تتفاوت السياسة الخارجية الإيرانية في مضامينها الرئيسة، إذ يتفاوت نمط السلوك الخارجي مع نمط التبادل التجاري، فهي تتبع سلوكًا معاديًا لبعض الوحدات الدولية، وفي الوقت نفسه تستمر في تبادلها التجاري والاقتصادي معها، مثلًا تتبع سلوكًا معاديًا تجاه دولة الإمارات العربية المتحدة، فهي لا تزال محتلة للجزر الإماراتية، في الوقت الذي تستمر فيه تجارتها معها.
ونجد أن سلوكها تجاه أمريكا اللاتينية والدائرة الأوروبية يقتصر على البُعد الدبلوماسي، أي يأخذ طابعًا رسميًا، بينما نجد سلوكها تجاه دول الخليج والعالم العربي، يأخذ طابعًا سريًا، لبناء تحالفات مع القوى غير الرسمية المعارضة للنظم السياسية في بلدانهم، وهكذا فهي تتبع سلوكًا تجاه العالم العربي مختلفًا تمامًا عما تتبعه مع دول أخرى.
إذ تمثل إيران للعالم العربي لا سيما دول الجوار منها، مشروعًا دينيًا أيديولوجيًا للهيمنة وبسط النفوذ وبث الشقاق الطائفي، لكنها بعيدًا عن دول الجوار تقدم وجهًا آخر للتعاون الاقتصادي والإستراتيجي، يقوم على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، فإيران للإمارات العربية المتحدة قوة احتلال عسكري رغم التبادل التجاري بينهما، وللعراق قوة احتلال سياسي وأمني، وللمملكة العربية السعودية خطر يهدد بالتقسيم والاضطراب على أسس طائفية، وفي حين أنها كانت تتعاون مع الاحتلال الأمريكي في العراق، فإنها كانت تدعم في نفس الوقت مقاومة حزب الله ضد العدوان الإسرائيلي في جنوب لبنان عام 2006، لكنها لدول أمريكا اللاتينية قوة مختلفة تمامًا.
منهجية السياسة الخارجية الإيرانية تنبع من خطين أساسيين: الأول يتممثل بالخط الذي يمثله التيار المحافظ المدعوم من القيادة الدينية، والثاني هو التيار الإصلاحي المدعوم من القيادة السياسية
معايير مزدوجة
إن المعايير المزدوجة في إدارة الإستراتيجية الإيرانية، لم تقتصر على جانب الأفعال والتدخلات الإيرانية العملية، وإنما برزت على مستوى الخطاب السياسي والإعلامي الإيراني أيضًا، وبالنظر للمواقف السياسية الخارجية الإيرانية نجد أن هناك توازيًا ومزاوجة في استخدام الخطاب الناعم والخطاب الصلب، ففي هذا المجال نجد أن راديو وتلفزيون العالم (سيدا وسيما) يعدان المصدر الرئيسي للمعلومات في إيران، وفي المقابل هناك وكالات إرنا ووكالة أنباء الطلبة الإيرانية، وبالتالي فإن بعضها قد تؤدي إلى اتخاذ مواقف متناقضة من السلطات الرسمية في إيرن.
وعند النظر إلى مواقف المسؤولين في السياسة الخارجية الإيرانية، فما الوكالات التي تظهر الوجه الناعم لهذه السياسة؟ وما الوكالات التي تظهر الوجه الصلب لهذه السياسة؟ وفي هذا المجال نتساءل: هل هناك حقًا وجهين متناقضين في السياسة الخارجية الإيرانية أم أنها من أشخاص غير مسؤولين؟
في الحقيقة عندما يتم النظر إلى منهجية السياسة الخارجية الإيرانية، نجد أنها تنبع من خطين أساسيين: الأول يمتمثل بالخط الذي يمثله التيار المحافظ المدعوم من القيادة الدينية، والثاني هو التيار الإصلاحي المدعوم من القيادة السياسية، والحكومة التنفيذية والوزارات التابعة لها ظلت تعمل بهذه الطريقة.
وعلى سبيل المثال فإن وكالات الأنباء كـ(إرنا وفارس) تعمل تحت إشراف الحكومة، في حين تعمل قناة العالم ووكالات الإذاعة والتليفزيون تحت إشراف المرشد الأعلى، أما أعضاء الخط الإصلاحي فيأخذون الأخبار المتعلقة بالتيار المحافظ من موقع (أسرار)، كما أن القيادة الدينية والحكومة الإيرانية كلتاهما مشغولتين بإدارة المواضيع الخاصة بالعلاقات السياسية الخارجية الإيرانية.
وباختصار فإن أعضاء مجلس المستشارين الخمس المصغر المرتبط مباشرة بالمرشد الأعلى الذي يضم: كمال خرازي وعلي أكبر ولايتي وعلي شمخاني ومحمد شريعتمداري ومحمد حسين تارامي، هو المسؤول عن رسم خريطة الإستراتيجية والسياسة الخارجية الإيرانية وتسليمها إلى خامنئي، ويعد علي أكبر ولايتي من أكثر الأشخاص المؤثرين داخل هذه المجموعة، كونه السياسي الإيراني الأول والوحيد الذي بقي في منصبه وزيرًا للخارجية 16 عامًا.
في كثير من الأوقات يتم إجبار أعضاء الحكومة من التيار الإصلاحي على تعليق أو الاحتفاظ بوجهات نظرهم فيما يتعلق بالسياسة الخارجية
رسم السياسة الخارجية
ونتيجة لهذا الوضع فإن السياسة الخارجية الإيرانية دائمًا ما تعرض الحل الصعب، ولهذه الأسباب نجد أن السياسة الخارجية الإيرانية عادة ما تعود إلى اعتماد المعايير المزدوجة، وهذا الوضع لم يأت من محض الصدفة، بل هو حالة مؤسسية ودستورية، لأن الدستور الإيراني في المادة “44” والمادة “110” الفقرة الأولى، أعطت القيادة الدينية الحق بـ(وضع الخطوط العامة) للسياسة الخارجية، كما أنها أعطت القيادة الدينية الحق في مواءمة السياسة الداخلية مع السياسة الخارجية والتدخل بها، والغرض من ذلك هو إجبار الحكومة على السير بموجب هذه الإستراتيجية المصممة بطريقة مناسبة، وبالتالي فإن هذا التخبط في التصريحات مرده عدم وجود أشخاص محددين ومخططين لهذه الإستراتيجيات كولايتي.
والسؤال المهم الذي يبرز هنا هو: ما أساس هذه التناقضات الناتجة عن مواقف إيران؟ هل هي نابعة من تصريحات المؤسسات/الأشخاص التابعين للمؤسسة الدينية أم التصريحات الناتجة عن السلطات الرسمية الحكومية؟ فمن الناحية القانونية والبيروقراطية، فإن السلطات الحكومية (وزارة الخارجية) هي الجهة المسؤولة عن تسيير السياسة الخارجية، ولهذه الأسباب فإن وزارة الخارجية الإيرانية هي الجهة المعنية بإدارة الشؤون الخارجية، ولكن مع ذلك فإنه في حالة إحداث تغيير إستراتيجي أو تغيير الأسس التي تقوم عليها هذه السياسة، يشترط عليها مناقشة القيادة الدينية وإقناعها.
كما أن القيادة الدينية يمكنها رسم السياسة الخارجية أو الإستراتيجية وتحدد الأدوات المستخدمة فيها خارج إطار الحكومة، وفي كثير من الأوقات يتم إجبار أعضاء الحكومة من التيار الإصلاحي على تعليق أو الاحتفاظ بوجهات نظرهم فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، ولذلك فإنه بدلًا من أن يكون الناطق الرسمي للحكومة الإيرانية هو المعبر الحقيقي عن السياسة الخارجية الإيرانية أو حتى الأشخاص الدبلوماسيين الرسميين، فإن خامنئي يعين الأشخاص أو المؤسسات للإدلاء بالتصريحات أو تحديد الإجراءات الواجب اتباعها، ومن هذه المؤسسات الحرس الثوري الإيراني أو المجالس المكلفة بإدارة العلاقات الخارجية ورصد حركات الأشخاص في المؤسسات التابعة لها، وهؤلاء يلعبون دورًا حقيقيًا في توجيه السياسة الخارجية الإيرانية، ولهذه الأسباب فإنه من أجل تعديل مسار السياسة الخارجية، لا بد من تعديل القانون أو الدستور.
المرشد الإيراني أوجد منصبًا موازيًا لمنصب ظريف، وهو منصب مستشار المرشد الأعلى للشؤون الدولية الذي يتولاه علي أكبر ولايتي
مناصب موازية
ومن خلال تحليل السياسة الخارجية التي يعتمدها التيار المحافظ يبرز دور المرشد الأعلى، وعلى الجانب الآخر عندما يتم تحليل السياسة التي يعتمدها التيار الإصلاحي يبرز دور الرأي العام الإيراني، ولهذه الأسباب فإنه وبشكل عام نجد هذه الثنائية “المحافظ والإصلاحي” موجودة في السياسة والإعلام، وحتى في طريقة التفكير، وفي إدارة السياسة والإستراتيجية.
ومن أجل فهم أكثر لهذين الخطين، فإنه لا بد من متابعتهما بكل قطاعات الدولة ونحتاج لمعرفة تفاصيل جيدة عنهم، وعلاوة على ما تم ذكره أعلاه فإن الكلمة الأخيرة فيما يتعلق بالإستراتيجية والسياسة الخارجية الإيرانية تعود للمرشد الأعلى، وخصوصًا في ظل الظروف الإقليمية الراهنة، فإنه من الطبيعي أن يطغى الخط الذي يمثله المرشد الأعلى على السياسة الخارجية، وفي الحقيقة فإنه منذ البداية لم توجد هوية حقيقية للتيار الإصلاحي فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، على الرغم من النجاحات التي حققوها في المفاوضات النووية وفوز روحاني بولاية ثانية، بل إن التيار المحافظ كان هو الأكثر تكنوقراطية في عهد روحاني.
وفي السنوات الأخيرة أثار التيار الإصلاحي استياء الرأي العام بعدم قدرته على العودة من بعيد، كما أن روحاني أصبح خاضعًا لضغوط خارجية كبيرة، ستضع عقبات كبيرة أمام عودة إيران إلى الساحة الإقليمية، فمرحلة ما بعد التحشيد العسكري الأمريكي في منطقة الخليج العربي ومضيق هرمز، ستفرض تداعيات كبيرة على السياسات الإيرانية داخليًا وخارجيًا التي تعاني اليوم من عزلة دولية كبيرة.
إن الازدوجية الواضحة في إدارة السياسة الخارجية أثرت بشكل كبير على مدى التعاطي مع إيران دوليًا، وهو ما ظهر واضحًا بعد الاستقالة المؤقتة لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الذي عبر صراحة عن مدى التهميش الذي يعانيه من المؤسسة الدينية في إيران، فإلى جانب كون جواد ظريف وزير خارجية إيران، نجد أن المرشد الإيراني أوجد منصبًا موازيًا لمنصب ظريف، وهو منصب مستشار المرشد الأعلى للشؤون الدولية الذي يتولاه علي أكبر ولايتي الذي يقوم بزيارات رسمية للعديد من الدول، كما أنه يتمتع بحرية الاطلاع على المعلومات السرية التي تخص الملفات الإيرانية الخارجية، ولا يتمكن ظريف نفسه من الاطلاع عليها.
وعلى الجانب الآخر أيضًا نجد أن هناك تضارب واضح في البيانات الصحفية التي تصدر عن الناطق باسم الخارجية الإيرانية وتلك التي تصدر عن قيادات الحرس الثوري، فبينما يتقيد الأول بالسياقات الرسمية والدبلوماسية في تصريحاته، نجد الثاني يعتمد خطابات تصعيدية وتهديدية للدول الأخرى، وبالمجمل فإن هذا التضارب الحاصل في سلوكيات إيران الخطابية والعملية، أوقعها اليوم في إشكالات كبيرة مع المجتمع الدولي.