبحرية والدفاعية والاستراتيجية السورية، إضافة إلى مستودعات التسليح وقواعد الصواريخ، حيث أعلنت وسائل إعلام إسرائيلية أن القصف دمر ما يقارب 70% إلى 80% من القدرات الاستراتيجية للجيش السوري.
في الوقت ذاته، كانت التجهيزات جارية في العاصمة دمشق للإعلان عن الحكومة الانتقالية التي تم تشكيلها برئاسة محمد البشير مدة ثلاثة أشهر، بإيعاز من أحمد الشرع الملقب بالجولاني قائد إدارة العمليات العسكرية التي تزعمت عملية “ردع العدوان”.
ويأتي الهدف من هذه الحكومة هو إدارة الفترة الانتقالية التي تتضمن استقرار الأوضاع، وتوفير الخدمات الأساسية، وتحضير البلاد لانتخابات حرة، وقد فتحت قنوات تواصل مع عدة دول للحصول على الدعم السياسي والإنساني والاقتصادي وفي مقدمتها تركيا، كما تم استئناف المهمات الدبلوماسية مع دول مثل مصر، العراق، السعودية، الإمارات، الأردن.
وتعد قضية القضاء على فلول النظام البائد أولى التحديات الكبيرة التي تواجه الحكومة الجديدة، إذ تم إطلاق عمليات أمنية واسعة في طرطوس، حمص، حماة، حلب، والعاصمة دمشق شملت التمشيط والمداهمات للقبض على شخصيات كبيرة من النظام السابق ومثيري الشغب. وقد أدت عدة مواجهات مع مسلحين من فلول النظام في مناطق متفرقة مثل قدسيا ومناطق ريف طرطوس واللاذقية وحمص، إلى مقتل وإصابة عدد من العناصر الأمنية والمسلحين.
وحاولت إيران عبر مرتبطين بها تأجيج موالين للنظام بحجة الاعتداء على مقام ديني ظهر في فيديو قديم، إذ خرجت مظاهرات في بعض أحياء مدن اللاذقية وطرطوس وحمص وجبلة والقرداحة، مرددين شعارات طائفية، ثم تطورت الأحداث إلى مواجهات قتل على إثرها 14 عنصرًا وإصابة 10 آخرين من قوى الأمن التابعة لإدارة العمليات العسكرية، ضمن مناطق متفرقة، الأمر الذي دعا إلى تشديد الحملة على رؤوس النظام المتهمين بجرائم حرب كالمجرم “شجاع العلي” الذي تم قتله بعد مواجهات ضد قوى الأمن.
ومع انتهاء حقبة الأسد ما زالت البلاد تشهد عودة متزايدة للاجئين من دول مختلفة ولا سيما دول الجوار، في ظل الدعوات المتعددة للمجتمع الدولي إلى تقديم الدعم اللازم والاستجابة اللازمة وضمان حياة كريمة للعائدين.