يستمتع الأهالي عادةً بسماع قصص أطفالهم الطريفة والمضحكة، ولكن عندما يقولون أشياء غير صحيحة ومختلفة عما حدث في الواقع، يشعر الأب أو الأم بالقلق تجاه هذا السلوك، على اعتبار أنه علامة على انحرافهم ويؤثر سلبًا على شخصيتهم الأخلاقية. في المقابل أفادت العديد من الدراسات بأن الكذب سلوك طبيعي وتعبير عن خصوبة الخيال وارتفاع مستوى الذكاء.
مضيفةً إلى ذلك، أن عادة الكذب لدى الأطفال تبدأ ما بين سنتين و4 سنوات، وبحلول سن الرابعة يكذب أكثر من 80% من الأطفال، كجزء من تطورهم النفسي والمعرفي والاجتماعي، وإشارة إلى مهاراتهم في قراءة أفكار الآخرين وقدرتهم على الخداع، من أجل تحقيق مكاسب شخصية أو لإخفاء التجاوزات والأخطاء التي اقترفوها. وفي بعض الأحيان، قد تخرج الأمور عن السيطرة ويتحول هذا السلوك المرحلي إلى خصلة وعادة دائمة، فكيف يمكن أن يفرق الأهل بين الكذب الطبيعي الإيجابي وبين الكذب السلبي؟
لماذا يكذب الأطفال؟
في هذا الجانب، تجيب مرشدة أهالي ومستشارة نوم الأطفال، إيناس خلف، في حوار خاص لـ “نون بوست” عن هذا السؤال، وتقول: “تختلف الأسباب بحسب كل فئة عمرية، فلكل جيل أسبابه وتصوراته الخاصة عن الحقيقة والكذب. على سبيل المثال يلجأ الأطفال ما بين سنتين إلى 3 إلى الكذب، بسبب عدم قدرتهم على التمييز بين الحقيقة والخيال”، وتضرب المرشدة خلف مثالًا على ذلك، وتقول: “قد يخبئ الطفل مفتاح السيارة وعند سؤاله عن مكان وجوده، ينكر الطفل معرفته بالأمر، على الرغم من أن المفتاح قد يكون ظاهرًا بين يديه، إلا أن عدم إدراكه لمفهوم الكذب والخيال، يمنعه من قول الحقيقة”.
من سن 3 إلى 5 سنوات، ينتج الكذب عن رغبة في تحقيق أماني معينة، فإذا أراد الطفل أن يشاهد التلفاز كما يحلو له، قد يكذب على أهله ويخبرهم أن معلمته في المدرسة تتيح لهم ذلك في أي وقت
تضيف إلى ذلك سببًا آخر وهو الخوف من استياء الأهل، وفي هذه الحالة، تقول خلف:”إذا سألنا الطفل عمن أكل الشكولاتة واتهم القطة بذلك، فهو غالبًا ما يخشى غضب والديه منه، ولا يدرك أن أهله قادرون على التفريق بين الحقيقة والخيال”. ومن أجل مساعدة الطفل على التمييز بين هذا وذاك، تنصح خلف بالتحدث مع الطفل عما يراه في الطبيعة وسؤاله عن الأشياء والحيوانات التي يراها مثل البحر والشجر والقطط، وإخباره بصفاتها، لكي يزيد ارتباط الطفل بالواقع.
أما فيما يخص الأطفال من سن 3 إلى 5 سنوات، ينتج الكذب عن رغبة في تحقيق أماني معينة، فإذا أراد الطفل أن يشاهد التلفاز كما يحلو له، قد يكذب على أهله ويخبرهم أن معلمته في المدرسة تتيح لهم ذلك في أي وقت، ومن الممكن أيضًا أن يختلق أكاذيب حول سفره لإحدى البلدان أو بأن أمه حامل، وغيرها من الأفكار الوهمية، التي تعني بأنه يرغب في حدوث هذه الأمور ويلجأ إلى الكذب لكي يعيش التجربة.
ومن أجل التعامل مع هذه الحالة، تقول خلف: “ينبغي على الأهالي أن يظهروا تفهمهم لهذه الأمنيات عن طريق إعادة صياغة الجمل من أكاذيب إلى أسئلة استفسارية. مثل سؤاله ما إذا كان يرغب في السفر أو مشاهدة التلفاز أو بأن يحظى بأخ أصغر”، وتضيف: “في نهاية هذه المرحلة العمرية، يبدأ الطفل بإدراك مفهوم الكذب والتمييز بأنه عادة سلبية وغير مقبولة اجتماعيًا. كما يمكن إيضاح هذه الفكرة لديه بشكل أوسع من خلال تشجيعه على قراءة القصص التي تتحدث عن مفهوم الصدق”.
قد يستخدم الأطفال الكذب للتعبير عن مشاعرهم ولكن بطريقة غير إيجابية
بالنسبة إلى الأطفال من سن 5 إلى 10 سنوات تقريبًا، فعادةً ما يستعين الطفل بالكذب في هذه المرحلة لأسباب مختلفة، ومنها كوسيلة لفحص الحدود بين ما هو مسموح وممنوع، وكأداة استحواذ على ما يريدون، أو تهربًا من العقوبات وخوفًا من غضب الأهالي، ولذلك ترى المرشدة خلف أنه من المهم أن يشرح الأهالي لأطفالهم بأن الحقيقة بكل تفاصيلها مقبولة، أما الكذب ليس مقبولًا. كما تشير المرشدة إلى زاوية جديدة، وتضيف: “يسعى الأطفال إلى جذب الانتباه عن طريق الكذب أيضًا، وخاصة في البيئات الأسرية التي تفتقر إلى الاهتمام”.
وأخيرًا، قد يستخدم الأطفال الكذب أيضًا للتعبير عن مشاعرهم ولكن بطريقة غير إيجابية، فعلى سبيل المثال، تقول المرشدة خلف: “إذا كان الطفل يخاف من ألعاب مدينة الملاهي العالية أو السريعة، واختلق قصة وهمية عن وفاة أو تأذي أحدهم بسبب إحدى الألعاب، فيعني ذلك أنه يشعر بالخوف من ركوبها ولكنه اختار الكذب لتعبير عن مشاعره”.
الكذب كدليل إيجابي على ذكاء الطفل ومهاراته الاجتماعية
ذكرنا سابقًا أن الطفل يبدأ الكذب في سنوات ما قبل المدرسة، وهو ما يعتبره الخبراء أمرًا مدهشًا لأن الكذب عملية صعبة فهي تتطلب أن يفرق الطفل بين ما هو خطأ وما هو صحيح، وأن يكون قادرًا على اختلاق قصة جديدة وتقديمها على أنها حكاية حقيقية تتماشى مع الطريقة التي يفكر بها الشخص المقابل، ويتطلب ذلك قدرة قوية على التحكم في العواطف وضبط النفس وقراءة مشاعر الآخرين وفهم آرائهم البديلة.
أما المثير للاهتمام بصورة أكبر، أن بعض التقارير تفيد بأن عدم قدرة الطفل على الكذب يعد علامة من علامات عدم النضج وتأخر التطور المعرفي والإدراكي، ما قد يؤثر لاحقًا على قدرتهم في تكوين علاقات اجتماعية.
في هذا الخصوص، قالت لارا وارميلينك، من قسم علم النفس بجامعة لانكستر، إن الفشل في تعلم “متى تكذب ومتى تفعل ذلك بشكل مقنع” يمكن أن يؤدي إلى حدوث مشاكل للأطفال في المستقبل، فعلى الرغم من أن الكذب ليس مقبولًا اجتماعيًا، إلا أن قوله يعد أمرًا اجتماعيًا مهمًا، فعلى سبيل المثال، عندما يدرك الطفل كيف يفكر ويشعر الآخرون من حوله، سوف يشكر عمته على الهدية حتى وإن كانت قبيحة.
الأطفال الذين تركز عائلاتهم بشدة على اتباع القواعد وفرض العقوبات وليس الحوار المفتوح، يكذبون أكثر من غيرهم وعن قصد
عدا عن ذلك، فإن إدعاء أحد الأطفال بأنه أمه سمحت له بتناول المثلجات أو اللعب في الخارج، يدلل على قدرته في زرع معلومات زائفة في وعي الآخرين. ومع مرور الوقت وتقدم الأطفال في السن، يصبحون أكثر قدرة على فهم أنواع الأكاذيب التي يصدقها الأشخاص من حولهم، ولكنها تبقى في إطارها المضحك والبريء، مثل أن يدعي الطفل بأنه لم يأكل الكعكة في حين أن فمه ممتلئ بالطعام، أو مثل أن يلوم الكلب على الرسم على الحائط.
وفي بعض الأحيان، يعتقد الآباء أن معاقبة الطفل على هذه السلوكيات سوف يدفع أطفالهم إلى قول الحقيقة دائمًا، ولكن وجدت إحدى الدراسات التي أجرتها جامعة ماكجيل في مونتريال، أن الأطفال الذين تم تهديدهم بالتأنيب، كانوا أقل احتمالًا لقول الحقيقة. ونظرًا لذلك، يشير البحث إلى أنه إذا كنت تريد أن يعترف طفلك بالخطأ، فيجب عليك طمأنته بأنه لن يكون في ورطة إذا اعترف بالحقيقة، بل على العكس، سيجعلك ذلك سعيدًا وراضيًا عنه. في الجهة الأخرى، أفاد البحث أن الأطفال الذين تركز عائلاتهم بشدة على اتباع القواعد وفرض العقوبات وليس الحوار المفتوح، يكذبون أكثر من غيرهم وعن قصد.
تؤكد ذلك خلف، قائلًة: “التربية الإيجابية الحديثة تدعو إلى تجنب العقاب الذي قد يكون له نتائج إيجابية ومرضية للأهل في لحظتها ولكن على المدى البعيد لن يسر الأهل بعواقب هذا الأسلوب”، وتشير إلى أن الأسئلة الصحيحة والحوار السليم الذي يبدأ بالشرح للطفل متى تكون الأكاذيب جيدة أو مؤذية، وكيف تؤثر على الآخرين وعلى صورتهم الذاتية، مع ضرورة سؤالهم عن الدوافع التي تحرضهم على إخفاء الحقيقة.
متى يكون كذب الأطفال أمرًا مثيرًا للقلق؟
على الرغم من أن انتشار الكذب بين الأطفال يعد أمرًا طبيعيًا في حدود وفترات معينة، إلا أن بعض الحالات تستدعي إعادة التفكير بهذا الموضوع، ولا سيما حين يصاحب الكذب سلوكيات عدوانية وعنيفة أو إذا أدى إلى عرقلة التزامات ونشاطات الطفل اليومية، فهنا تتخذ الأمور اتجاهًا انحرافيًا لا بد من مناقشتها مع الطفل أو مع أخصائي إذا لزم الأمر.
ولكن أولًا، وتحديدًا فيما يتعلق بالأطفال ما فوق الـ 5 سنوات، توصي المرشدة خلف بضرورة فرض أجواء مريحة داخل البيت وخلق بيئة آمنة ومتقبلة لأي حدث وحديث، إضافة إلى التعامل مع تصرفات الأطفال بطريقة متزنة وهادئة وبعيدة كل البعد عن ردود الفعل العصبية والعنيفة والمبالغ فيها، بهدف منع تطور عادة الكذب في مسارات منحرفة وغير مرغوبة. كما تشير إلى أهمية الاعتماد على الطفل والثقة به وتجنب استخدام أسلوب المحقق معه حتى لا يلجأ الطفل للكذب كوسيلة لتفادي الأسئلة التطفلية والمزعجة.
وعند سؤال “نون بوست” كيف يمكن للأهالي التفريق بين الكذب الطبيعي والكذب المرضي وكيفية التصرف بهذا الشأن، أجابت خلف، قائلةً: “في البداية، ينبغي أن ينتبه الأهل إلى وتيرة الكذب وعدد مرات حدوثها، فإذا لاحظ الأهل تكرار هذا السلوك، على الأهل أن يدرسوا تصرفاتهم وأجواء البيئة المحيطة بالطفل”، وتكمل: “وإن تكرر بشكل كثيف وملفت، لا بد من استشارة أخصائي”. كما تنصح الأهل بتوجيه تنبيه لطفل، وخاصًة لو كان عمره فوق الـ 5 سنوات، إما إذا كان أقل من 3 سنوات، فيمكن تحويل أكاذيبه إلى أمنيات واحتياجات بصيغة مباشرة.
من المهم إظهار التفهم والتعاطف معهم في الأوقات الصعبة، مع التأكيد على ضرورة قول الصدق والحقيقة بصرف النظر عن سوء الوضع.
وبطبيعة الحال، تنهي خلف عن استخدام المصطلحات المؤذية نفسيًا للطفل مثل نعته بالكذب أو اتهامه بذلك بشكل مباشر وعلني، وإذا اضطر الأهل الحديث عن أكاذيبه، فمن الأفضل الحديث عن السلوك وليس الطفل ذاته، وتشجع بدلًا من ذلك على مدح صفة الصدق والإشادة بالصادقين كنوع من التحفيز الإيجابي. إضافة إلى ذلك، تشير خلف إلى أهمية انتباه الأهالي نفسهم على تصرفاتهم وسلوكياتهم العامة في البيت ومع الآخرين هي جزء مهم في تنمية هذه العادة في الطفل.
إلى جانب، إظهار التعاطف معهم، وتحديدًا في الأوقات الصعبة، مثل فترة الإمتحانات التي قد يدعي الطفل أنه حصل على درجات أعلى مما حصل عليه في الحقيقة، إلا أنه يخاف من قول الحقيقة تهربًا من العقوبة أو غضب والديه. ولذلك، تنصح خلف بأهمية إظهار التفهم والتعاطف معهم في هذه الحالة، مع التأكيد على ضرورة قول الصدق والحقيقة بصرف النظر عن سوء الوضع.
بالمحصلة، تنتهي طمأنينة الأهل من سلوك الكذب عند طفلهم حين يتوقف عن مزج الحياة الحقيقية بالخيال، أي بعد سن الـ 5 سنوات، وهنا تبدأ مرحلة جديدة من تحديات التربية التي تشكل شخصية الطفل في المستقبل، فإما يساعدونه الأهل على تخطي واختبار هذه المرحلة بترو وصبر، وإما يتركونه ضحية لتصرفات التربوية الخاطئة.