لا يزال الاحتقان يسيطر على الأجواء والتطورات السياسية في السوادن، ويتصدر فض المجلس العسكري الانتقالي في الـ3 من يونيو/حزيران لاعتصام الثوار المطالبين بنظام مدني في البلاد وتداعياته جميع المواقف المحتقنة، ويلقي بظلال على استئناف التفاوض بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، خاصة بعد اعتراف المجلس بفض الاعتصام وسقوطه في شباك التناقضات.
روايات متضاربة عن فض الاعتصام
كانت أقوال الفريق شمس الدين كباشي رئيس اللجنة السياسية بالمجلس العسكري الانتقالي السوادني مرسلة، وفاضت بالاعترافات الكبيرة والخطيرة، ومنها ما جاء قصدًا أو غفلة أو اضطرابًا في الرواية، فتارة يتحدث عن إحباط أكثر من انقلاب تم التخطيط له ضد المجلس، وتارة يقر بأن المجلس أمر بفض الاعتصام لكن أخطاء في التنفيذ وقعت خلال العملية، وتارة أخرى يتحدث عن إخلاء منطقة كولومبيا لدواعٍ أمنية وفقًا للقانون.
ربما لم يقدِّر عضو المجلس العسكري خطورة ما قاله في شأن وضع رئيس القضاء يحيى الطيب أبوشورة ورئيس النيابة الوليد سيد أحمد في دائرة الاتهام لأول مرة، وإقراره في غفلة منه بتورطهما في فعل انتهى بقتل وسفك دم غزير
وفي ختام حديثه تحدث كباشي، وهو الناطق الرسمي باسم المجلس العسكري الانتقالي، عن اجتماع لا ينعقد مثله إلا في شأن المعارك المفصلية الكبرى في التاريخ، ففي مؤتمر صحفي يوم الخميس الماضي، قال كباشي: “دعونا لاجتماع موسع حضره كل أعضاء المجلس العسكري الانتقالي وقادة القوات النظامية والمسلحة (رئيس الأركان ورئيس هيئة الاستخبارات العسكرية ومدير جهاز الأمن والمخابرات ونائبه ومدير عام الشرطة ونائبه وقات الدعم السريع)، وطلبنا أيضًا من رئيس القضاء والنائب العام أن يحضرا هذا الاجتماع لتقديم المشورة القانونية”.
كان كل شيء يقول إن إفادات الفريق شمس الدين كباشي لن تكون بعدها الأمور كما كانت من قبل، إذ يشير قوله إلى ائتمار المجلس العسكري وانعقاد نيته على فض الاعتصام القائم أمام القيادة العامة للجيش، لكن ربما لم يقدِّر عضو المجلس العسكري خطورة ما قاله في شأن وضع رئيس القضاء يحيى الطيب أبوشورة ورئيس النيابة الوليد سيد أحمد في دائرة الاتهام لأول مرة، وإقراره في غفلة منه بتورطهما في فعل انتهى بقتل وسفك دم غزير.
أعلن الناطق باسم المجلس العسكري مؤخرًا أن المجلس حصل على رأي قانوني بشأن فض الاعتصام
لكن رغم الشك الذي ساور كثيرًا من السودانيين بشأن حياد القضاء والنيابة العامة بعد إعلان كباشي، فإن اتهام المجلس العسكري جهة عدلية تحظى بثقة الشعب السوداني كان خطوة غير موفقة، فما لبث أن عادت هذه التصريحات محملة بالتهم للمجلس الذي كان عليه الاكتفاء بالاعتذار للشعب السوداني بعد اعترافه بالمذبحة، كما يقول قانونيون.
أمَّا من قدَّر ذلك فهو رئيس القضاء نفسه الذي نفى أن يكون فض الاعتصام قد تم بإذن قضائي، وورد في بيان أصدره المكتب الفني والبحث العلمي بالسلطة القضائية السودانية ردًا على تصريحات كباشي أن رئيس القضاء دُعي إلى اجتماع في وزارة الدفاع لم تُحدد له أجندته، وذلك في يوم الـ25 من مايو/أيار الماضي.
ووفق البيان، سُئل رئيس الجهاز القضائي عن رأيه في إخلاء منطقة كولومبيا لدواع أمنية وفقًا للقانون وبطريقة حضارية، فرد بأنه ليس من صلاحيات القضاء الخوض فيما طُرح عليه وفق القانون السوادني، وإنما من اختصاص النيابة العامة والشرطة، ثم استأذن وغادر.
بيان مجلس القضاء السوادني
كذلك نفي النائب العام في تصريحات صحفية حدوث أي نقاش بشأن فض الاعتصام، وقال إن هذا الموضوع لم يُعرض خلال اجتماعه مع المجلس العسكري، وإنما عُرض عليه موضوع كولومبيا، مضيفًا أن مكتبه أوفد 3 من وكلائه للمشاركة في عملية تنظيف وإخلاء منطقة كولومبيا المتاخمة لموقع الاعتصام ولم تُطلق رصاصة واحدة بحضورهم.
بعد ذلك بساعات أعلنت لجنة تحقيق تابعة للمجلس العسكري الانتقالي ضلوع ضباط برتب مختلفة في فض الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش بالخرطوم، وألمحت إلى أن عملية الفض لم تكن بأمر من المجلس العسكري بقولها إن هؤلاء الضباط دخلوا مقر الاعتصام دون علم من الجهات المختصة.
المجلس العسكري يفقد مصداقيته
تقف رواية الفريق شمس الدين كباشي عن فض الاعتصام – الذي راح ضحيته أكثر من 100 شخص – عارية من الصدق بعد تكذيب ادعاءاته بالحصول على رأي قانوني من رئيس النيابة ورئيس القضاء الذي ترجاه أن يصحح ما بثه من خبر غير دقيق عن ذلك الاجتماع.
كل هذا يترك المجلس العسكري الانتقالي يخوض في غمار حيرته، ويجعل منه متورطًا، فأقواله وأفعاله بشأن المجزرة ستكون محل تحقيق دولي أو وطني، حتى إن نفى تورطه فإن لقطات الفيديو التي بدأت في الظهور بشكل يومي لوقائع ذلك الصباح الدامي تؤكد أن القصد كان اعتصام القيادة.
تشير هذه الحقائق مجمعة إلى أن المجلس العسكري الانتقالي أصبح عنوانًا للأزمة السوادنية، فهو في صراع مع قوى الثورة بعد انفتاح شهيته للسلطة وطلبه أن تكون له السيادة على الدولة
وتظهر اللقطات أرتالًا من السيارات كانت قادمة في صباح الـ3 من يونيو/حزيران من جهة جنوب الخرطوم عبر منطقة العمارات في طريقها إلى القيادة العامة، وهي السيارات التي دخلت منطقة القيادة فتلقاها المعتصمون بهتافات قبل أن تغدر بهم وقبل أن يدفع الجيش دفعًا بعيدًا عن القيادة ليواجه المعتصمون مصائرهم على أيدي من يسمون بشركائهم في الثورة، وهم “العسكر”.
كما أظهرت مقاطع فيديو جديدة مشاهد من عملية فض الاعتصام في آخر أيام شهر رمضان، وتبدو في الصور قوات أمنية مسلحة بالبنادق ترتدي أزياء زرقاء اللون أو بنية فاتحة وهي راجلة أو على متن عربات عسكرية، مع سماع أصوات إطلاق رصاص متواصل وانتشار حالة من الهرج والمرج وسقوط ضحايا.
وتشير هذه الحقائق مجمعة إلى أن المجلس العسكري الانتقالي أصبح عنوانًا للأزمة السوادنية، فهو في صراع مع قوى الثورة بعد انفتاح شهيته للسلطة وطلبه أن تكون له السيادة على الدولة.
من جهة أخرى، يعاني المجلس أزمة الشرعية المتناقصة بعد قتل جنوده للمتظاهرين الثوار وسعيه من بعد ذلك لاصطناع جماهيرية رغائبية تشير الوقائع إلى أنها لن تطول إلا باستخدام القوة المفرطة.
كما أن المجلس بارتمائه في أحضان داعميه الإقليميين أصبح رهين تلك الارتباطات، فالمال السعودي والإماراتي يتدفق بمقدار القيام بمهمة تقديم الجنود السودانيين لحرب اليمن، وهي حرب لا مصلحة بينة للسودان فيها.
تفويض شعبي.. حميدتي على خُطى السيسي
في تطورات السبت أيضًا نوَّه نائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو “حميدتي” إلى إمكانية إعلان “حكومة كفاءات وتكنوقراط” في السوادن دون التوصل إلى اتفاق، معلنًا أن المجلس يمتلك “تفويضًا ممنوحًا من الشعب السوادني”، معتبرًا أن هذا الحشد الجماهيري دليل على ذلك على حد قوله.
كما أشار حميدتي – خلال تجمع شعبي شمالي العاصمة الخرطوم – إلى وجود سفراء لدول أجنبية – لم يسمها – في الخرطوم تحيك ما وصفها بالـ”مؤامرات”، متعهدًا بكشف تفاصيلها في غضون يومين.
استنكر ناشطون حديث حميدتي عن “تفويض شعبي”، وقالوا إنه يشبه خطاب عبد الفتاح السيسي في مصر، حين طلب تفويضًا شعبيًا عقب إطاحة الجيش بالرئيس محمد مرسي
وافق قول حميدتي هذا ما أكده عضو المجلس العسكري الانتقالي الفريق ياسر العطا بشأن العزم على تشكيل حكومة لإدارة التحول الديمقراطي بغض النظر عن شكل الاتفاق، معتبرًا أن مجموعات شبابية ثورية سئمت من قوى التغيير، وأنه سيتصدى لأي محاولات تستهدف إسقاط السودان.
وبيدو أن ثمة اتفاق بين أعضاء المجلس العسكري على ذلك، وهو ما يؤكده إعلان شمس الدين كباشي عن تشكيل حكومة لتصريف الأعمال خلال أسبوعين “سواء تم الاتفاق مع قوى الحرية والتغيير أم لم يتم”، متحدثًا في تصريحات لصحيفة “الانتباهة” السودانية عما عرج إليه حميدتي بشأن “التفويض الشعبي”، وقال: “نحن لدينا خيار الدعوة لانتخابات مبكرة، لكن أرجأنا هذا الخيار للجهود التي يبذلها الوسطاء وصولاً لاتفاق”، وفق ما نقلته.
حميدتي (وسط) أعلن إمكانية تشكيل “حكومة كفاءات وتكنوقراط” في السوادن دون التوصل إلى اتفاق
ثم التقى كباشي مع الفريق عطا في حديثه عن شكل الحكومة القادمة، معلنًا أنه في حال تعثر الاتفاق مع قوى الحرية والتغيير ستتم مشاركة بعض الأحزاب المنضوية تحته بمشاركة بعض التكنوقراط بمن فيهم عدد من أساتذة الجامعات وبعض الخبرات الوطنية التي تعمل في المنظمات الإقليمية والدولية.
تصريحات أعضاء المجلس العسكري عن إمكان تشكيل حكومة كفاءات دون مشاركة بعض القوى السياسية لاقت انتقادت واسعة من السودانيين الذين قالوا إنهم لم يفوضوا حميدتي للتحدث باسمهم، واستنكر ناشطون حديث حميدتي عن “تفويض شعبي”، وقالوا إنه يشبه خطاب عبد الفتاح السيسي في مصر، حين طلب تفويضًا شعبيًا عقب إطاحة الجيش بالرئيس محمد مرسي.
في حين أعلنت قوى الحرية والتغيير عدم مشاركتها في الحكومة الانتقالية التي تحدث عنها أعضاء المجلس العسكري، ورأت في ذلك مماطلة بشأن المطالب المتعلقة بتقديم الجناة في فض الاعتصام، وكذلك المطالب المتعلقة بالحريات العامة والإعلامية، وهددت قوى الحراك بإثارة خطوات تصعيدية، منها الدخول في إضراب عام والدعوة لمظاهرات جديدة ووقفات احتجاجية.
تزداد الحاجة إلى التحقيق الدولي بعد إيحاء الفريق شمس الدين بمشاركة ومباركة رئيسي القضاء والنيابة العامة على الخطة التي بذلا لها النصح والرأي بما يعني تورطهما ضمنًا في المجزرة
إلى ذلك، أُسدل الستار على يوم السبت بإعلان النائب العام إحالة الرئيس المخلوع عمر البشير إلى المحاكمة قريبًا بعد انتهاء مدة الاستئناف المحددة بأسبوع، وذلك بناءً على اكتمال التحريات بشأن بلاغ يتهم البشير بحيازة نقد أجنبي والثراء غير المشروع.
واستأثرت الأخبار بشأن محاكمة البشير بحيز من التعليقات، وفي حين تساءل بعض النشطاء عن مصير بقية رموز نظامه المتهمين، رأى آخرون في ذلك الإعلان محاولة لاسترضاء غضب الشارع السوداني وشغله عن مجريات الأحداث التي يدبرها المجلس العسكري.
أزمة السودان على طريق التدويل
في هذه الأثناء، تخيم حالة من الترقب في مختلف الاتجاهات لإعلان نتائج لجنة شكلها المجلس العسكري الذي يدير البلاد للتحقيق فيما يصفه بالأخطاء التي صاحبت العملية وأدَّت إلى سقوط عشرات الضحايا الذين أعلنوا تمسكهم بسيادة السلطة المدنية في الفترة الانتقالية.
عززت اعترافات الفريق كباشي إلى جانب إنكار الجهات العدلية علمها بفض الاعتصام الحاجة إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية محايدة لإثبات وكشف المتورطين الحقيقيين
لكن قوى الحرية والتغيير وغيرها من الكيانات السياسية التي تجمد حتى الآن الحوار مع المجلس العسكري لا تثق في تلك التحقيقات وتطالب بتحقيقات دولية محايدة ومحاسبة شفافة تطال مرتكبي المجزرة، لكن المجلس يكابد لمنع تدويل القضية خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى محاسبة دولية للضالعين، ويرفض نقل مفاوضات تقاسم السلطة مع المدنيين إلى أديس أبابا.
وتزداد الحاجة إلى التحقيق الدولي بعد إيحاء الفريق شمس الدين بمشاركة ومباركة رئيسي القضاء والنيابة العامة على الخطة التي بذلا لها النصح والرأي بما يعني تورطهما ضمنًا في المجزرة بحسب رواية كباشي التي قال فيها نصًا: “شاكرين رئيس القضاء والنائب العام اللذين قدما لنا الاستشارات اللازمة ثم خرجا”.
كذلك عززت اعترافات الفريق كباشي إلى جانب إنكار الجهات العدلية علمها بفض الاعتصام الحاجة إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية محايدة لإثبات وكشف المتورطين الحقيقيين ومعرفة خبايا ما جرى في الغرف المغلقة ومن خرج على الخطة بافتراض أنها لفض منطقة كولومبيا.
إحدى جلسات المفاوضات بين المجلس العسكري وقوى التغيير قبل توقفها
ورغم رفض المجلس العسكري، يتزايد الاتجاه الدولي للتدويل، فهناك سعي لإضفائه بعد تدخل إقليمي عبر وساطة إفريقية يقودها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، وقد حظيت بدعم دولي من واشنطن، ودعم إقليمي من جانب مبعوث الاتحاد الإفريقي إلى السودان محمد الحسن لبات، الذي أعلن تشكيل فريق من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والترويكا والدول دائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي لدعم الوساطة الإثيوبية بين تحالف قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري.
الأمر أصبح دوليًا فعلاً، فقد أدانت جهات عديدة إفريقية ودولية فض الاعتصام والعنف المتعمد الذي صاحب ذلك، وتحدث مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية تيبور ناغي الذي زار الخرطوم مؤخرًا عن الثقة المفقودة، وأدان استخدام العسكريين الرصاص الحي لفض اعتصام الثوار أمام القيادة العامة للجيش في الخرطوم.
أمَّا جامعة الدول العربية فقد كانت آخر الراكبين في قطار الوساطات والتسويات الإقليمية والدولية، إذ من المقرر أن يزور الأمين العام للجامعة أحمد أبو الغيط، السودان اليوم الأحد، وسط مخاوف من أن تحمل الجامعة العربية في جعبتها الأجندة السعودية الإماراتية، خاصة في ظل الضغوط التي تُمارس على المجلس العسكري وعدم وجود أي نصير من أي منظمة إقليمية.
هذا المشهد من فوضى الأجندة الوطنية بلاعبيها الإقليميين والدوليين يكاد يكون نقيضًا لما نادت به الثورة السودانية من الحرية والسلام والعادلة، وهنا سيسأل سائل وهو محق في سؤاله: لماذا كانت الثورة إذا كان حصادها قتل وسحل وديكتاتورية أخرى؟