يتصدر سد تشرين الذي تحوّل إلى نقطة صراع رئيسية، مشهدَ المواجهة بين قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وقوات الجيش الوطني ضمن غرفة عمليات “فجر الحرية”، فالمعارك الطاحنة وإعلانات السيطرة المتفاوتة بين الطرفين والاستماتة في الدفاع والهجوم، أظهرت أهمية السد الاستراتيجية، مع تشكيله واحدًا من أهم منافذ الدخول البري باتجاه الشرق السوري.
سيطرة متناوبة
في 14 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، أعلنت قوات العمليات العسكرية الدخول إلى سد تشرين، الذي يفصل محافظة حلب شمالي سوريا عن الرقة شمال شرقي البلاد على ضفاف نهر الفرات، والذي كانت تسيطر عليه “قسد”.
وجاء تأكيد إعلان السيطرة على لسان المتحدث باسم وزارة الدفاع التركية، زكي أكتورك، في مؤتمر صحفي عُقد في 26 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، إذ قال إن “مدينة منبج وسد تشرين يخضعان لسيطرة الجيش الوطني السوري”، نافيًا مزاعم تنظيم PKK الإرهابي تقدمه بهذه المناطق.
لكن سرعان ما خرج المسؤول العام للمكتب الإعلامي لـ”قسد” فرهاد شامي، في مقطع فيديو من سد تشرين جنوبي مدينة منبج، مؤكدًا أن السد لا يزال تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية مع القرى والتلال المحيطة به، رغم أن فصائل الجيش الوطني السوري نفّذت أكثر من 20 هجومًا للسيطرة على تلك المنطقة.
واعتبر فرهاد شامي أن قواتهم تمكنت من قتل عشرات العناصر من فصائل الجيش الوطني السوري، ودمّرت العشرات من الآليات العسكرية التي كانوا يستخدمونها، دون تأكيد واضح من قبل إدارة العمليات العسكرية حول الأعداد التي ذكرها المتحدث باسم “قسد”
وخرج السد الموجود في منطقة منبج شمال سوريا عن سيطرة النظام المخلوع منذ عام 2012 لصالح المعارضة السورية، ثم انتقل مع منبج إلى قبضة تنظيم “داعش” عام 2014، وبعد عامين تمكنت “قسد” من السيطرة عليه بدعم من التحالف الدولي.
ومن المؤكد أن قوات “قسد” قد انسحبت بالكامل من منبج وسيطرت عليها قوات الجيش الوطني ضمن غرفة عمليات “فجر الحرية”، لكن ذلك لا يعني أن الوضع في المدينة على ما يرام أو قد تم حسمه بشكل نهائي، لا سيما في ظل استماتة “قسد” لمنع عبور قوات “فجر الحرية” السد الذي ينحسر عنده القتال العنيف، إذ تشكل السيطرة على السد وعبور النهر غربًا هاجسًا مرعبًا بالنسبة إلى “قسد”، الراغبة بجعل النهر حدودًا طبيعية لحكمها الذاتي.
في حديثه لـ”نون بوست”، يقول رشيد حوراني، الباحث في الشؤون العسكرية بمركز جسور للدراسات، إن قوات “قسد” الكردية تحاول استغلال الموارد والبنى التحتية لتكون خاصة لها تُقدمها لمناطق خارجة عن سيطرتها مستقبلًا، وورقة ابتزاز وضغط في المفاوضات والتحالفات، وبالتالي سيطرة القوات المدعومة من أنقرة على سد تشرين عسكريًا يُخسر “قسد” هذه الورقة ويضعفها.
ويضيف الحوراني أن وقوع السد على الفرات يعدّ جزءًا من خطوط الدفاع الطبيعية والتوسع الاستراتيجي لـ”قسد”، كما أن السيطرة على موارد المياه وتوليد الطاقة هو بحدّ ذاته أداة ضغط ودفاع.
بدوره، يتفق بدر ملا رشيد، الباحث الكردي في مركز رامان للدراسات، في أن “قسد” خسرت جسر قره قوزاق الذي كان يربط منبج بشرق الفرات، ويعتبر الطريق الرئيسي الواصل بين مدينتي حلب والرقة، وفي حال خسارتها سد تشرين فإن ذلك يعني خسارة جزء مهم من بحيرة السد وتوليد الكهرباء، إضافة إلى تمكُّن قوات الجيش الوطني من التوجه نحو مدينة الرقة وعين عيسى، وسقوط مدينة الطبقة الاستراتيجية أيضًا.
أهمية سد تشرين
يستمد سد تشرين الذي استغرق بناؤه 8 سنوات، وانتهى عام 1999 موقعه الاستراتيجي من استلقائه على نهر الفرات إلى الشرق من مدينه حلب، إذ يبعد عنها حوالي 115 كيلومترًا، و80 كيلومترًا عن الحدود التركية، و30 كيلومترًا من منبج.
وتمتد أهميته إلى البحيرة الضخمة ذات المساحة المقدّرة بـ 160 كيلومترًا مربعًا، والتي تشكلت بعد بنائه، فبحيرة سد تشرين الواقعة في محافظة حلب واحدة من أكبر البحيرات الصناعية بحجم تخزين يصل حوالي 1.9 مليار متر مكعب.
ووضع سد تشرين البحيرة في المركز الثاني كأكبر محطة كهرومائية لتوليد الطاقة في البلاد، إضافة إلى توفيرها مياه الريّ للأراضي الزراعية المحيطة، واعتبارها مصدرًا مهمًّا لصيد الأسماك في المنطقة، وواجهة جذب سياحي طبيعية.
وتحتوي المحطة الكهرومائية على 6 مجموعات توليد من نوع كابلان مع متمماتها، استطاعة كل منها 105 ميغاواطات، وباستطاعة إجمالية (حجم الإنتاج) للمحطة 630 ميغاواطًا، والضاغط الأعظمي 30 ميغاواطًا، والضاغط الأصغري لعمل المجموعات 15.5 ميغاواطًا، والضاغط الاسمي 26 ميغاواطًا.
ما إمكانية اندماج “قسد” بقوات دمشق؟
سبق أن صدرت مواقف سياسية كردية تشير إلى رغبة حادّة لتهدئة الأجواء مع حكومة دمشق الجديدة وحليفتها تركيا، إذ أكد قائد قسد مظلوم عبدي، في تصريح صحفي، إن “قوات قسد مستعدة للاندماج في الجيش السوري الجديد، لكن بعد الاتفاق على صيغة مناسبة عبر التفاوض”، وقد جاء ذلك إثر مطالبة الإدارة الجديدة في دمشق من جنود الجيش تسوية أوضاعهم وتسليم أسلحتهم في مراكز خُصّصت للغرض.
فيما أشار مدير المركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية فرهاد شامي، لوكالة “فرانس برس”، أن “مسألة الانضمام بحاجة إلى النقاش المباشر بين قيادة قسد ودمشق، بعيدًا عن هيمنة القوى الإقليمية ووصايتها على القرار السوري، وبعيدًا عن لغة التحريض”.
من جهته، أكد مجلس الشعوب الديمقراطي التابع للإدارة الذاتية جناح “قسد” المدني، في بيان، أن الإدارة في شمال وشرق سوريا جزء لا يتجزأ من الجغرافيا السورية، معلنًا عن قراره برفع العلم السوري بنجماته الحمراء الثلاثة على جميع المجالس والإدارات والمؤسسات والمرافق العامة التابعة للإدارة الذاتية.
حسب الباحث رشيد، فإن “قسد” تحاول الإبقاء قدر الإمكان على خطوط التماسّ المتفق عليها نوعًا ما عام 2016، لتستطيع كخطوة قادمة التفاوض مع حكومة دمشق الجديدة على كتلة جغرافية أوسع.
مضيفًا أن مستقبل هذه الخطوة ليس واضحًا حتى الآن، لا سيما في ظل التصريحات الإيجابية المتبادلة بين دمشق و”قسد”، ما يعني احتمالية اتفاق ينهي المواجهات العسكرية في المنطقة.
إلا أنه ومع احتمالية تعنُّت “قسد”، لا سيما في ظل إصرار تركيا بطرد قياداتها خارج سوريا وفكفكة جسمها العسكري، يرى الباحث الحوراني أن إدارة العمليات العسكرية ستتعامل مع مسألة المناطق التي تسيطر عليها “قسد” وشرق الفرات بشكل خاص كتعاملها أثناء التقدم نحو دمشق، فإدارة العلميات كانت حريصة على عدم إراقة الدماء وتفتيت النظام، بالتدريج والتلويح بالقوة وإجراء المفاوضات لمنع المجابهات المحتدمة.
مشيرًا في ختام حديثه إلى أن خطوات إدارة العمليات العسكرية ستقود في نهاية المطاف إلى تفكيك “قسد”، وإعطاء حقوق المواطنة للأكراد الذين تمّ استغلالهم من “قسد” ذاتها عبر سنوات، وفرض السيطرة على كامل التراب الوطني.