في الساعات الأولى من يوم 3 من يونيو/حزيران الحاليّ، وبعد 5 أشهر من الاحتجاج، تحركت قوات الأمن السودانية لفض اعتصام المحتجين خارج مقر القيادة العامة للجيش في الخرطوم باستخدام الذخيرة الحية والغاز المسيل للدموع، وبانتهاء العملية، قُتل ما لا يقل عن 100 شخص، وتعرض الكثيرون للضرب المبرح وتم اغتصاب بعضهم، وألقيت الجثث وبعض الجرحى في نهر النيل، وقد طعن المجلس العسكري الانتقالي في هذه الأرقام، فقال إن عدد القتلى 40 فقط، بينما لم يقل شيئًا عن الاعتداء الجنسي المزعوم.
بعد يومين، ناقش مجلس الأمن الدولي الوضع في السودان وإمكانية فرض عقوبات محددة الهدف، وكما هو متوقع، فشل مشروع القرار في الحصول على الدعم اللازم بعد رفضه من روسيا والصين، وبينما سارع الدبلوماسيون الأمريكيون والبريطانيون في الخرطوم إلى إدانة الهجوم على وسائل التواصل الاجتماعي، واجه السودانيون هذه الإدانات بصور هؤلاء المسؤولين الذين التقوا بـ”مهندس مجزرة 3 يونيو”، الفريق محمد حمدان حميدتي نائب رئيس المجلس الانتقالي العسكري وقائد قوات الدعم السريع “الجنجويد”.
في اليوم التالي، أي الـ6 من يونيو/حزيران، اتخذ الاتحاد الإفريقي، من جانبه، خطوة حاسمة على الأقل حين أعلن تعليق عضوية السودان في جميع أنشطته لحين تسليم السلطة للمدنيين، رغم أن الاتحاد يجب عليه أن يتعامل مع تاريخه الحديث في حماية البشير وحميدتي من الملاحقة الدولية لارتكاب جرائم في دارفور.
لذلك هذه الخطوة تبدو ذات تأثير مشكوك فيه مقارنة بتعليق عضوية مصر منذ 6 سنوات ثم عودتها لرئاسة الاتحاد الإفريقي هذا العام، وكذلك مقارنة لما أبداه المجلس العسكري الانتقالي من اهتمام بمغازلة الداعمين الماليين في الشرق الأوسط أكثر من اهتمامه بالحديث إلى الدبلوماسيين في أديس أبابا المجاورة.
غياب الدبلوماسية الأمريكية مقابل دور إقليمي خلف الكوليس
الموقف الإفريقي – وإن بدت تحركاته معلنة – لا يختلف في تأثيره عن موقف الدول الغربية، وعلى رأسها أمريكا التي توارت عن الأنظار على عكس الإدارات السابقة التي زجت بنفسها في غمار المشهد السوداني، فبينما تزايد الاهتمام الأمريكي العام بالسودان كبلد محوري عربي وإقليمي منذ لجأ إليه زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في تسعينيات القرن الماضي، ركزت إدارة جورج بوش مثلاً على قضية دارفور واستقلال جنوب السودان، وهو مشروع آتى أُكله في عهد الرئيس باراك أوباما.
وقد حاولت الخرطوم – ولا تزال – إخراج البلاد من قائمة الدول الداعمة للإرهاب التي وضعتها واشنطن، ومع ذلك لم تجد الثورة السودانية التي أسقطت الرئيس عمر حسن البشير اهتمامًا كبيرًا لدى الأوساط الأمريكية الرسمية حتى وقت متأخر.
تتصاعد الدعوات لإجراء تحقيق في فض الجيش السوداني اعتصام القيادة العامة
يكاد يُجمع المراقبون على أن التصور الأمريكي لما آل إليه السودان في مرحلة ما بعد عمر البشير يعتمد على معيار واحد فقط، وهو الاستقرار، وعليه غابت الدبلوماسية الأمريكية بشكل شبه كامل فتدخلت السعودية والإمارات لملء الفراغ الذي شغر برحيل البشير وإدارة المشهد برمته منذ شهر أبريل/نيسان الماضي وفق ما تقول مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية.
يتناقض النشاط الذي أبدته دول الخليج بأحداث السودان بشكل كبير مع موقف واشنطن التي اكتفت طول الأشهر الماضية بمشاهدة ما يجري في البلاد التي تتجه للانهيار، إذ يبدو بالنسبة للعديد من المسؤولين الأمريكيين أن إدارة الرئيس دونالد ترامب لا تملك إستراتيجية واضحة بشأن السودان غير البيانات شديدة اللهجة – الصادرة من إدارة ترامب – التي تدين العنف.
وكما كانت مواكبة الإعلام الأمريكي للثورة السودانية متأخرة ومتفرقة في مجملها، كانت كذلك إدارة ترامب، التي لم تعقد اجتماعات منتظمة للتنسيق بين وكالاتها المختلفة فيما يتعلق بهذه المسألة، معللة ذلك بصعوبة الحصول على معلومات استخباراتية عن الوضع السياسي في السودان، وبالتالي فإنها لا تملك خطة دبلوماسية في حال وقع تجاوز الموعد النهائي الذي حدده الاتحاد الإفريقي للمجلس الانتقالي السوداني دون التوصل لحل يقتضي التخلي عن السلطة، نهاية يونيو/حزيران الحاليّ.
في حين يغرد مسؤولو إدارة ترامب عن الديمقراطية في السودان، يبدو أن القرارات تتخذ من أصدقاء ترامب في السعودية والإمارات
المجلة ذاتها، وفي مقال آخر، قالت إن السودان أضحى على وشك الانهيار وواشنطن تتفرج، بينما أصابع أبوظبي والرياض فيما يجري لا تغفل عنها عين فيما يجري، وفي مواجهة الاحتمال القاتم بشأن تلاشي الأمل الديمقراطي السوداني، تساءلت المجلة: لماذا لا تفعل الولايات المتحدة كل ما في وسعها لضمان ألا يسير السودان بعد عقود من الدبلوماسية في طريق الـ80% من الحالات الأخرى التي لا تتمتع بالانتقال إلى الديمقراطية؟
انضمت الولايات المتحدة بقوة إلى حركة الاحتجاج المدنية، لكن وراء الكواليس، هناك غياب شبه كامل للدبلوماسية الأمريكية، إذ لم تنشر إدارة ترامب أي من أدوات التمويل أو الدعم الفني لمساعدة المتظاهرين الديمقراطيين على أن يصبحوا أكثر تنظيمًا وتوحيدًا وفعالية في التفاوض مع نظير أفضل تدريبًا ومزودًا بالموارد، الأمر الذي كان من شأنه زيادة قدرات المحتجين على مواجهة عدوهم العسكري على طاولة المفاوضات.
هذه المخاوف من تنامي النفوذ الإقليمي في الأزمة السوادنية على حساب نفوذ واشنطن كما يقول منتقدوها، وجد صدى له في الكونغرس الأمريكي، وهو ما عبَّرت عنه النائبة الديمقراطية إلهان عمر بانتقادها الطريقة التي تدير بها إدارة ترامب السياسة الخارجية، التي تُظهر برأيها النفاق المفرط الذي أصبح أكثر وضوحًا في طبيعة ردود الفعل إزاء ما يجري في السودان مقابل دور اللاعبين الإقليميين كالسعودية والإمارات في دحر الحركات الديمقراطية في المنطقة.
واشنطن على خط المشهد السوداني
وقفت الولايات المتحدة طويلاً عاجزة بين ازدرائها للتعددية وعدم الرغبة في أخذ زمام المبادرة في منع حرب جديدة محتملة في زاوية أخرى من العالم، فمستشار الأمن القومي جون بولتون يبغض نظام الأمم المتحدة علانية، وقد أجرت إدارة ترامب خلال السنوات الثلاثة الماضية العديد من التخفيضات لتمويلها للمنظمة.
في الوقت نفسه، تحافظ الإدارة الأمريكية على مصالحها مع السعودية، ويشير تقرير لصحيفة “ديلي بيست” بشأن اجتماع عُقد مؤخرًا بين القائم بالأعمال الأمريكي في الخرطوم ستيفن كوتيس ومسؤولون كبار في وزارة الخارجية إلى أن الولايات المتحدة عليها أن تتماشى مع المصالح السعودية وتسمح بسيادتها في السودان.
دفعت الإدارة الأمريكية إلى الخرطوم بوفد يضم مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية تيبور تاغي، يرافقه السفير دونالد بوث المبعوث الأمريكي الجديد إلى السودان والمعيَّن حديثًا
أراد كوتيس أن يؤكد من خلال الاجتماع الذي جرى في يوم فض الاعتصام أن أمريكا تبدي اهتمامًا بالقضية السودانية، لكن في حين يغرد مسؤولو إدارة ترامب عن الديمقراطية في السودان، يبدو أن القرارات تتخذ من أصدقاء ترامب في السعودية والإمارات.
وبعد شبه غياب لإدارة ترامب، قررت واشنطن من جانبها الانضمام إلى قافلة المتدخلين أو الوسطاء، فتغدو أبرزهم دون شك، وهذا كله من ملامح مرحلة ما بعد فض الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش السوداني وجني ثمار العصيان المدني الشامل، أي بعد أن “وقعت الفأس في الرأس” كما يقول منتقدو إدارة الرئيس ترامب.
وترتبط معرفة مالآت التدخل الأمريكي بالإجابة عن أسئلة من قبيل: لماذا الآن؟ وكيف ستكون آلية التدخل؟ وإلى أين ستصل به؟ فقبل ذلك، لم يلق السوادنيون إلا “العجرفة واللغة المتعالية”، وهذا وصف ممثلي قوى الحرية والتغيير لفحوى لقاء سابق بالقائم بالأعمال في السفارة الأمريكية في الخرطوم.
اليوم تغير الحال، ودفعت الإدارة الأمريكية إلى الخرطوم بوفد يضم مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية تيبور غي، يرافقه السفير دونالد بوث المبعوث الأمريكي الجديد إلى السودان والمعيَّن حديثًا، في وقت تتعالى فيه الدعوات لإدارة ترامب لتصعيد جهودها لإعادة الاستقرار إلى السوادن.
إذًا المعيار الأمريكي المتمثل في استقرار السودان صار في مهب الريح فقررت واشنطن التدخل، لكن هل سيكون ذلك بهدف حل الأزمة أم لإداراتها لا أكثر؟ يبقى الأمر رهنًا بقدرة الوساطات على تبسيط المشهد السوداني لا تعقيده بضمان أن تكون السلطة المدنية المنشودة سلطة حقيقية كاملة لا واجهة لحكم عسكري.
رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان خلال لقائه مع مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية تيبور تاغي
في البداية، عقد ناغي مؤتمرًا صحفيًا من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا تطرق فيه إلى الجهود التي يبذلها مع دونالد بوث في إطار البحث عن حل الوضع في السوادان، وحذر فيه أيضًا من خطر أن تقود الأزمة في السودان إلى فوضى شبيهة لما يحدث في ليبيا.
بعد ذلك، بدأ المسؤول الأمريكي محادثات في الخرطوم مع وكيلة وزارة الخارجية السودانية بالإنابة السفيرة إلهام إبراهيم، كما التقى بممثلين عن قوى الحرية والتغيير ومن المقرر أن يلتقي لاحقًا بالمجلس العسكري، مؤكدًا أن المجتمع الدولي بأسره يريد نجاح المساعي الرامية للاتفاق على ترتيبات الفترة الانتقالية، وتحقيق التحول الديمقراطي في السودان.
3 مسائل جوهرية عنونت الموقف الأمريكي: انسحاب الميليشيات المسلحة من الخرطوم وتسليم السلطة إلى مدنيين ومحاسبة المسؤولين عن أحداث فض اعتصام القيادة العامة، وفي هذا المقام، ترى مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية شبهًا مثيرًا للقلق بين ما يحدث في السودان وما حدث في مصر، فقد كانت ازدواجية واشنطن تجاه حكومة محمد مرسي على الأرجح أحد عوامل تسهيل انقلاب السيسي وهنا تستنتج المجلة درسين يجب أن يتعلمهما السودانيون من جيرانهم: بقاء القوى الثورية موحدة والبقاء في الشارع.
السودان بين المصالح والقيم في الدبلوماسية الدولية
على الرغم من التفاؤل بإيجاد حل سلمي للأزمة مع اتساع دائرة الاهتمام الدولي، فإن النقاش لا يزال عند المربع الأول، خاصة مع اتساع لعبة التوازنات والأعداد وازدياد حجم الشروط والشروط المضادة، ومنها أن المجلس العسكري يرفض التدويل وذلك خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى محاسبة دولية للضالعين.
ضحَّى الاتحاد الأوروبي بموقفه الأخلاقي في السودان عبر مصلحته في وقف الهجرة من شرق إفريقيا، وذلك بعد أن قدم دعمًا ماليًا سابقًا للبشير
لكن الموقف الدولي بات أكبر من أن يشترط المجلس العسكري ما يريده وما لا يريده لأحد، فمن لندن، تهدد وزيرة الدولة في الخارجية البريطانية هاريت بالدوين بفرض عقوبات على كل من يعرقل نقل السوادن من الحكم العسكري إلى المدني، وتشيد بالشعب السوداني وتصفه بالشجاع والمثابر، وتندد بالحكم العسكري وتصف حكمه بالوحشي وغير المسؤول.
وعلى عكس الموقف البريطاني المستجد، ضحَّى الاتحاد الأوروبي بموقفه الأخلاقي في السودان عبر مصلحته في وقف الهجرة من شرق إفريقيا، وذلك بعد أن قدم دعمًا ماليًا سابقًا للبشير، الذي يُزعم أنه كان يستخدم في الغالب لتعزيز أجهزته الأمنية، ويبدو أنه يدعم الآن ضمنيًا المجلس العسكري السوداني.
قائد قوات الدعم السريع، نائب رئيس المجلس العسكري في السودان، محمد حمدان دقلو
في ضوء ذلك، ما الذي يمكن أن تفعله المنظمات متعددة الأطراف بشأن السودان؟ لا يتضمن الأمر قدرًا كبيرًا من الخيارات الناجحة، فمنذ عام 1997، خضع السودان لمجموعة من العقوبات لم تؤد إلا إلى إمالة ميزان القوى لصالح الجيش على حساب القوى المدنية، كما يبدو التدخل هو أيضًا غير وارد بعد ما حدث في ليبيا، التي كان لديها أيضًا قوة عسكرية متضخمة ومؤسسات ضعيفة في الدولة، لذلك هناك خوف كبير من أن التدخل العسكري الخارجي يمكن أن يؤدي إلى اندلاع حرب أهلية أخرى في السودان ويجلب المزيد من الفوضى إلى المنطقة.
أمًّا أولئك الذين يطلبون من المجتمع الدولي “القيام بشيء ما”، فإنهم لا يقدِّرون أن “الشيء” الوحيد الذي فعله في السنوات الأخيرة كان التحريض على الحروب إلى الأبد، رغم أن وعود التعددية كانت على وجه التحديد تقوية الدوافع الدبلوماسية والمساعدة في تجنب الصراع.
وهكذا، يبدو أن الشعب السوداني وقع ضحية لأزمة ضعف التعددية، حيث ضمرت الدبلوماسية، في حين انتصرت العسكرة كوسيلة لتحقيق الاستقرار الوهمي.
الطريقة الوحيدة لإنقاذ التعددية هي إتاحة مجال أكبر للقيم ومقابل مجال أقل للمصالح، في عالم مثالي، سوف يُسمح للشعب السوداني بتحديد مصيره دون أن تميل المصالح الخارجية إلى الحكم لصالح السلطة، وفي هذا العالم الأقل مثالية، يجب تجديد التركيز على ما يطلبه المواطنون العاديون بدلاً مما يريده اللاعبون الإقليميون، وإلى أن تجد أي مؤسسة متعددة الأطراف الشجاعة الأخلاقية اللازمة للدفع من أجل ذلك، فإن الشعب السوادني يقف بالفعل وحيدًا.