ضربة جديدة وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية لإيران، لاستكمال مخططها الرامي إلى تركيع الجمهورية الإسلامية، حيث فرضت وزارة الخزانة عقوبات على شركة الخليج الفارسي للصناعات البتروكيماوية و39 شركة تابعة لها ووكلاء المبيعات الأجانب، وبهذا الإجراء تكون أمريكا قد ضمنت إهدار 40% من الطاقة الإنتاجية للبتروكيماويات في إيران، إذ تضطلع الشركة بمسؤولية 50% من صادرات البتروكيماويات في البلاد، وكل ذلك بزعم مساعدة الشركة لفيلق الحرس الثوري بمليارات الدولارات.
صنفت أمريكا الفيلق “منظمة إرهابية” قبل نحو شهر، وما يحدث الآن لشركة الخليج، هو تطور نوعي في استخدام سلاح العقوبات بإسراف شديد، فبجانب أنه تحذير شديد اللهجة، يوضح أن الدولة الأقوى في العالم لن تترد في الإيقاع بالشركات التابعة لبلدان تختلف معها، سواء كانت توفر لكيان معادٍ لها الدعم المادي أم تنافس الولايات المتحدة على امتيازات لا تسمح بالمنافسة عليها، فترسل رسائل عدة إلى طهران، في الوقت الذي تحاول فيه اليابان التوسط بينهما لإيجاد حل مناسب للأزمة.
التبرير الرسمي للضربة البتروكيماوية المفاجئة الأكثر صراحة، صدر عن مكتب وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوشين الذي لم يعتبرها فقط موجهة لوقف تمويل العناصر الرئيسية في قطاع البتروكيماويات الإيراني بسبب دعمها للحرس الثوري الإيراني، ولكنه أكد أنها مجرد بداية أو “قرصة أذن” للتنبيه أن الولايات المتحدة في طريقها لاستهداف المجموعات والشركات القابضة في قطاع البتروكيماويات وغيرها من الشرايين الاقتصادية الداعمة للحرس الثوري الإيراني، للوصول إلى غاية ترامب النهائية بتصفير صادرات النفط كأحد انعكاسات قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران عام 2015.
ماذا تعني البتروكيماويات لإيران؟
تعرف البتروكيماويات بأنها مجموعة من المنتجات التي يتم إنتاجها من خلال تحويل أو تفاعل الهيدروكربونات من البترول أو الغاز الطبيعي، ويشمل إنتاج مجمعات البتروكيماويات عدة مجموعات مثل المواد الكيميائية الأساسية والبوليمرات والروائح والأسمدة والسموم والوقود والمواد الهيدروكربونية، من حيث التسلسل الهرمي للإنتاج، وتعني هذه الصناعة لإيران الكثير، حيث تعد أحد أضلاع ما يسمى بالاقتصاد المقاوم، الذي سعت مؤسسات صنع القرار لتطويره لوقف معدل التضخم وخلق المزيد من فرص العمل، وهي أيضًا ضمن محاور الصناعات الخمسة الأولى في إيران حتى الآن، بجانب السيارات والبناء والزراعة والسياحة.
تعيش الجمهورية الإيرانية أحلامًا كبيرة لهذا القطاع منذ عام 2014، إذ استثمرت اتفاقية جنيف المؤقتة الموقعة من إيران وP5 + 1 (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا بالإضافة إلى ألمانيا) في نوفمبر 2013، وبعد تعليق العقوبات المفروضة على الصناعات التحويلية والبتروكيماوية، لإصلاح الصناعة وإعادة هيكلتها من جديد، وتسليحها بالقوى العاملة المهنية والفنية اللازمة، لا سيما أنها تمتلك البنية التحتية والخبرة التقنية التاريخية لإنجاح صناعة البتروكيماويات.
تطورت صناعة البتروكيماويات في إيران بصورة مذهلة في السنوات التي تلت انتصار الثورة الإسلامية
ويرجع تاريخ الصناعة في إيران إلى عام 1918، بإنشاء مجمع شيراز للبتروكيماويات، واستمرت في التطور بشكل بطيء، حتى اندلاع الثورة الإسلامية، وبعد هذا التاريخ، تحول الفكر الإيراني نحو تحديث أهدافه التنموية بشكل كبير، وأصبحت صناعة البتروكيماويات أهم اقتصاد صناعي مؤثر في البلاد وأنشئت مجمعات كبيرة منها أصفهان وأراك ومجمع الإمام بندر.
تطورت صناعة البتروكيماويات في إيران بصورة مذهلة في السنوات التي تلت انتصار الثورة الإسلامية، للحد من استخدام النفط الخام في مختلف قطاعات الصناعة، واستهلاك الغاز كمواد وسيطة أساسية، وتصاعد رصيد البلاد من 6 مجمعات نشطة إلى 63 مجمعًا خلال عام 1977، ومن 17 نوعًا فقط من البتروكيماويات إلى 121 نوعًا، ما يعكس الاهتمام المتزايد بهذه الصناعة من الإدارات التي تعاقبت على حكم الجمهورية الإسلامية.
على مدار الأربعين عامًا الماضية، استثمرت الحكومات الإيرانية في صناعة البتروكيماويات وفق تطور تدريجي لمشاريع زيادة الطاقة الإنتاجية، ومع بدء الخصخصة في البلاد تم خصخصة عدد من الشركات والمجمعات بشكل فردي، وتشكيل شركة قابضة للبتروكيماويات، بما في ذلك الوحدات المتبقية والشركات غير الموكلة إليها، ثم أصبحت بعد ذلك هيئة تنظيمية عام 2009.
خبرة إيران الممتدة منذ نحو 50 عامًا في هذا المجال، جعلتها تتفوق على نفسها، حتى لا تعرض القطاع لعقوبات وضربات مختلفة، تلقتها خلال العقدين الماضيين، ما أوجد لصناعة البتروكيماويات مكانة خاصة، ضمن أكثر الصناعات قيمة ونضجًا في اقتصاد البلاد، اعتمادًا على موارد ضخمة من الغاز، الأمر الذي انعكس بدوره على ابتكار حوافز للاستثمار في هذا القطاع والتصدير إلى جانب تزويد سوق الإنتاج المحلي.
أكثر ما يؤلم الإيرانيين أن الضربة الأمريكية الجديدة، جاءت في وقت، كانت تنتظر فيه البلاد مشاريع جديدة لتوسعة الطاقة الإنتاجية للبتروكيماويات
واكبت البلاد الفارسية، نمو صناعة البتروكيماويات في العالم، واستطاعت تضخيم حصتها العالمية، لا سيما أنها تملك احتياطي نفطي هو الأول في الغاز بالعالم، كما أنها رابع أكبر احتياطي للنفط في العالم أيضًا، وبلغت إيرادات إيران من بيع البتروكيماويات 17 مليار دولار.
أكثر ما يؤلم الإيرانيين أن الضربة الأمريكية الجديدة، جاءت في وقت كانت تنتظر فيه البلاد مشاريع جديدة لتوسعة الطاقة الإنتاجية للبتروكيماويات التي تنتج حاليًّا نحو 91 مليون طن وتحقق عائدات لمشروعات داخلية بقيمة 25 مليار دولار وصادرات بنحو 19 مليار دولار.
رد طهران على الصفعة الأمريكية
على المستوى الفني والتكتيكي، خفضت إيران أسعار منتجاتها من البتروكيماويات لزيادة صادراتها لتعويض العقوبات التي فرضتها واشنطن، والبيع بأقل من أسعار السوق لدول مثل البرازيل والصين والهند، وهو الأسلوب الفارسي الثابت منذ أعادت الولايات المتحدة فرض عقوبات على صادراتها النفطية في نوفمبر الماضي.
أما على المستوى السياسي والدبلوماسي، هاجمت طهران منطق القوة المفرطة الأمريكي، مؤكدة أن سياسة فرض العقوبات الأمريكية لا تنتهك فقط الصفقة النووية ولكن أيضًا قرار مجلس الأمن الدولي الذي نص عليه، بحسب سفير إيران لدى الأمم المتحدة ماجد تاخت الذي أشار إلى أن فرض الولايات المتحدة عقوبات نووية واقتصادية من جانب واحد، يعد تحديًا لقرار مجلس الأمن رقم 2231، وخطة العمل الشاملة المشتركة على مستوى غير مسبوق، خلال الأشهر القليلة الماضية.
تأثير العقوبات الجديدة على إيران في مجال صناعة البتروكيماويات لا يعني أنها خسرت القطاع، فهي تملك عملاءً متنوعين في المنطقة والعالم
حمّلت طهران الولايات المتحدة المسؤولية الكاملة عن عواقب تلك الأعمال غير المشروعة من وجهة نظرها، وطالبت المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته بموجب ميثاق الأمم المتحدة وأن يتصرف بشكل يتناسب مع السلوك غير القانوني للولايات المتحدة الذي يعرّض السلام والأمن الدوليين للخطر، على حد قولها، لا سيما أن القرار يمثل صدمة مؤقتة لدولة تعودت على تلقي جميع أنواع الصدمات خلال الفترات الماضية، ولكنه قد يمثل ضربة موت لدول أخرى لم تتعود على مثل هذا النوع من المواجهات.
تأثير العقوبات الجديدة على إيران في مجال صناعة البتروكيماويات، لا يعني أنها خسرت القطاع، فهي تملك عملاءً متنوعين في المنطقة والعالم، وبإمكانها بالطبع أن تكون قادرة على موازنة هذا الوضع، بحيث يكون الضرر السلبي لسوق رأس المال أقل من الضرر الواقع على رأس المال نفسه، فالمستثمرون الإيرانيون تعرضوا لعقوبات شديدة خلال السنوات الماضية، وتمكنوا من تقييم هذه الأوضاع بدقة، والمثير أنهم لم يأخذوا العقوبات ولو ليوم واحد على محمل الجد، وهو ما يمكنهم من الاستمرار وسط هذه العواصف المتزايدة.
تساهم السياسة الهجومية للخارجية الإيرانية في طمأنة المستثمريين المحليين الذين يتعاملون مع سياسة الضغط الأمريكية القصوى بحالة من الاستخفاف
وتتعدد طرق التحايل على العقوبات التي صممتها إيران للاستمرار في تصدير الصناعات المهمة، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى توازن العائد على أسهم كل صناعة وأساس أدائها في سوق رأس المال، وهي الخطة التي استوعبتها جمعيات سوق الأوراق المالية الإيرانية التي تساهم بدور نفسي قبل أن يكون اقتصاديًا لمستثمرين، لعمل تعبئة سياسية واجتماعية ونفسية مناسبة للمساهمين، وفق قاعدة “الزجاج” في الاستثمار، لامتصاص الصدمات المتتالية.
وتساهم السياسة الهجومية للخارجية الإيرانية في طمأنة المستثمريين المحليين الذين يتعاملون مع سياسة الضغط الأمريكية القصوى بحالة من الاستخفاف، لا سيما أنها لم تحقق مع جميع البلدان أيًا من الأهداف المحددة لهذه السياسة، وبدلاً من ممارسة ضغوط على الساسة الإيرانيين لتغيير تصرفاتهم مع أمريكا، يعتبر المستثمرون أن التضليل يقع من جانب أمريكا فقط، التي تتعامل مع إيران يشكل غير واقعي ولا يناسب قدراتها، بجانب أن انتهاك الولايات المتحدة لمبادئ وقواعد العلاقات الدولية والقانون الدولي والالتزامات الدولية للنظام، يعني بالتبعية انتفاضة حتمية قادمة، ستنتهي إلى مسؤولية دولية تجاه ما يحدث والرد على الانتهاكات الصارخة للمبادئ الأساسية للقانون الدولي وعدم السماح بإزالة إنجازات المجتمع الدولي في تعددية الأطراف، لمجرد السماح للإجراءات أحادية الجانب التي أصبحت شبه إدمان في أمريكا، لتطويع الدولة في خدمة سياساتها.