ترجمة وتحرير فريق نون بوست
كان كارل راينر، البالغ من العمر 97 سنة، من أبرز مشاهير الكوميديا لأكثر من 70 سنة، وهو المفضل دائمًا لدى جيل طفرة المواليد الذين نشأوا مع سيد سيزر وديك فان دايك، لكن الأجيال الشابة أيضا أصبحت تقدّر موهبته الفريدة. لقد كان ممثلًا وكاتب سيناريو ومخرجًا، بالإضافة إلى أنه رجل أسطوري يعتقد أن الفكاهة أثّرت في حياته وساهمت في إطالة عمره.
حيال هذا الشأن، قال راينر: “لا شك في أن الضحك هو أولويتي الأولى. وأنا كل ليلة أشاهد شيئا يجعلني أضحك. وعندما أستيقظ أدغدغ نفسي بينما لا أزال في السرير. ليس هناك متعة أكبر من الإشارة إلى شيء والابتسام والضحك. لا أعتقد أن هناك أي شيء أكثر أهمية من القدرة على الضحك، فعندما تضحك، تصبح الحياة ذات قيمة، وهذا يجعلني أستمر في التقدّم ويبقيني شابا”.
لا يمكنك أن تضحك إلا إذا كنت تشعر بالرضا بما يكفي للضحك”.
في سنة 2017، استضاف راينر فيلما وثائقيا من قناة “إتش بي أو” بعنوان “إن لم يكن اسمك ضمن قائمة “أوبيت” للوفيات، فلتتناول وجبة الإفطار”. ويضم هذا الفيلم عددًا من الأشخاص الذين تجاوزوا عقدهم التاسع، على غرار بروكس الذي سيبلغ 93 سنة هذا الشهر، وفان دايك البالغ من العمر 93 سنة، والمنتج التلفزيوني نورمان لير الذي سيبلغ 97 سنة الشهر القادم، إلى جانب الممثلة بيتي وايت البالغة من العمر 97 سنة. ويعتقد راينر أن تمتّعهم جميعا بصحّة جيدة هو السبب في أنهم ما زالوا يتمتعون بالفكاهة ويحافظون على خفّة ظلّهم. كما أضاف أنه “لا يمكنك أن تضحك إلا إذا كنت تشعر بالرضا بما يكفي للضحك”.
لا شك في صحة ذلك، لكن الخبراء الذين يدرسون آثار الفكاهة يقولون إن الأمر يعمل في كلا الاتجاهين. وقد يكون من السهل أن تضحك عندما تكون في صحة جيدة، لكن الدراسات تشير إلى أن الضحك يمكن أن يحسّن الصحة وربما يمنع الإصابة بالأمراض أيضا، وبالتالي يساهم في إطالة العمر. بالإضافة إلى ذلك، يخفف الضحك من التوتر ويساعد على التغلب على المرض والألم.
قال سفين سفباك، الأستاذ الفخري في الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا الذي درس الآثار الصحية المترتبة عن روح الدعابة لأكثر من 50 سنة: “إن روح الدعابة الودية سوف تمنحكم علاقات اجتماعية أفضل بالإضافة إلى تعليمكم مهارات التأقلم وتقليل خطر الموت المبكر. ويعمل حسّ الدعابة مثل ممتص الصدمات في السيارة، إذ يمتصّ الصدمات العقلية في حياتنا اليومية لمساعدتنا على التعامل بشكل أفضل مع الشعور بالإحباط والانزعاج والغضب”.
عندما يكون الناس مضحكين، فإنهم يجذبون أشخاصًا آخرين، وبالتالي إن هذا الترابط الاجتماعي هو ما يساعد على إطالة العمر
قام نورمان كازينز، الصحفي السياسي والمؤلف والمحرر منذ فترة طويلة لمجلة “ساترداي ريفيو”، بتبسيط خصائص الشفاء التي يقدّمها الضحك في كتابه الصادر سنة 1979، بعنوان “تشريح المرض من وجهة نظر المريض: ملاحظات حول الشفاء والتجدّد”. وفي هذا الكتاب، أكّد كازينز أن نوبات الضحك التي نفتعلها بأنفسنا (والجرعات الوريدية الضخمة من الفيتامين سي) كانت السبب في إطالة عمره بعد تشخيص إصابته بالتهاب الفقرات التصلبي، وهو شكل من أشكال التهاب المفاصل المزمن، علما بأن كازينز عاش لسنوات طويلة أكثر مما توقعه أطباؤه في البداية.
على الرغم من أن التجربة الي عاشها كازينز لم تكن تجربة علمية محكمة التنفيذ، إلا أن الأدلة تشير إلى أنه كان يحاول اكتشاف شيء ما. وفي هذا الصدد، أفاد أستاذ علم طبّ الأورام في كلية مايو كلينيك للطب والعلوم، إدوارد كريغان بأنه: “عندما يكون الناس مضحكين، فإنهم يجذبون أشخاصًا آخرين، وبالتالي إن هذا الترابط الاجتماعي هو ما يساعد على إطالة العمر. وبالطبع لا أحد يرغب في التواجد برفقة الأشخاص السلبيين والمتذمّرين، فنحن ننجذب في الواقع إلى الأشخاص المضحكين”.
من هذا المنطلق، يبدو أن تلك الفكرة المبتذلة التي تفيد بأن الضحك هو أفضل دواء، كما هو الحال مع العديد من الأفكار الأخرى، تستند في الواقع إلى حقيقة فعليّة. ففي الحقيقة، تبين أن الضحك يخلف العديد من الآثار النفسية الواضحة، ولكنه قد يحقق أيضا فوائد فزيولوجية، كما أنه مجاني ولا يخلّف أي آثار جانبية سيئة.
وفقًا لمايو كلينيك، يحفّز الضحك أعضاء الجسم عن طريق زيادة كميّة الأكسجين التي تدخل القلب والرئتين والعضلات، كما يحفّز الدماغ على إطلاق المزيد من الإندورفين. كما أنه يساعد الأشخاص على التعامل مع التوتر عن طريق تخفيف الشعور بالإجهاد، وإراحة العضلات وتخفيض ضغط الدم. إلى جانب ذلك، يساعد الضحك على تخفيف الألم وتحسين المزاج، وتقوية جهاز المناعة.
إن الضحك يستطيع أن يصرف انتباه المرضى عن الألم ويمنحهم إحساسا بالسيطرة
في سياق متصل، أضاف كريغان قائلا: “عندما نضحك، ينخفض مستوى هرمون الكورتيزول السيء الذي يرتفع عندما نشعر بالتوتر ويؤثّر على أجزاء الدماغ التي تتحكّم في العواطف. وعندما يحدث ذلك، فإن صحّة الجهاز المناعي تتدهور ويصاب الجسم بالعديد من الالتهابات، التي تسبّب أمراض القلب والسرطان والخرف. كما يتداخل الكورتيزول مع عمل الجهاز المناعي، مما يعرضنا لخطر الإصابة بهذه الأمراض الثلاثة”.
أشار الخبراء إلى أن الضحك يستطيع أن يصرف انتباه المرضى عن الألم ويمنحهم إحساسا بالسيطرة في حال شعروا بالعجز، وغالبًا ما يكون المرضى أنفسهم هم الذين يلقون النكات. وأوضح كريغان أن “بعض أطرف المرضى الذين قابلهم على الإطلاق كانوا مصابين بالسرطان أو يعانون من إدمان الكحول”. فعلى سبيل المثال، حافظت مريضة مصابة بسرطان الثدي، التي عالجها كريغان لمدة 15 سنة، على حسّ الدعابة لديها، على الرغم من اقترابها من الموت. وخلال زيارتها الأخيرة، سألت الطبيب كم من الوقت تبقى لها.
ذكر كريغان أنه عندما سألها عن سبب اهتمامها بالوقت المتبقي لها، أجابت قائلة: “يمكنني حينها إفراغ جميع البطاقات الائتمانية الخاصة بزوجي، حيث لن يتبقى شيء للزوجة الثانية”. ويعتقد كريغان أنها حصلت على كل تلك السنوات الإضافيّة لأنها كانت مضحكة”. وتوافق المديرة المؤقتة لمكتب النجاة من السرطان التابع للمعهد الوطني للسرطان، ديبورا ماير، على أن روح الدعابة تكون مفيدة أكثر عندما يتمتّع بها المريض، ويتشاركها مع المرضى الآخرين. وأضافت ماير أن “بعض الأشياء التي يقولها المرضى تكون مضحكة بشكل هيستيري، لكنّها لا تعرف ما إذا كانت الفكاهة تطيل العمر أم لا، إلا أنها تستطيع بالتأكيد جعل حياتك أفضل”.
تشير نتائج دراسة نرويجية واسعة النطاق استغرقت 15 سنة وشملت 53556 مشاركًا، أجراها سفباك وزملاؤه، إلى أن الفكاهة يمكن أن تؤخر أو تمنع بعض الأمراض التي تهدد الحياة. وكشف سفباك أن العلماء درسوا روح الدعابة لدى الأشخاص من خلال مسح صحي شمل العنصر الإدراكي، إذ “يُطلب من المشاركين تحديد قدرتهم على قول شيء مضحك خلال معظم المواقف”.
وأضاف وارن أنه لاحظ أن مرضى الزهايمر الذين تعاملوا مع المهرّجين “قد أصبحوا أكثر وعيا وإدراكا.
إن النساء اللاتي حقّقن درجات معرفية عالية انخفض لديهن خطر الوفاة المبكرة المنجرّة عن أمراض القلب والأوعية الدموية والأمراض المعدية. وبالنسبة للرجال الذين سجلوا درجات عالية من الناحية المعرفية، فقد قلّ لديهم خطر الوفاة المبكرة المنجرّة عن العدوى. في المقابل، لاحظت الدراسة أنه لم يكن للضحك أي تأثير على المصابين بالسرطان وأسباب الوفاة الأخرى، كما أن الفوائد تلاشت تدريجيا مع التقدم في السنّ واختفت بعد سن 85. وأشار سفباك إلى أن “هذا الأمر يعني أن التمتّع بحسّ الفكاهة لا يحميك من الموت في النهاية، إلا أنه يزيد من احتمال تمديد عمرك”.
يبدو أن الفكاهة تحفز الذكريات وتحسّن القدرات العقلية لدى كبار السن، خاصة المصابين بالخرف. وأفاد بيرني وارن، وهو أستاذ فخري في الفنون الدرامية بجامعة وندسور ومؤسس برنامج “فولز فور هيلث”، بأن الفوائد العلاجية لأسلوب “علاج المهرج” ناجحة بالنسبة للمرضى الأطفال المقيمين في المستشفيات، لكن هؤلاء الأطباء المهرّجين يساعدون الآن كبار السن أيضًا في المجمّعات السكنية. وفي الواقع، يزور المهرّجون كبار السن المقيمين مرتين أسبوعيًا ويستخدمون الكوميديا والموسيقى ورواية القصص وغيرها من التقنيات لإعادة إحياء الذكريات وتنشيط الاستجابة.
أورد وارن أنهم “لا يرتدون معطفًا أبيض أو سماعة الطبيب”، مثلما يفعلون مع الأطفال، وذلك لأنهم “سيزورون هذا الشخص في منزله، الذي قد يكون آخر منزل يحظى به على الإطلاق”. وأضاف وارن أنه لاحظ أن مرضى الزهايمر الذين تعاملوا مع المهرّجين “قد أصبحوا أكثر وعيا وإدراكا. وهناك أيضا أدلة سردية تشير إلى أن المهرّجين يساعدون بشكل كبير في الذاكرة واللغة والتواصل والوعي بالذات في الوقت الحاضر، كما أنهم يساعدون ذلك الشخص بطريقة ما، على استرجاع الذكريات التي ضاعت منه سابقا. فهم يعودون إلى فترة طفولتهم ويجمعون الذكريات، ثم يجلبونها إلى الوقت الحاضر”.
من هذا المنطلق، يعتقد معظم الخبراء أن فوائد الضحك تتحقق عندما يستمتع الناس بالفكاهة رفقة أشخاص آخرين يشبهونهم في التفكير. وفي هذا الصدد، قال سفباك: “إن روح الدعابة الخاصة بك مرتبطة بتجاربك الشخصية، مما يجعلها تتغير طوال حياتك. لذلك، إن أكثر الأماكن أمانًا لمشاركة الفكاهة هي التي تضمّ أشخاصا يشاركونك التجارب ذاتها”.
الشيء الأهم هو أنني لم آكل أبدًا أي طعام مقلي، كما أنني لم أحاول أبدا اللحاق بالحافلة، لأن هناك حافلة غيرها بالتأكيد
اختبر راينر حسّ الفكاهة لأوّل مرّة خلال طفولته عندما أخذه والداه المهاجران رفقة إخوته لمشاهدة أفلام باستر كيتون وماركس براذرز وتشارلي شابلن، وكثيرا ما استمعوا لبرامج الكوميديا الإذاعية في المنزل. وبدأ راينر حياته المهنية في خمسينيات القرن الماضي في مجال الكتابة والتمثيل في “سيزرز أور” و”يور شو أوف شووز”، وقام لاحقًا بكتابة “ذا ديك فان دايك شوو” والتمثيل فيه.
منذ أكثر من 60 سنة، بدأ راينر وبروكس في أداء وصلة كوميدية مبدعة في الحفلات، ومن ثمّ أقنعهم الممثل الكوميدي ستيف ألن بتسجيل هذا العمل. وقال راينر الذي كان يجري المقابلة: “رجل يبلغ من العمر 2000 سنة”، محاولا بذلك البحث في ذكريات الشخصية التي مثّلها بروكس، الذي يدّعي أنه عاش لمدة 2000 سنة. وفي مرحلة ما يطلب راينر من بروكس، الذي يتقمّص الشخصية القديمة، أن يكشف عن أسرار حياته الطويلة.
أجاب الرجل العجوز: “الشيء الأهم هو أنني لم آكل أبدًا أي طعام مقلي، كما أنني لم أحاول أبدا اللحاق بالحافلة، لأن هناك حافلة غيرها بالتأكيد”. ويحذّر بروكس الناس من ركوب السيارات الرياضية الإيطالية صغيرة الحجم، لا سيما الفيراري، ويحثهم على تناول الكثير من الفاكهة، وخاصة الخوخ، إذ يقول إن “الخوخ الفاسد جيد أيضا. وهو يفضّل تناول خوخ فاسد على أن يتناول ثمار البرقوق الطازجة”. واليوم، يقول راينر إنه يعتقد أنه كان يجدر بالرجل العجوز أن يضيف نصيحة أخرى إلى تلك القائمة، وهي “الضحك باستمرار، لأنه يساعد على العيش إلى الأبد”.
المصدر: صحيفة واشنطن بوست