تعدّ قضية المفقودين في العراق واحدة من أكثر الملفات الإنسانية تعقيدًا بعد عقود من الحروب والصراعات في العراق، والتي تركت آلاف الأسر المفجوعة بفقدان أبنائها من دون معرفة مصيرهم.
تصاعد الأصوات المطالبة بالتحرك لمتابعة قضية المفقودين، واستحداث دائرة خاصة تعنى بهذا الملف، تستعد مؤسسة الشهداء في العراق وبالتعاون مع جهات حكومية ومنظمات إنسانية، للتحري عن هذه الأعداد الكبيرة من المغيّبين.
سجلّ المفقودين
في خطوة مهمة لمعالجة أزمة المفقودين في العراق، أعلنت مؤسسة الشهداء عن خطتها لإنشاء السجل الوطني الموحّد للمفقودين، واستحداث دائرة خاصة تعنى بهذه الفئة، ضمن التعديلات التي أُدخلت على قانونها المرقّم 23 لسنة 2024.
وقال مدير الدائرة القانونية في المؤسسة الدكتور طارق المندلاوي، في تصريح لصحيفة “الصباح” الحكومية الرسمية، إن التعديل يتضمن استحداث دائرة جديدة تحت مسمّى “دائرة المقابر الجماعية والمفقودين”.
وستتولى هذه الدائرة معالجة ملف المفقودين قبل عام 2003 أو بعده، ممّن لم يتم العثور عليهم سواء في المقابر الجماعية أو لدى أي جهة يمكنها تحديد مصيرهم.
وأكد المندلاوي أن هذه الدائرة ستعمل على إنشاء سجل وطني موحّد يضم أسماء المفقودين وبياناتهم، مشيرًا إلى أن العديد من المؤسسات والدوائر الحكومية تملك قوائم بأسماء المفقودين، لكنها تفتقر إلى آلية موحدة للتعامل معها.
وستسعى الدائرة الجديدة إلى التنسيق مع هذه الجهات لتجميع البيانات وتثبيتها في السجل الوطني الموحد، المقرر إنشاؤه بحلول عام 2025 باستخدام أنظمة إلكترونية وبرمجيات حديثة.
وأضاف المندلاوي أن الدائرة ستطلق موقعًا إلكترونيًا خاصًّا لتمكين المواطنين من تقديم أي معلومات عن المفقودين، وسيكون هذا السجل الوطني بمثابة هوية مرجعية شاملة لجميع الجهات العاملة في هذا الملف.
يرى المحلل السياسي جبار المشهداني، أن إنشاء سجل وطني موحّد للمفقودين يمثل خطوة ضرورية لمعالجة أحد أقدم الملفات الإنسانية في العراق.
ويقول المشهداني في حديثه لـ”نون بوست”، إن ملف المفقودين ليس وليد اللحظة، بل يعود تاريخه إلى أكثر من 50 عامًا، حيث شهد العراق موجات مختلفة من الإخفاء القسري خلال فترات الحكم السابقة، لا سيما في ظل الحملات الجماعية للاعتقالات والتغييرات السكانية القسرية.
ويبيّن أن هناك مجموعات من المفقودين اختفوا في ظروف مختلفة، مثل الأكراد الذين تم ترحيلهم قسرًا إلى مناطق مثل السماوة والأنبار، وآخرين تم تغييبهم خلال حملات الاعتقالات الجماعية التي لم تكن تتيح معرفة مصير المعتقلين أو الجهة التي قامت باعتقالهم.
ويشير المشهداني إلى أن ملف المفقودين تفاقم بعد عام 2003 نتيجة الأوضاع الأمنية والسياسية المضطربة، مؤكدًا أن الحديث عن السجون السرّية ظهر بعد هذا التاريخ.
كما يشير إلى أن مدى صحة أو دقة هذه المعلومات لا يزال غير واضح، ما يعكس تعقيد الملف وضرورة وجود آلية موثوقة لتوثيق بيانات المفقودين والتحري عن مصيرهم.
آلاف المغيبين
يعاني العراق من أزمة المفقودين منذ عقود نتيجة الحروب، والصراعات الداخلية، وأعمال العنف الطائفي، إضافة إلى الجرائم المنظمة.
وتتنوع الظروف المحيطة بعمليات التغييب بين الاعتقالات القسرية، وعمليات الإخفاء المرتبطة بالنزاعات المسلحة، والتغييب بفعل جهات غير معلومة، وتؤكد التقارير وجود آلاف المغيبين الذين لا يزال مصيرهم مجهولًا، ما يشكّل مأساة إنسانية تقتضي استجابة عاجلة.
وفقًا للجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري، يقدَّر عدد المفقودين في العراق بما بين 250 ألف ومليون شخص مفقود منذ عام 1968، ما يجعله أحد البلدان التي لديها أكبر عدد من الأشخاص المفقودين في جميع أنحاء العالم.
وأشارت منظمة العفو الدولية إلى أنَّ “عدم تشريع قانون حماية الأشخاص من الاختفاء القسري في العراق، مؤشر على عدم وضع حد لحالات الاختفاء القسري”.
وتشير مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة إلى أن ملف المفقودين في العراق مرّ بمراحل عديدة منذ عام 1968، حيث شهدت البلاد ممارسات واسعة النطاق من التغييب والإخفاء القسري.
وبعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، شهدت البلاد اضطرابات طائفية وأمنية وسياسية أسهمت في تفاقم أزمة المفقودين، والتي بلغت ذروتها بعد عام 2014 عندما باتت أجزاء واسعة من العراق تحت سطوة الجماعات الإرهابية والميليشيات الطائفية، ما أدّى إلى تصاعد عمليات الإخفاء القسري والانتهاكات الإنسانية.
وبعد احتجاجات أكتوبر/ تشرين الأول 2019، شهدت البلاد مرحلة خطيرة من القمع والتغييب القسري، حيث بات مصير عشرات الشباب غير معروف حتى الآن، ووثّقت اللجنة الدولية للصليب الأحمر 618 حالة من الاختفاء في العراق، خلال النصف الأول من عام 2024 الجاري.
وكشف المستشار القانوني في المرصد الدولي لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان فيصل الجابري، في وقت سابق، أن أعداد المغيبين قسريًا في مدينة الموصل وصل أكثر من 8 آلاف شخص منذ عام 2014، وأن العدد الأكبر منهم محتجز قسريًا لدى الحكومة والميليشيات.
وأوضح الجابر أن عدد المغيبين في محافظة صلاح الدين من الميليشيات يبلغ أكثر من 15 ألف، وهناك ما لا يقل عن 3 آلاف مغيب في الأنبار وأكثر من 2000 مغيب في ديالى.
معاناة متواصلة
تعدّ معاناة ذوي المغيبين في العراق واحدة من أشد الأزمات الإنسانية إيلامًا، حيث يعيش آلاف الأسر في حالة مستمرة من الحزن والترقب، بحثًا عن إجابات حول مصير أحبائهم الذين اختفوا في ظروف غامضة.
ولا يقتصر تأثير هذا الغياب القسري على الألم النفسي فقط، بل يترك تداعيات اجتماعية واقتصادية عميقة على العائلات، التي غالبًا ما تواجه تحديات قانونية وإدارية نتيجة غياب الأطر الرسمية التي تعترف بحقوقهم أو تساعدهم في كشف الحقائق.
من جانبه، يقول رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في العراق اختيار أصلانوف، إن اختفاء شخص عزيز يخلّف فراغًا كبيرًا لدى ذويه لا يمكن للوقت أن يملأه.
ويضيف أصلانوف أن “الألم ينتقل من جيل إلى آخر، إذ تواصل العوائل بحثها سعيًا للحصول على إجابات، حياة كل شخص مفقود هامّة، ولعائلته الحق في معرفة ما حصل له. لا يمثل البحث عن الإجابات التزامًا قانونيًا بموجب القانون الدولي الإنسان فقط، إنما يعدّ أمرًا ملزمًا من الناحية الأخلاقية”.
ويأمل المهتمون في هذا الشأن بأن تسهم التعديلات الأخيرة التي تضمنت إنشاء السجل الموحّد ودائرة المفقودين، في إعطاء أمل جديد لهذه العائلات في الكشف عن الحقيقة وتحقيق العدالة، ومع ذلك تبقى الحاجة ملحّة لتسريع هذه الجهود وعدم الاكتفاء بالتصريحات الإعلامية.