بينما كان السوريون المقيمون في مصر يحتفلون بسقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وهروبه خارج البلاد، بتوزيع الحلوى في شوارع القاهرة ومختلف المدن المصرية للتعبير عن ابتهاجهم وسعادتهم، كان الإعلام المصري المعروف بقربه من الحكومة في وادٍ آخر أبعد ما يكون عن الفرحة بحرّية الشعب السوري ونهاية نظام نكّل به لنصف قرن من الزمان.
فالمتابع لأداء الإعلام المصري يجد أنه ومنذ بداية عملية “ردع العدوان” التي شنّتها فصائل المعارضة السورية، والتي نجحت في الإطاحة بنظام الأسد، وقف موقف العداء الصريح للثوار السوريين، واصفًا إياهم بـ”الإرهابيين” و”الدواعش”.
الموقف المصر جاء في الوقت الذي شرعت القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وحلفائها في مراجعة مواقفها من الفصائل السورية، خاصة هيئة تحرير الشام التي قادت عملية إسقاط الأسد، حيث ألغت واشنطن مكافأة بنحو 10 ملايين دولار أمريكي لكل من يدلي بمعلومات عن قائدها أحمد الشرع المعروف سابقًا بـ”أبو محمد الجولاني”، عقب لقاء مساعدة وزير الخارجية الأمريكية باربرا ليف معه على رأس وفد دبلوماسي زار دمشق في وقت سابق.
وقامت الحملات الإعلامية المصرية على 3 مرتكزات أساسية، هي:
- تشويه صورة الثوار السوريين ووصمهم بالإرهابيين.
- بثّ القلق وتقليل فرحة أبناء الشعب السوري المبتهجين، بتخويفهم من المستقبل الذي ينتظرهم تحت قيادة هيئة تحرير الشام.
- تخويف الشعب المصري من إعادة ثورة يناير، حيث فرح العديد من المصريين مشاركين إخوانهم السوريين مشاعر البهجة بسقوط الأسد، وعبّر بعضهم عن أمنياته بسقوط السيسي، عندها عملت وسائل الإعلام المصرية على تضخيم حجم الخراب الذي لحق بسوريا، وأنها تحتاج إلى تريليون دولار لإعادة الإعمار.
والمرتكز الأخير عمل عليه الرئيس عبد الفتاح السيسي شخصيًا، حيث حذّر الأسبوع الماضي من مخطط هدفه “إسقاط الدولة المصرية”، مؤكدًا “أن الجميع يعلم تماسك الدولة والمصريين، وهناك من يسعى إلى كسر هذا التماسك”.
وطالب السيسي في تصريحات خلال زيارته إلى مقر أكاديمية الشرطة، جموع الشعب المصري بالوحدة والتماسك لمواجهة المخطط، لافتًا إلى أن المصريين مسلمين ومسيحيين على قلب رجل واحد ولا أحد يستطيع كسره.
وأضاف أن الاستراتيجية التي وُضعت تتمثل في أنه إذا سقطت مصر سادت الفوضى في العالم كله، موضحًا أن مهمتهم في سوريا خلصت، “لأنهم دمّروا سوريا خلاص”.
مصر لم ترسل وفدًا إلى سوريا
لم يختلف تعامل القاهرة مع الإدارة الجديدة في سوريا كثيرًا عن الإعلام المصري الذي تتحكم فيه السلطة بشكل شبه كامل، إذ جاء أول بيان لوزارة الخارجية المصرية تعليقًا على إطاحة الأسد متحفظًا للغاية.
وجاء في البيان أن “مصر تتابع باهتمام كبير التغير الذي شهدته سوريا، وتؤكد وقوفها إلى جانب الدولة والشعب السوري ودعمها لسيادة سوريا ووحدة وتكامل أراضيها، وتدعو جميع الأطراف السورية بكافة توجهاتها إلي صون مقدرات الدولة ومؤسساتها الوطنية، وتغليب المصلحة العليا للبلاد، وذلك من خلال توحيد الأهداف والأولويات وبدء عملية سياسية متكاملة وشاملة تؤسّس لمرحلة جديدة من التوافق والسلام الداخلي، واستعادة وضع سوريا الإقليمي والدولي”.
وأكدت مصر في البيان استمرارها في العمل مع الشركاء الإقليميين والدوليين، لتقديم يد العون والعمل على إنهاء معاناة الشعب السوري الممتدة.
لكن القاهرة وعلى خلاف دول عربية وأجنبية عديدة، لم ترسل حتى الآن أي وفد أو مسؤول إلى دمشق بعد سقوط نظام الأسد، ما أثار العديد من التساؤلات عن الموقف المصري من الإدارة السورية الجديدة.
وخلال الأسابيع الماضية، أجرى وزير الخارجية المصري اتصالات مكثفة لمناقشة الأوضاع في سوريا، مع مختلف الأطراف الدولية والإقليمية، حيث كانت هذه الاتصالات دائمًا ما تؤكد دعم مصر على استقرار سوريا ووحدة وسلامة أراضيها، ورفض المساس بسيادتها أو تقسيمها.
غير أنّ العديد من الوجوه الإعلامية المصرية المعروفة بقربها من الحكومة في مصر، تواصل هجومها الضاري على الإدارة السورية الجديدة، وقائدها أحمد الشرع، فبعد هروب بشار الأسد إلى موسكو، ظهر الإعلامي والنائب المؤيد لنظام السيسي مصطفى بكري، حزينًا على مصير الأسد وعاتبه قائلًا: “ليتك بقيت للنهاية بدلًا من أن تسلّم شعبك لهؤلاء الإرهابيين”، وأضاف “كلنا مستهدفون، لن يقف الأمر عند حدود سوريا”.
يشير تقرير سابق لـ”نون بوست” إلى أنّ المقاربة المصرية إزاء الملف السوري منذ اندلاع ثورته عام 2011 ارتكزت على ثنائية متلازمة، الدعم المطلق لنظام الأسد ومناهضة إرادة السوريين، وإن تأرجحت نسبيًا بين الحين والآخر خلال الأعوام الثلاثة من الثورة، لكنها في المجمل لم تخرج عن هذا السياق.
وباستثناء فترة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي (2012/2013)، الذي أعلن دعمه الكامل والمطلق للثورة السورية واحترام إرادة السوريين، وقطع العلاقات مع نظام الأسد الذي اتهمه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بحق شعبه، جاء موقف النظام الحاكم في القاهرة داعمًا للنظام السوري على طول الخط، دبلوماسيًا وسياسيًا وعسكريًا.
ولعلّ ما صرح به مدير قناة “سكاي نيوز” الإماراتية نديم قطيش مؤخرًا، بأنه “حتى لو دفع العرب كل ما يملكون فلن يقبلوا بمحمد مرسي آخر في سوريا.. هذا قرار أخذناه كلنا ولا رجعة فيه”، يعكس وبشكل كبير حالة القلق والتربُّص التي تُحاك بالثورة السورية من قبل النظامَين المصري والإماراتي، بحسب كلام قطيش الذي اعترف ضمنيًا بأن الإطاحة بمرسي كانت قرارًا مخططًا له مسبقًا بشكل مدروس، وليس رد فعل شعبي على سوء الإدارة خلال عام حكمه كما حاول البعض تبرير الانقلاب عليه.
وصل زبانية العرب الى مرحلة من الفجور ان صار كلابهم ينبحّون بخيانتهم على الشاشات
نديم قطيش – مدير سكاي نيوز عبرية وواحد من السنة شيطان العرب يتحدث عن احمد الشرع :
” حتى لو دفع العرب كل ما يملكوا فلن يقبلوا ب محمد مرسي آخر في سوريا .. هذا قرر اخذناه كلنا ولا رجعة فيه !!”
— معتز مطر (@moatazmatar) December 26, 2024
هشاشة نظام ديكتاتوري
الانهيار المدوي لنظام الأسد، كشف من جديد عدم واقعية التقارير التي تُنشر بانتظام عن قوة الجيوش وترتيبها وحجم تسليحها، فالجيش السوري كان يحتل المركز السابع عربيًا والـ 64 عالميًا وفقًا لتصنيف مؤشر القوة العسكرية “غلوبال فايرباور” لعام 2023، فإذا به ينهار ويتجرّع الهزيمة تلو الهزيمة، إذ لم يبدِ مقاومة تذكر في وجه مقاتلي المعارضة، حتى سقط النظام بالكامل بعد 11 يومًا فقط من بدء عملية “ردع العدوان”.
ويرجّح الخبراء أنه خلال الأيام التي سبقت سقوط الأسد لم تكن هناك مقاومة فعلية، ليس لضعف قوات النظام وإنهاكها فحسب، بل لأنه لم يعد هناك من يريد القتال من أجل الأسد، ومن ناحية أخرى كانت المعارضة السورية تنتصر دبلوماسيًا وسياسيًا جنبًا إلى جنب مع انتصاراتها العسكرية.
فكما كتب تشارلز لستر، الباحث في الشأن السوري في معهد الشرق الأوسط واشنطن، تفاوضت المعارضة مع وجهاء الإسماعيليين، وقيادات عسكرية ومدنية في نظام الأسد، والقبائل السنّية، ما أدّى إلى سيطرة سلمية من المعارضة في معظم الحالات، وبطبيعة الحال الظروف الأخرى مثل انشغال حليفة الأسد روسيا في حربها مع أوكرانيا، والضعف الذي اعترى إيران و”حزب الله” نتيجة الاستهداف الإسرائيلي.
وفي كل الأحوال، كان السقوط المدوي لنظام الأسد بمثابة زلزال سياسي في المنطقة، أثار مخاوف عميقة لدى الأنظمة الديكتاتورية وفي مقدمتها نظام عبد الفتاح السيسي، خاصة بعدما استقبل الشارع المصري التطورات بفرح وأمل نحو تغيير محتمل ينهي قبضة السيسي القمعية على السلطة.
مخاوف من ثورة جديدة
لطالما استخدم النظام المصري سردية “حتى لا نصبح مثل سوريا” لتبرير قبضته القمعية، إذ يعاني عشرات الآلاف من معارضي السيسي من الاعتقال والإخفاء القسري في سجون وصفتها منظمات حقوقية بأنها تشبه سجن صيدنايا سيّئ السمعة في سوريا، لكن سقوط الأسد قوّض سردية “مصير سوريا” وأثار مخاوف النظام من إحياء الأمل لدى الثوار المصريين الذين أطاحوا بالديكتاتور حسني مبارك قبل نحو 13 عامًا.
واليوم في ظل الفشل الاقتصادي والتذمر الذي يتزايد في الشارع المصري، يخشى النظام من أن تلهم التطورات في دمشق الشعب المصري وتدفعه للانفجار والخروج إلى الشوارع والميادين، فحينها لن تقوى أي قبضة أمنية على التصدي لشعب كامل، أو ربما يأتي التغيير بشكل مختلف مثل تحرك عسكري من داخل الجيش.
سقوط الأسد وضع النظام المصري أمام تحديات كبيرة ربما تتزايد مع اقتراب الذكرى الـ 14 لثورة 25 يناير، حيث يتطلع المعارضون أن تُلهم التجربة السورية المعارضة المصرية لإعادة تنظيم صفوفها ورسم خارطة طريق للإنقاذ الوطني.
في الوقت نفسه، طرحت بعض الأحزاب السياسية المصرية خارطة طريق تشمل استعادة الحريات العامة، والإفراج عن معتقلي الرأي ورفع القيود عن الأحزاب والنقابات، وضمان استقلال القضاء، كما دعت إلى العودة لدستور 2014 لتحديد صلاحيات الرئيس وفترة ولايته.
بينما يتحدث بعض المقربين من السيسي عن فكرة تأسيس حزب موالٍ يخرج من رحم اتحاد القبائل والعائلات تحت اسم “اتحاد مصر الوطني” أو “كيان مصر”، تكون لديه أفضلية امتلاك قاعدة جماهيرية كبيرة قوامها القبائل والعائلات، وهو ما يصنع له ظهيرًا شعبيًا قد لا يتوفر لأي حزب ناشئ آخر يسعى لاستقطاب جماهير ومؤيدين.
موجة من الزوار الأجانب
كان من اللافت أن العاصمة السورية دمشق شهدت في الأيام الماضية توافد العديد من المسؤولين والدبلوماسيين العرب والغربيين للاجتماع مع حكام سوريا الجدد، حيث يعكس ذلك الأهمية الجيوسياسية التي تتمتع بها الدولة الشرق أوسطية.
فيما يشير الغياب المصري إلى حالة الصدمة التي ما زال يعيشها نظام السيسي جراء إطاحة بشار الأسد، ويعتقد المساعد السابق لوزير الخارجية المصري حسين هريدي أن الوضع الحالي في سوريا “وضع مؤقت ولا يجب التعامل مع أي اتفاقات أو قرارات تنتج عنه على أنها دائمة، وهذا هو موقف مصر الذي تلتزم به”.
ويضيف هريدي في حديث لـ”بي بي سي عربي“، بالقول: “هذه جماعة إرهابية وهذا زعيم إرهابي، ولا نستطيع أن نتعامل معه، والتعامل معه يعني قبول مصر لمبدأ التعامل مع إرهابيين يفرضهم الغرب كرؤساء أو زعماء سياسيين حسب مصالحه”، وزاد: “بشكل شخصي، لا أتصور أن أي مسؤول مصري سيصافحه (الشرع) أو يستقبله حتى إذا تمّ انتخابه رئيسًا لسوريا”.
في مقابل الموقف المصري المرتبك، دوّن وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني على منصة إكس منشورًا جاء فيه: “نتطلع إلى بناء علاقات هامة واستراتيجية مع جمهورية مصر العربية تحت احترام سيادة البلدَين وعدم التدخل في شؤونهما”.
نتطلع إلى بناء علاقات هامة واستراتيجية مع جمهورية مصر العربية تحت احترام سيادة البلدين وعدم التدخل في شؤونهما.
— أسعد حسن الشيباني (@Asaad_Shaibani) December 28, 2024
ويمكن أن يفسَّر منشور الوزير السوري برغبة الإدارة الجديدة في بثّ تطمينات لمصر التي، لم تفق بعد من صدمة سقوط الأسد، والتأكيد لها بأن سوريا الجديدة لن تتدخل في الشأن المصري كما يتخوف السيسي وأتباعه، فهل تنجح تلك التطمينات في تهدئة مخاوف السيسي ودفعه إلى التواصل مع الإدارة الجديدة، أم يبقى الوضع كما هو؟