عاد الحديث مجددًا عن النفوذ الإيراني في العراق في ظل التطورات المتسارعة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط خلال الشهرين الماضيين، خاصة في الأسبوعين الأخيرين اللذين أعقبا سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
شهد النفوذ الإيراني في المنطقة توسعًا كبيرًا عقب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. قبل ذلك، كان النفوذ الإيراني مقتصرًا على دعم محدود لـ”حزب الله” في لبنان، إلى جانب علاقات دبلوماسية جيدة مع سوريا.
لكن مع الاحتلال الأمريكي للعراق، باتت بغداد بوابة إيران إلى العالم العربي، حيث تمددت طهران بعدها لتوسيع نفوذها نحو بيروت ودمشق، وصولًا إلى اليمن، ما جعل العراق نقطة انطلاق رئيسية لاستراتيجية طهران في المنطقة بعد الغزو الأمريكي.
بداية النفوذ
كان التدخل الإيراني في العراق واضحًا منذ الأشهر الأولى للغزو الأمريكي، حيث يرى العديد من المراقبين أن تمدد النفوذ الإيراني في البلاد كان بموافقة أمريكية ضمنية، تجلت في شكل “تعاون غير معلن” أو “مصالح مشتركة”، في إطار مساعٍ للسيطرة على الوضع العراقي والحد من تصاعد المقاومة المسلحة السنية التي واجهت القوات الأمريكية في السنوات الأولى من الاحتلال.
مع حلول العام الأول للغزو، وصياغة الدستور العراقي الجديد الذي كرّس مبدأ المحاصصة الطائفية في توزيع المناصب، استطاعت طهران من تعزيز نفوذها المتصاعد في العراق عبر شخصيات سياسية كانت مقيمة في إيران، أو مدعومة منها، أو ممن شاركوا في الحرب العراقية-الإيرانية بما يخدم مصالح طهران الاستراتيجية.
مع تولي نوري المالكي رئاسة الوزراء في دورته الأولى (2006-2010)، استطاع تعزيز هيمنته وتوسيع نفوذ إيران داخل مؤسسات الدولة العراقية، وتجلى ذلك بوضوح خلال فترة الحرب الأهلية الطائفية التي اندلعت في 2008، حيث لعبت سيطرة القوى الشيعية على الأجهزة الأمنية، بما في ذلك وزارات الدفاع والداخلية وأجهزة استخباراتية أخرى، دورًا محوريًا في ترسيخ هذا النفوذ.
في دورته الثانية (2010-2014)، واجه المالكي تحديات متزايدة مع اندلاع المظاهرات الشعبية في المدن ذات الأغلبية السنية شمال وغرب العراق، وردت حكومته على تلك الاحتجاجات بالقمع، مما أدى إلى تعميق الانقسامات الطائفية.
ومع استمرار الفساد المستشري في المؤسسات الأمنية، لا سيما ما عُرف بـ”الوحدات العسكرية الوهمية” أو “الفضائية”، تآكلت كفاءة الجيش العراقي، فمهدت هذه الظوف مجتمعة الطريق لاكتساح تنظيم “داعش” في يونيو/حزيران 2014، حيث تمكن التنظيم من السيطرة على مساحات شاسعة من العراق خلال شهرين فقط.
مع إصدار المرجع الشيعي علي السيستاني ما يُعرف بـ”فتوى الجهاد الكفائي” وتشكيل وحدات الحشد الشعبي، شهد النفوذ الإيراني توسعًا كبيرًا، ليس فقط في المناطق السنية التي كانت مسرحًا للعمليات ضد تنظيم “داعش”، بل أيضًا في الجنوب العراقي، وذلك تزامنًا مع استغلال المخاوف الطائفية لتأمين نفوذ أكبر، حيث روّج الخطاب الإيراني لفكرة حماية الشيعة من خطر محتمل من السنة.
رغم هذا التوسع، واجه النفوذ الإيراني رفضًا متزايدًا داخل العراق، بما في ذلك الأوساط الشيعية. فقد اندلعت مظاهرات حاشدة تطالب بتحسين الخدمات العامة ومكافحة الفساد، بلغت ذروتها في انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 2020، التي انطلقت في بغداد والمحافظات الجنوبية، فقوبلت بقمع وحشي أسفر عن مقتل وإصابة آلاف المتظاهرين، ما زاد من حدة الاحتقان الشعبي تجاه الدور الإيراني في العراق.
الوضع الحالي
مع تداعيات الحرب الإسرائيلية على لبنان وتراجع دور “حزب الله”، إضافة إلى سقوط نظام بشار الأسد قبل أسبوعين، يبدو أن النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط يشهد انتكاسة كبيرة، أعادت مكاسب طهران عقودًا إلى الوراء، وهو ما عبّر عنه صراحة القائد العام للقيادة السورية المؤقتة، أحمد الشرع، الذي قال إنهم نجحوا في تقليص النفوذ الإيراني في سوريا إلى ما كان عليه قبل 40 عامًا.
أما على الساحة العراقية، فإن التطورات المتسارعة والجولات الدبلوماسية التي يقوم بها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى دول الجوار، بالتزامن مع زيارات مسؤولين غربيين إلى بغداد بعد سقوط الأسد، تشير إلى تحولات جيوسياسية قيد الإعداد.
مصادر عراقية رفيعة كشفت لـ”نون بوست” أن وزير الخارجية الأمريكي، أنطوني بلينكن، أجرى زيارة غير معلنة إلى بغداد الأسبوع الماضي، أبلغ خلالها السوداني بضرورة اتخاذ خطوات حاسمة، تشمل إنهاء نشاط الفصائل المسلحة المدعومة من إيران، وحل الحشد الشعبي، ومنع دمج عناصره في الأجهزة الأمنية، كجزء من استراتيجية أمريكية لإعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة.
شهد العراق خلال ثلاثة أيام فقط سلسلة من التحركات الدبلوماسية، بدأت في 14 ديسمبر/كانون الأول الجاري بزيارة قائد القيادة الوسطى الأمريكية إلى بغداد، تلتها زيارة غير معلنة لوزير الخارجية الأمريكي وزيارة وزير الدفاع الألماني، وانتهت بمكالمة الرئيس الفرنسي للسوداني وزيارة الأخير إلى السعودية، ما يشير إلى التحضير لملفات حساسة.
المهلة الأخيرة وتصدع النفوذ
كشف المستشار السياسي لرئيس الوزراء العراقي، إبراهيم الصميدعي، خلال حديث تلفزيوني، أن الولايات المتحدة اشترطت على الحكومة العراقية حل الفصائل المسلحة، محذرًا من أن دولًا خارجية قد تتولى حلها بالقوة في حال امتناع الحكومة عن ذلك.
أثارت هذه التصريحات تفاعلًا واسعًا بين العراقيين، وسط انزعاج حكومي واضح، دفع رئيس الوزراء إلى إصدار قرار يمنع مستشاريه من الإدلاء بأي تصريحات صحفية دون موافقة رسمية مسبقة. على إثر ذلك، قدّم الصميدعي استقالته من منصبه.
تأتي تصريحات الصميدعي بالتزامن مع تخوفات أبدتها شخصيات سياسية عراقية بشأن وجود تحركات تُحاك في الأفق ضد العراق، في ظل تأكيدات أمريكية سابقة بأنها حاولت مرارًا منع “إسرائيل” من شن هجمات على العراق، بعد الاستهداف المتكرر من الفصائل المسلحة للمدن المحتلة في الكيان الصهيوني.
يبدو أن هناك سيناريوهات غربية متعددة تهدف إلى تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة، إلا أن تنفيذها لن يكون يسيرًا، خاصة أن العراق يمثل القلعة الأخيرة المتبقية في شبكة النفوذ الإيراني، التي تقلّصت بشكل كبير خلال العام الأخير لتقتصر على العراق والميليشيات المدعومة من طهران.
ما يعزز فرضية حل الفصائل المسلحة بالقوة هو تصريحات الصميدعي، إلى جانب رفض الميليشيات التخلي عن سلاحها، فقد أكد المتحدث باسم كتائب “سيد الشهداء”، كاظم الفرطوسي، أن سلاح المقاومة شأن داخلي لا يحق لأي طرف خارجي التدخل فيه.
وأشار مصدر سياسي عراقي، في تصريح لـ”نون بوست” فضل عدم الكشف عن هويته، إلى أن الحكومة العراقية وتحالف الإطار التنسيقي باتا يدركان أن رياح التغيير قادمة إلى العراق، وأن واشنطن عازمة على إنهاء دور الميليشيات المدعومة من إيران وحل الحشد الشعبي بصورة نهائية.
وبين المصدر أن النقاشات الحامية ما زالت مستمرة داخل الإطار التنسيقي، في ظل رفض العديد من الفصائل حل نفسها أو تجميد نشاطاتها، خصوصًا كتائب حزب الله العراق والنجباء وسيد الشهداء. وأشار إلى أن هناك أطرافًا حكومية تخشى من اقتراب تنفيذ عمليات عسكرية جوية ضد أهداف للفصائل داخل العراق.
وتابع المصدر بأن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل إن بعض الشخصيات السياسية العراقية، رغم ارتباطها الوظيفي بإيران، أصبحت متشككة في قدرة إيران على البقاء والتوسع، أو في قدرتها على الحفاظ على مكتسباتها الحالية، خاصة في ظل خسارتها لحليفها اللبناني والسوري، بالإضافة إلى التحديات الكبيرة التي تواجهها إيران على مختلف الأصعدة.
من جانبه، يرى فراس إلياس، الخبير في الشؤون الأمنية والجماعات المسلحة، أن أحد أبرز التنازلات التي ستقدمها إيران في العراق في المرحلة المقبلة هو تحولها من قوة مهيمنة إلى قوة مؤثرة فقط، إذ يعتقد إلياس أن إيران ستسمح لدول عدة، مثل السعودية وتركيا، بأخذ مساحة أكبر في العراق، وذلك لقناعتها بأن الإصرار على النهج السابق قد يعرض وجودها في العراق للخطر.
أحد أبرز التنازلات التي ستقدمها إيران في العراق بالمرحلة المقبلة، هو التحول من قوة مهيمنة إلى قوة مؤثرة، وستسمح لدول عدة، منها السعودية وتركيا لتأخذ مساحة كافية في العراق، لقناعة منها بأن الإصرار على النهج السابق سيعرضها ويعرض وجودها للخطر، وبالتالي فإن دخول قوى أخرى للعراق،… pic.twitter.com/tbStkCcd0p
— فراس إلياس (@FirasEliasM) December 18, 2024
يضيف إلياس أن دخول قوى أخرى إلى العراق سيجعل مصالح إيران وحلفائها العراقيين تتشابك مع مصالح الآخرين، ما يوفر لإيران فرصة للحفاظ على وجودها ووجود حلفائها في النظام السياسي الحالي، ويعتقد أن إيران، من خلال هذا النهج، ستجعل مسألة الخطر الذي يهدد إزاحتها من العراق موزعة على الجميع، وليس على إيران فقط.
من جهته، يرى الخبير الأمني رياض العلي أن هناك العديد من السيناريوهات التي قد يواجهها العراق، لكن إسقاط النظام السياسي ليس من بينها، ويؤكد العلي أن أي تحرك أمريكي أو غربي قادم في العراق سيكون بدفع من “إسرائيل”، التي لم ترد بعد على عشرات الضربات التي تلقتها من الفصائل العراقية.
وفي حديثه لـ”نون بوست” يرى العلي أن حديث رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لقناة “العراقية” الرسمية، بأن العراق يرفض أي إملاءات لحل الحشد الشعبي، مخاوف حقيقة من أن الفصائل قد رفضت حل نفسها وتسليم سلاحها، وبالتالي بات القلق متصاعدًا في بغداد مما هو قادم.
وبخصوص عدم قدرة السوداني على حل الحشد أو تحجيم فصائل معينة، يرى العلي أن السوداني يعتبر ضعيفًا من الناحية العملية، وأنه لا يوجد أي رئيس وزراء في العراق يستطيع مواجهة نفوذ الفصائل التي يشارك بعضها في الحكومة بشكل رسمي.
لا شك أن العراق تلقى تحذيرات عديدة خلال الأسابيع الماضية في محاولة قد تكون الأخيرة لتدارك الوضع وتجنب إدخال البلاد في متاهة مواجهة جديدة أو اضطراب للأمن الداخلي. واختتم العلي حديثه لـ”نون بوست” قائلاً إن إيران لن تتخلى عن أي جزء من نفوذها في العراق بصورة سلمية، حيث يعتبر العراق البوابة الاقتصادية و”كنز الذهب” الذي لا ينفد، والذي تستخدمه طهران للتهرب من العقوبات الغربية الصارمة.
قد يرى البعض أن الحد من النفوذ الإيراني مستحيل على أرض الواقع بسبب طول الحدود بين البلدين التي تتجاوز 1400 كيلومتر. ومع ذلك، يرى الرأي المقابل أن النفوذ الإيراني في العراق لم يكن حاضرًا منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921، رغم التشابه في المكونات العرقية والطائفية. ويعزز هذا الرأي الاعتقاد بأن النفوذ الإيراني في العراق أصبح ممكنًا فقط بعد الغزو الأمريكي، وتماهي مصالح واشنطن وطهران في فترات متعددة.
الآن، يترقب العراقيون الأسابيع القادمة في ظل غموض ما ستؤول إليه الأوضاع في بلادهم بعد سلسلة التحولات الجوهرية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في الأشهر الثلاثة الماضية، وخاصة بعد سقوط نظام الأسد.