شكل ملف اللاجئين السوريين خلال السنوات الماضية، واحدًا من أهم العقبات التي واجهت إعادة تأهيل نظام الأسد ووصول أموال إعادة الإعمار، بسبب رفض الغالبية العظمى منهم العودة خوفًا من الاعتقال وانتقام النظام.
وكان تقييم الأمم المتحدة السلبي للأوضاع في سوريا، داعمًا لرفض غالبية اللاجئين العودة، مع تأكيدها أن البلاد “ليست آمنة”، وبعد يومين من سقوط الأسد، دعا مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، إلى “التحلي بالصبر” في ملف عودة ملايين اللاجئين إلى بلدهم.
وقال غراندي في بيان أرسله إلى الصحفيين: “هناك فرصة كبيرة أمام سوريا للمضي نحو السلام، وأمام شعبها للبدء في العودة إلى بلده”. وأضاف: “لكن مع استمرار غموض الوضع، يقيّم ملايين اللاجئين ما إذا كانت العودة آمنة، فبعضهم متلهف وبعضهم متردد”.
وخلال السنوات الـ13 الماضية، استقبلت تركيا العدد الأكبر من اللاجئين عالميًا، بمعدل نحو 4 ملايين لاجئ مسجلين بشكل رسمي، بينما انخفض هذا العدد بشكل كبير خلال العام الأخير إلى مليونين و920 ألفًا و119 شخصًا، بحسب وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا.
ولطالما استخدمت المعارضة التركية، اللاجئين السوريين كورقة في السِجالات السياسية والانتخابات، بغية الضغط على الحزب الحاكم والرئيس رجب طيب أردوغان، حتى إن التعهد بإعادة السوريين كان واحدًا من شعارات البرنامج الانتخابي لمرشح المعارضة، كمال كليجدار أوغلو، في انتخابات الرئاسة التي أُجريت ربيع العام الماضي.
تحرير حلب على يد المعارضة السورية نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعاد الآمال بعودة مئات الآلاف من أبناء ثاني أكبر مدينة في سوريا إلى مناطقهم، غير أن التطورات اللاحقة التي أدت إلى سقوط الأسد، فجر 8 ديسمبر/كانون الأول الحالي، منحت المزيد من الآمال لملايين السوريين، لعودتهم إلى البلاد، وطي صفحة “التغريبة السورية”، التي استمرت أكثر من 13 عامًا.
ورغم مرور نحو 3 أسابيع على سقوط الأسد، فإن أعداد اللاجئين السوريين العائدين من تركيا لا تزال دون التوقعات، إذ سجلت السلطات التركية حتى تاريخ 24 ديسمبر/كانون الأول الجاري، عودة أكثر من 25 ألف لاجئ سوري عبر الحدود التركية إلى بلدهم.
وفي هذا السياق، قال متحدث المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ويليام سبيندلر، في مقابلة مع وكالة “الأناضول“، إن على المجتمع الدولي دعم عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم وإعادة إعمارها، وأضاف: “نعلم أن هناك عدة آلاف من السوريين الذين عادوا وهذه الأعداد مستمرة في التزايد، لكننا لم نشهد عودة جماعية في الوقت الحالي لأن الكثير من الناس ينتظرون ليروا ما سيحدث على الأرض”.
كما أشار المسؤول الأممي إلى أهمية استتباب الأمن حتى يتمكن السوريون من العودة دون خوف، مشددًا على أهمية التأكد من أن الظروف المعيشية في البلاد مناسبة لعودة الناس والبقاء فيها.
موقع “نون بوست”، استطلع آراء لاجئين سوريين في إسطنبول، بشأن خططهم للعودة إلى بلادهم خلال الأسابيع القادمة، أو تفكيرهم بالبقاء إلى مدة غير معلومة، وبينما تحدثت غالبية الآراء عن العزم على العودة بعد نهاية العام الدراسي، انحصرت معظم الأسباب التي ذكر سوريون أنها “تمنعهم حاليًا” من العودة، في العوامل التالية:
أولًا: ضبابية الاستقرار الأمني
كان العامل الأمني على رأس الأولويات التي منعت عودة ملايين اللاجئين السوريين خلال السنوات الماضية، في ظل مواصلة نظام الأسد البائد نهج “العقلية الأمنية”، دون تقديم أي ضمانات فعلية، وإصدار “مراسيم عفو” لا قيمة لها. ووثقت منظمات حقوقية دولية عدة انتهاكات مارستها قوات الأسد المخلوع ضد لاجئين قرروا العودة إلى بلدهم.
وعلى الرغم من سقوط “نظام الرعب” وتفكيك جميع أفرعه الأمنية والمخابراتية التي سامت السوريين سوء العذاب قبل الثورة وبعدها، فإن هواجس اللاجئين السوريين لا تزال قائمة إزاء العودة السريعة إلى بلادهم، مع عدم استقرار كثير من المناطق والمدن، لا سيما في شرق البلاد.
عبد الرحيم المحمد، من أهالي ريف محافظة الرقة الشرقي في منطقة الجزيرة الخاضعة لسيطرة ميليشيات “قسد”، ويسكن في ولاية أورفا التركية منذ العام 2016، يستبعد عودة قريبة إلى بلدته، ويقول إنها “لا تزال محتلة”.
ويوضح المحمد لـ”نون بوست” أن إمكانية العودة لجميع سكان سوريا باتت متوفرة بعد إسقاط الأسد، “غير أن مناطق شرق الفرات لا ينطبق عليها هذا الأمر، لأن مصيرها لا يزال غامضًا، ولا تزال تحت سيطرة جهة لا تقل خطورةً وإجرامًا عن نظام الأسد البائد”.
ثانيًا: سكان المدن المدمرة
ترك بشار الأسد سوريا في حالة دمارٍ مهولة، تنقلها اليوم وسائل الإعلام العربية والعالمية، وسط صدمة وذهول، من حجم الخراب الذي طال عدة مدن وبلدات وقرى، وأصبحت غير صالحة للعيش تمامًا.
وفي هذا الإطار، فإن مئات آلاف اللاجئين الذين ينحدرون من المدن التي تعرضت لدمار كبير بفعل الآلة العسكرية للأسد وحلفائه الروس والإيرانيين، يؤكدون اليوم عدم وجود بيوت تؤويهم في مدنهم، واضطرارهم – في حال قرروا العودة – إلى الاستئجار والإقامة في مدن ثانية، “وهو ما يعني مواصلة مسيرة النزوح ومعاناة التهجير”، وفقًا لأسامة الراوي، من سكان مدينة دير الزور.
يعيش أسامة في ولاية إسطنبول لاجئًا منذ العام 2014، ويقول لموقع “نون بوست”، إن دير الزور تُعد من أكثر المدن التي تعرضت للتدمير المُمنهج من قوات الأسد والطائرات الروسية، بين عامي 2012 و2017. وتبلغ نسبة الدمار الكلي أو الجزئي في مدينة دير الزور وحدها ما يقارب 80%، ولا توجد مظاهر حياة إلا في حيين فقط، من أصل 22 حيًا.
يتابع الراوي أنه لا يأمل بإعادة إعمار سريعة، لا سيما أن الدمار لا يخص المنازل فقط، وإنما يرتبط بالبنية التحتية كاملةً، ويؤكد: “سأسعى للبقاء مع عائلتي في إسطنبول إلى أبعد وقت ممكن، فإذا أصبحت العودة إجبارية، فلن يعود الأمر في أيدينا”.
ولا يتوقف الأمر عند مدينة دير الزور، فمناطق كثيرة في أحياء حلب الشرقية مدمرة، فيما نقلت فيديوهات كثيرة مشاهد الدمار المرعب في أحياء دمشق الشرقية مثل حيي جوبر والقابون، اللذان لا يوجد فيهما أي مظهر من مظاهر الحياة، ويضاف إلى ذلك قسم كبير مدمر في أحياء مدينة حمص، وأرياف حلب وإدلب ودرعا.
وكان الرئيس التركي قال في تصريحات سابقة أعقبت سقوط نظام الأسد، إن عملية عودة السوريين لبلادهم بدأت “أما من يرغبون في البقاء بتركيا، فهم ضيوفنا”.
ثالثًا: العامل الاقتصادي
ويُعد هذا العامل من الأسباب الأكثر إلحاحًا لعرقلة عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، في ظل صعوبة تأمين عمل براتب شهري يناسب الوضع الذي يعيشه غالبية اللاجئين في بلاد المهجر، مع قلة فرص العمل أصلًا، وحالة الانهيار الاقتصادي المزمن الذي تعيشه البلاد منذ سنوات طويلة.
يقول كثير من اللاجئين السوريين في تركيا إن أوضاعهم الاقتصادية ليست في صورة جيدة أو إنهم يعيشون في بحبوحة، غير أن الغالبية منهم لديه عمل يؤمن منه احتياجاته، مع إمكانية عدم توفر ذلك في سوريا بالوقت الحالي، وفقًا لما عبر عنه محمد المبيض، الذي لجأ إلى إسطنبول التركية في العام 2018.
يوضح “المبيض” لـ”نون بوست”، أن العاصمة دمشق كانت خلال السنوات الأخيرة مقصدًا للباحثين عن عمل من بقية المحافظات، في ظل حالة الهدوء الأمني الذي عاشته دمشق بعد تهجير أهالي الغوطة في العام 2018، وبسط الأسد سيطرته على كامل العاصمة.
ويتابع: “أن فرص العمل في دمشق مثلًا قليلة جدًا، فالمشروعات التجارية أو الصناعية المتواضعة هناك لديها كفايتها من اليد العاملة، ناهيك عن الأجور التي لا تكفي لسد الاحتياجات”، بحسب تعبيره.
ولعل هذا الملف يفتح بابًا أكثر حساسية، وهو أن النسبة العظمى من السوريين يعتاش من الحوالات المالية التي يرسلها اللاجئون إلى ذويهم في الداخل السوري، ما يجعل اللاجئ العائد في الوقت الحالي أمام تحديين اثنين، وهما معيشته من جهة، ومعيشة ذويه من جهة ثانية.
ويضاف إلى كل ما سبق أن مجموعة من السوريين في تركيا حققوا خلال أكثر من عقد من الزمان، مستوى متقدمًا من الاندماج والاستقرار، لا سيما الذين حصلوا على الجنسية التركية ويمتلكون اليوم مشروعات تجارية أو صناعية وحصلوا على وظائف حكومية، أو لا يزالون يدرسون في الجامعات والمعاهد التركية.
السيدة إلهام مصطفى، تعمل في جامعة خاصة بولاية غازي عنتاب، ورغم أنها تنحدر من مدينة حلب، التي قدمت منها مع عائلتها في العام 2014، فإنها لا تفكر في الوقت الحالي بالعودة كليًا إلى مدينتها.
وتوضح لـ”نون بوست”، أن عائلتها حصلت على الجنسية التركية في العام 2019، وأولادها باتوا في مرحلة الدراسة الجامعية، “ومن الصعب التفكير بالعودة كليًا إلى سوريا في الوقت الحالي”، وتضيف: “سنذهب لزيارة حلب عندما يكون هذا مُتاحًا، ثم نعود هنا لأعمالنا”.
وفي مجمل الأمر، فإن تقييم البنية التحتية الحالية في سوريا، ليس ملائمًا لعودة أعداد كبيرة من اللاجئين في الوقت الحالي، ومن المتوقع أن يشهد فصل الصيف القادم، عودة أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين من عموم دول العالم، لا سيما من تركيا، إذ يتزامن ذلك حينها مع نهاية العام الدراسي من جهة، واستقرار الوضع الأمني وتحسن الوضع المعيشي من جهة ثانية.