أطلق عليه المصريون “جوهرة الفن” فيما وصفه علماء الفن الهندسي وأصحاب الحرف اليدوية بـ ” الفن الراقي” كونه الواجهة التي تزين كافة أبواب ونوافذ وشرفات مصر المحروسة، يتساوى في ذلك المدن والأحياء والأزقة، فاستطاع في وقت قصير أن يملئ السمع والبصر
فن الأرابيسك.. ذلك العمل المبدع الذي يعتمد على سلسلة متكررة من الأشكال الهندسية الخشبية تتعانق فيما بينها بأسلوب العاشق والمعشوق، وعادة ما يتم تطعيمها ببعض الزخارف النباتية المحفورة من الزهور، والأوراق، والثمار، ليكسر جمود القطعة الخشبية، ويضفي عليها بعضا من الحياة والتفاؤل والمرح.
وبعد سنوات طويلة تربع فيها هذا الفن على عرش الصناعات والحرف المصرية الأصيلة، فرض نفسه كواحد من أرقى الفنون التي تسابق عليها غير المصريين لاحترافها، وكانت مصدر جذب غير طبيعي للسائحين من مختلف دول العالم، باتت اليوم تبحث عن منقذ لها، بعدما أضحت أسيرة الفراش داخل غرف الإنعاش تلفظ أنفاسها الأخيرة.
تاريخ من الريادة
عرفت مصر فن الأرابيسك مع دخول الفاطميين (921م–948م)، حيث الاعتماد على كميات كبيرة من الأخشاب كانت تستخدم في الحروب التي خاضتها الدولة الحديثة آنذاك، إذ كان يعد الخشب عماد صناعة الأسلحة في هذا التوقيت، وما يتبقى منه من القطع الصغيرة كان يتم إرساله إلى الحرفيين والصناع لاستخدامه في أغراض أخرى.
وكان النجارون يبدعون في توظيف تلك القطع في إخراج أشكال هندسية بديعة، أستخدمت لتزيين النوافذ والمشربيات وأبواب المنازل، حتى باتت سمة بارزة في شتى البيوت المصرية، كما برع ممتهني هذا الفن في استخدام الزخارف النباتية الطبيعية من أفرع وأوراق وسيقان وزهور، وتم تداخلها مع الكتابات الموجود فأطلق عليها “الكتابات المشجرة”، ليصبح الأرابيسك جزء لا يتجزأ من الخط العربي، وهو ما يفسر وجود الكثير من الآيات الكاملة من القرآن الكريم تكلل بقطع الأرابيسك، ليكتمل بذلك وحدة هذا الفن، ليصبح رمزا لنقل روحانيات القرآن عبر التاريخ.
استطاع هذا النوع من الفنون أن يحقق شهرة قلما حققها فن آخر، فبات قبلة الباحثين عن التميز والإبداع، داخل مصر وخارجها
وفي العصر العباسي الثاني (861-1258م) شهد الفن نقلة نوعية ساهمت بشكل كبير في تعزيز مكانته، إذ تم الاستعانة بعلوم أفلاطون وأقليدس وإبرهما جوبتا، الأمر الذي ساهم في زيادة المعرفة بالأشكال الهندسية والحسابات، ومن ثم وجد الأرابيسك فرصته التاريخية لترسيخ أركانه مستخدما في ذلك تطورات العلم المختلفة.
ومع بدايات القرن التاسع عشر، وفي العصر العثماني، أُعجب سلاطين الدولة العثمانية آنذاك بهذا النوع من الفن، فاستعانوا به في تزيين قصورهم، ومن ثم نقلوها إلى بلاد الشام والأناضول، وغيرها من البلاد التي فتحها العثمانيون، فلم يتوقف عند تزيين القصور والمنازل وفقط ، بل نظرا لدقة وبراعة وجمال هذا الفن اقتحم عالم المساجد، فقاموا بتزيين القباب والمنابر والنوافذ، الأمر الذي كان البوابة الأكثر اتساعا للربط بين الأرابيسك والعالم الإسلامي.
شهرة واسعة حققتها صناعة الأرابيسك في مصر
مصدر جذب سياحي
استطاع هذا النوع من الفنون أن يحقق شهرة قلما حققها فن آخر، فبات قبلة الباحثين عن التميز والإبداع، داخل مصر وخارجها، ونجح ممتهنوه في يعززوه مكانتهم مجتمعيا، حتى بات يشار لهم بالبنان لما عُرف عنهم من مهارة فائقة في اليد وذوق رفيع في الأداء.
لم تأسر مشغولات الأرابيسك المصريين وفقط، بل كانت مقصدًا رئيسيًا للسائح الأجنبي، لاسيما الأوروبي، وجولة واحدة إلى منطقة خان الخليجي وحي الجمالية بوسط القاهرة تكفي للوقوف على حجم ومكانة هذا الفن الذي فرض نفسه بقوة، فكان مصدر دخل قومي وهام للالآف من العاملين فيه.
رغم هذا التاريخ الطويل لفن الأرابيسك والشهرة الفائقة التي حققها على مدار عقود طويلة مضت إلا أنه خلال السنوات الأحيرة يعاني من شبح الانقراض
ودوما ما كان يجذب “التصديف الهندسي” الذي يستخدم قطع صغيرة من الأصداف في صناعة الأرابيسك لتزيين العلب أنظار السائح الغربي، هذا السائح الذي يقدر الجهد المبذول والاحترافية في إخراج تلك القطع بهذه الكيفية الدقيقية للغاية، الأمر الذي كان يدفعه لشراءها أيا كان ثمنها.
وظلت “المشربية” وهي عبارة عن نافذة كبيرة ذو رف توضع في مكان عالي من المنزل ،صنعت خصيصا لجرار الماء المصنوعة من الفخار “القلل” لتبريدها، و”المشرفية” التي تأخذ شكل شباك يطل على الشارع، له باب قلاب، والتي تعد أحد أبرز المنتوجات الأرابيسكية، سمة بارزة للبيوت المصرية في العديد من الأفلام والأعمال الفنية، المصرية والعربية والأجنبية.
تخوفات بشأن اندثار المهنة
شبح الانقراض
ورغم هذا التاريخ الطويل لفن الأرابيسك والشهرة الفائقة التي حققها على مدار عقود طويلة مضت إلا أنه خلال السنوات الأحيرة يعاني من شبح الانقراض، إذ بدأ يعاني من إهمال وتجاهل شديدين، على المستوى الرسمي والشعبي، الأمر الذي يهدد واحدة من أكثر الحرف المصرية تاريخًا.
العاملون في هذا المجال عبروا عن تخوفهم من اندثار حرفتهم لاسيما بعد تقلص عدد ممتهنيها بصورة مقلقة، تعززت تلك المخاوف مع زيادة الضرائب المفرطة على الخامات ودخول الآلة في مراحل التصنيع، لتفقد المنتج مذاقه اليدوي الخاص، الذي يجعل كل قطعة متفردة بذاتها، تعكس ذوق وفن الصانع، لتتحول القطع إلى قوالب متكررة، ليس بها أي نوع من أنواع الإبداع والإبتكار المتفرد.
من أكثر القرى التي تميزت بهذا الفن، قرية العجميين بمركز أبشواي التابعة لمحافظة الفيوم، إلا أن الوضع قد تغير الأن بصورة كبيرة، وهو ما أشار إليه محروس سيد محمد (46 سنة) الذي أشار إلى أنه القرية كانت تضم مئات الورش العاملة في صناعة «الأرابيسك»، لم يبقى منها سوى 5 أسر فقط.
محروس أضاف أن ما يقرب من 5 آلاف «صنايعي» كانوا يعملون جنبا إلى جنب في هذه المهنة، تقلص عددهم حتى وصل إلى 25 فقط يعملون في الـ 5 ورش المتبقية بنظام الأجر اليومي وبالإنتاج، كاشفًا أن كلفة المتر الواحد في الأرابيسك لا تتعدى 40 جنيها فقط، وأن أفضل صنايعي لا يتمكن سوى من صناعة متر ونصف في اليوم، ما يعني أن أجرته لا تزيد عن 60 جنيها.
وأشار «لو حدث لأحد فينا مكروه لا يجد قوت يومه لأننا غير مؤمن علينا ولا لنا معاشات»، مرجعا إغلاق الورش في القرية لعدم جدوى الصناعة في الوقت الحالي، وضعف الإقبال على شراء الأرابيسك الذي كان يتهافت عليه صناع الموبيليا وكان يتم تصديره في الخارج.
فيما طالب أحمد عبد العزيز «أحد صناع الأرابيسك» الدولة بكافة أجهزتها إلى الاهتمام بهذه الصناعة قبل أن تنقرض بصورة نهائية، مناشدا الجميع بإعادة النظر في أليات التسويق المختلفة التي من الممكن أن تعيد هذا الفن إلى سابق عهده، مشيرًا أن هذا النوع من الفنون لا يتقنه الكثير، ورغم ذلك ذاع صيته في مختلف أنحاء العالم.