في 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أصدرت محكمة الجنايات المصرية قرارًا برفع أسماء 716 شخصًا من قوائم الإرهاب، في إطار “توجه الدولة نحو مراجعة شاملة لموقف المدرجين على قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين، وبعد تكليف النيابة العامة الجهات الأمنية بإجراء تحريات دقيقة للتأكد من مدى استمرار الأنشطة الإرهابية للمسجلين على هذه القوائم”، حسبما قالت النيابة العامة المصرية في بيان رسمي لها.
لم يكن هذا القرار هو الأول من نوعه الذي ترفع فيه السلطات المصرية أسماء كانت مدرجة على قوائم الإرهاب، لكنها السابقة الفريدة من نوعها التي يُرفع فيها هذا العدد من الأسماء (716) دفعة واحدة (من إجمالي 4408 أشخاص مدرجين على تلك القوائم وفق آخر تحديث لوحدة مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب في مصر، في أغسطس/آب الماضي).
اللافت حينها أن القائمة حوت العديد من الأسماء التي أثارت الكثير من التساؤلات بشأنها، مثل الداعية وجدي غنيم، وقيادات رفيعة في الإخوان في مقدمتهم يوسف ندا وجهاد الحداد والوزير الأسبق يحيى حامد وأمير بسام، فضلًا عن قامات اقتصادية معروفة مثل رجل الأعمال عمر الشنيطي وشقيقه، والاقتصادي المعروف وليد عصفور، كما شملت عددًا من المتوفين منهم الداعية يوسف القرضاوي، والقادة السيد عسكر والسيد نزيلي ومسعود السبحي، وعبد الله نجل الرئيس المعزول الراحل محمد مرسي، ورجل الأعمال علي فهمي طلبة.
القرار أثار وقتها حالة من الاحتفاء كونه تصحيحًا لوضع خاطئ، حين أُدرج المئات من المواطنين على قوائم الإرهاب دون إدانتهم بأعمال إرهابية وعدم صدور أحكام باتة بحقهم، فيما اعتبره بعض المتفائلين بداية صفحة جديدة تسعى الدولة لفتحها مع جميع التيارات السياسية في المجتمع المصري، مستندين إلى ما نقلته قناة “إكسترا نيوز”، التابعة للشركة المتحدة المملوكة للمخابرات المصرية، تعليقًا على هذا القرار قائلة إنه “يؤكد حرص الرئيس عبد الفتاح السيسي على أبنائه، بفتح صفحة جديدة لهم للانخراط في المجتمع مواطنين صالحين يحافظون على بلدهم ويعيشون في أمان على أرضها”.
لكن حالة الاحتفاء تلك لم تدم طويلًا، إذ عادت السلطات المصرية لما اعتادته طيلة السنوات العشرة الأخيرة، إذ كشفت الساعات القليلة الماضية عن خطوات ناسفة لما حدث قبل شهر تقريبًا، حيث إعادة تدوير المعتقلين على قضايا جديدة بعد انتهاء فترات حبسهم الاحتياطي، وإدراج العشرات على قوائم الإرهاب، في تناقض مثير للجدل ويعكس إصرارًا لا رجعة فيه على الاستمرار في نزيف الانتهاكات وسحق الحقوق والحريات دون أي اعتبارات.
السلطات تعود لعادتها القديمة
فوجئ المصريون صباح أمس السبت بإحالة نيابة أمن الدولة العليا 68 مصريًا إلى المحاكمة الجنائية، على خلفية اتهامهم في القضية التي حملت الرقم 1107 لسنة 2020 حصر أمن دولة عليا، المثير هنا أن كل هؤلاء المتهمين حصلوا على أحكام بالبراءة وإخلاء سبيل في قضايا أخرى مماثلة، وما كان هناك سند قانوني لاستمرار حبسهم، ومن ثم كان تدويرهم في قضية جديدة لضمان بقائهم في السجون وعدم الإفراج عنهم.
وكعادة الاتهامات المعلبة في مثل تلك القضايا، وجّهت لهم نيابة أمن الدولة العليا اتهامات “بالانضمام إلى جماعة إرهابية مع علمهم بأهدافها، ونشر أخبار ومعلومات كاذبة على حساباتهم الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وبث مقاطع فيديو عبر يوتيوب ونشرها في صفحات مختلفة، وعقد اجتماعات مكونة من أكثر من 5 أفراد، وتمويل الجماعة ودعمها”.
وقبل هذا القرار بساعات قررت نيابة أمن الدولة العليا حبس السياسي ورئيس حزب “مصر القوية” والمرشح الرئاسي السابق عبد المنعم أبو الفتوح، على ذمة القضية رقم 768 لسنة 2020، حيث وجهت له اتهامات بتولي قيادة جماعة إرهابية وارتكاب جريمة من جرائم تمويل الإرهاب، ليتم تدويره في قضية جديدة تضمن بها السلطات بقاءه داخل محبسه.
تزامن ذلك مع حكم جديد بإدراج 76 مصريًا على قائمة الكيانات الإرهابية، من بينهم القيادي بجماعة الإخوان المسلمين، رجل الأعمال المصري الإيطالي، يوسف ندا، الذي توفى في الثاني والعشرين من الشهر الجاري، ليواجه المُدرجة أسماءهم في تلك القوائم حزمًا جديدةً من التضييقات والانتهاكات الحقوقية، من أبرزها الإدراج على قوائم المنع من السفر وترقب الوصول، أو منع الأجنبي من دخول البلاد، وسحب جواز السفر أو إلغاؤه أو منع إصدار جواز سفر جديد أو تجديده، وفقدان شرط حسن السمعة والسيرة اللازم لتولي الوظائف والمناصب العامة أو النيابية أو المحلية.
كذلك تجميد الأموال أو الأصول الأخرى المملوكة للمتهم، سواء بالكامل أم في صورة حصة في ملكية مشتركة، والعائدات المتولدة منها أو التي يتحكم فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، والأموال أو الأصول الأخرى الخاصة بالأشخاص والكيانات التي تعمل من خلاله، وحظر ممارسة جميع الأنشطة الأهلية أو الدعوية تحت أي مسمى، بجانب حظر تلقي الأموال أو تحويلها، وغيرها من الخدمات المالية المشابهة، ووقف العضوية في النقابات المهنية ومجالس إدارات الشركات والجمعيات والمؤسسات وأي كيان تساهم فيه الدولة أو المواطنون بنصيب ما، ومجالس إدارات الأندية والاتحادات الرياضية وأي كيان مخصص للمنفعة العامة.
هذا بخلاف عشرات الشهادات حول ما يتعرض له المعتقلون داخل السجون من انتهاكات وجرائم لا تتوقف، تتنوع بين فقدان معايير النزاهة القضائية والضرب والتنكيل والتعذيب والحبس الانفرادي، ومنع الزيارات والتريض، ورفض إدخال أدوات النظافة والمستلزمات الشخصية، وهو ما دفع البعض، معتقلين وذويهم، للاحتجاج على تلك الانتهاكات من خلال الإضراب عن الطعام والشراب، دون أن يحرك ذلك ساكنًا لدى السلطات.
العناد في مواجهة دروس المشهد السوري
أحدث سقوط نظام الأسد في سوريا، وهو النظام الأشبه بالنظام المصري من حيث السلطوية والديكتاتورية، وإن كان يتفوق عليه نسبيًا في الإيغال في الإجرام والانتهاكات بحق السوريين، وما تلاه من افتضاح مأساة سجون ومعتقلات النظام وعلى رأسها مسلخ صيدنايا سيئ السمعة، وملاحقة المتورطين في تلك الجرائم من رموز النظام البائد، صدى مدويًا لدى الشارع المصري الذي بدأ في عقد المقارنات والمقاربات بين ما حدث في الشام وما يمكن أن يحدث في بلاده.
وذهبت معظم الترجيحات إلى سيناريوهين لا ثالث لهما من المتوقع أن تشهدهما الساحة المصرية، على المستوى الحقوقي، عقب سقوط هذا النظام وفرض الشعب إرادته بالقوة المسلحة بعد سنوات من التنكيل والقصف ببراميل الكيماوي والمقابر الجماعية والدفن أحياء:
السيناريو الأول: التوجه نحو التهدئة والتخفيف من القبضة الأمنية وإطلاق سراح المعتقلين غير المتورطين في جرائم جنائية، وفتح صفحة جديدة مع كل التيارات السياسية المصرية، في محاولة لتخفيف حدة الاحتقان وامتصاص غضب المصريين، وهو السيناريو الذي كان يميل له قطاع كبير من النخبة وأصحاب الرأي في الداخل المصري ممن أملوا أنفسهم أن يكون ما حدث في سوريا فرصة جيدة لتضميد الجراح والعودة – ولو متأخرة – للصواب المفقود منذ سنوات.
غير أن هذا السيناريو قد يضع السيسي ونظامه في مأزق كبير أمام أنصاره، فهو بمثابة السير عكس الاتجاه، فالنظام الذي بنى شعبيته وشرعيته على استعداء كل ما هو إسلامي، واتخذ من محاربة الإسلاميين وحراكهم سُلمًا نحو ترسيخ جذوره شعبيًا وسياسيًا، من الصعب عليه أن يتحول هكذا طريقة، خاصة أنه ليس لديه ما يقدمه للشارع سوى هذه الورقة، محاربة الإسلاميين، وهو ما يفسر تأخر وارتباك تعاطي السلطات المصرية مع الإدارة السورية الجديدة رغم مرور أكثر من 20 يومًا على سقوط النظام.
السيناريو الثاني: المزيد من الانتهاكات والتضييق ضد أصحاب الرأي داخل السجون وخارجها، وهو السيناريو الذي دُعم بحملة تحريض واسعة النطاق قادها رموز إعلام السيسي الذين طالبوا بالمزيد من الاعتقالات وإعدام قيادات الإسلاميين داخل المعتقلات والسجون، كرسالة مباشرة للمهللين بانتصار الثورة السورية ذات السمت الإسلامي.
ويرى أنصار هذا السيناريو من ببغاوات النظام، سياسيًا وإعلاميًا، أن الإطاحة بنظام متجذر كالأسد من الممكن أن يمنح المعارضة والثوار في مصر بعضًا من التفاؤل، بعد سنوات من القمع والتنكيل، وعليه لا بد أن تكون الرسالة مباشرة وواضحة، المزيد من الانتهاكات في محاولة لوأد أي أمل ولو كان بصيصًا في تكرار التجربة ذاتها.
وتؤكد السلطات المصرية من خلال تلك الإجراءات والخطوات المتلاحقة على عزمها المضي قدمًا في مسار النزيف الحقوقي، متجاهلة كل المناشدات والاستغاثات المحلية والإقليمية والدولية بإعادة النظر في هذا التوجه الذي يزيد الاحتقان الشعبي يومًا بعد يوم، فيما يواصل السيسي ونظامه العناد أمام الدروس التي يمنحها القدر من التجارب الإقليمية الأخرى.. فهل يستوعب بعضها قبل فوات الأوان؟